محمد براريFollow @Mohamed_Brary
كنت من سعداء الحظ الذين أتيحت لهم الفرصة لاستكشاف ملامح سيناء العزيزة، وكان منها زيارة منطقة “سانت كاترين” وما تشتمله من صعود جبل موسى.
ما إن نشرت هذه الصور – كعادتنا هذه الايام بإخبار العالم كله بما نحن فاعلون – حتى انهالت التعليقات من عينة “أيوة يا سيدي لاعبة معاك .. نفسي أعمل اللي بتعملوه ده”، والذين بالضرورة يتبعهم ردود منا “دي أقل حاجة عندنا”. لكن هذه المرة بالذات لم أستطع أن أرد هكذا. هذه التجربة – صعود الجبل أقصد – دعونا نقول إنها كانت .. “قوية”. هل تعرف هذه اللحظات التي يتوقف عندها الزمن وتخرج من نطاقك وتُمنح رؤية ثلاثية الأبعاد؟ نعم أقصد لحظات التجلي النادرة التي تصيب الإنسان بعد تجربة شاقة مريرة هذه تجربتي مع الجبل.
لم يدرك المعلقون أنه قبل التقاط هذه الصور احتجنا إلى ثلاث ساعات في ظلام حالك وبرد قارس لنصعد أكثر من ألفين متر و750 درجة حتى نصل إلى القمة وما يقرب من ساعتين أخريتين لنهبطهم تحت أشعة الشمس المُلحة. لم أستطع تجاهل مدى تقارب هذا الموقف بنظرتنا لحياة اﻵخرين. دائمًا ما ننظر لخط النهاية ونتعلق بصورة استلام الجائزة. ونغمض أعيننا ونتمنى بكل قوة أن تتبدل أماكننا. فإن كنت تعتقد أن من تغبطه اليوم لركوبه سيارة فارهة أو لارتدائها فستانًا يظهر جسدها الرشيق، أن حياتهم سلسلة من لقطات الإنستجرام الباهرة فأنت – وأعتذر لهذا – ساذج سذاجة من يعتقد في وجود سعادة مجانية.
لا بد أن تثق في أن كل “صورة” رائعة منمقة، تكون لها “صور” مقابلة تحكي معاناة الصعود، لكن هذه الصور لن تجد حظها من النشر على وسائل التواصل الاجتماعي. سأعرض عليكم ملامح من الجانب اﻵخر، بعض صور الصعود والهبوط، ستلاحظون الاختلاف.
معظم الناس لن يبوحون بتفاصيل مسيرتهم، فأغلبهم يصف جرحًا أو يحوي إهانة أو معبأ بشقاء أو ملطخ ببؤس؛ فطريق الصعود طويل وليس ممهدًا كما يزعمون، أحجار صغيرة غير متساوية وأتربة تتنافس لتعثرك، وجِمال تسير فوقك، وظروف جوية في الأغلب لا تساعدك، قد ينير القمر دربك فتجد أنك على بعد خطوة من السقوط للهاوية، أو يستحيل الطريق ظلاما فلا ترى موضع قدمك. طريق فيه من العوائق ما يشجع على الاستسلام لا المواصلة. طريق لن يكمله إلا من استعد وأحاط نفسه بمن وما يشجعه على النجاح.
عند الاستعداد لصعود الجبل يوجه الناس لك كافة أنواع النصائح. نصيحة صديقنا كانت بجلب الكثير من اﻷطعمة الغنية بالطاقة لتساعدنا في مهمتنا الشاقة. على ما يبدو أن جسدي يحتوي على خزين من الطاقة ما يكفي، ولكن كانت المشكلة في نقص الهواء!
هذا ما تأكدت منه بعد انقطاع أنفاسي قبيل أول استراحة، حيث توقفت تمامًا عن الحديث واكتفيت بالإشارات، لا أدري إن استهلكت بضع ذرات الأكسجين في نطق كلمة هل سأعيش ﻷسمع الرد أم لا .. نعم لهذا القدر من السوء. هذه النصائح ذكرتني بالمقالات من نوعية “المليونير فلان يكشف سر كيف تصنع أول مليون” أو “كيف تصبح سعيدًا في خمس خطوات”، تلك الوصفات السحرية التي لا تعمل إلا نادرًا. السبب أن كلًّا منا يختلف عن اﻵخر، كل منا مجهز بمهارات وقدرات مختلفة ومتفاوتة. ما يجب أن تنوه إليه هذه المقالات أن هذا ما كان ينقص أو يعيب الكاتب، وبتغلبه عليه صار نجاحه “هو” حقيقة بمساعدة بقية العوامل التي قد لا يدرك أنها ليست متاحة للآخرين كما هي متاحة له. استعدادي كمصاب بحساسية في الصدر كان يجب أن يختلف عن شاب رياضي معتاد على بذل المجهود.
في رحلة الحياة، في رحلة الصعود، ستلتقي بأناس قد لا يجمعك بهم إلا مشاركة الدرب: المهيأ أكثر منك لهذه المهمة؛ منهم من سيساعدك ويحمل عنك أثقالك إن تعبت، ومنهم من سيدفعك عن طريقه ليمر هو مسرعًا. الأقل منك حظًّا؛ وستجد نفسك أمام اتخاذ قرار بالمساعدة أو التجاهل. الملهمون؛ سيدة فوق السبعين من عمرها وتستند على عصا وتسير بلا هوادة، أو من يتعثر ويقاوم ويواصل التقدم. المنعمون؛ من حصلوا على امتيازات واضحة ليختصروا الطريق، من تكلف وركب الجمل وسار فوق رؤوس السائرين، وفر على نفسه مشقة المسير صحيح؟ ولكن هل ركبت الجمل من قبل؟
هل صعدت به على طريق وعر على ارتفاع أكثر من ألف متر؟ تذكر أنه لا يوجد شيء مجاني. المحيطون بك؛ سيكون لهم أبلغ اﻷثر، منهم من ينطبق عليه وصف “عبلة كامل” سيمطرك بوابل من النحنحة والكفران بالذات ستجعل القفز إلى سفح الجبل حلًّا مغريًّا، ومنهم من سيؤمن بك ويشجعك، هؤلاء يدفعونك للتقدم دفعًا ويجعلون الاستسلام مستحيلًا، حتى وإن كان خجلاً منهم بعد ما قدموه لك.
وصلنا! انظر إلى هذا المنظر الرائع! يا إلهي ما أجمل الشروق! فلنأخذ صورًا تذكارية هنا وهناك … وهناك أيضًا! ماذا بعد؟ هيا سنهبط! ما إن تجتمع باﻵخرين ممن لم يكملوا الطريق، فتحكي لهم عما رأيت من مناظر خلابة وتشاركهم الصور. فيشاركونك هم أيضًا صورهم! مع الجبال، ومع الشروق، ومع مشروب القهوة الساخن والحلويات المختلفة! وجلسة السمر تحت النجوم! ما هذا الهراء؟ لماذا إذًا كل هذا المجهود والتعب إذاً؟
لا تقع في هذا الفخ! لا تستهدف القمم الزائفة، فهي كقمة الجبل ما إن صعدتها لن تجد أمامك إلا الهبوط مرة أخرى!
مجتمعنا يجعلنا نلهث وراء سراب القمم الزائفة: أعلى مجموع في الثانوية العامة، الشهادة الجامعية، الوظيفة، الشقة، الزواج، الطفل، طفل آخر، … إلخ. وفي كل مرة نصل إلى أي من هذه القمم، نجد أنفسنا نهبط هبوطًا مدويًا، وندور في ساقية أخرى ولا نشعر بشيء. القمم الحقيقية أكثر استدامة من هذا، القمة أن تعرف مهاراتك وتنميها لا أن تتحصل على أعلى مجموع في الثانوية العامة، القمة أن تختبر وتسافر وتحتك بالمختلفين عنك لا أن تحصل على الشهادة الجامعية، القمة أن تعمل عملا مناسبًا لطموحاتك ويحقق ذاتك لا أن تحصل على وظيفة، القمة أن تشارك حبيبتك في بناء حياتكما معًا لا أن تقايض شقة بفتاة من أهلها. القمة كانت أن تنتصر على نفسك وتدفعها للوصول لأقصى طاقتها لا لتأخذ صورة على قمة جبل موسى.
الخلاصة:
- المرة القادمة التي تجد قول “تلاقي ‘والدتك’ اللي جايباهالك” مغريًا، حاول أن تصرفه.
- تتبع مسارات النجاح لتتعلم منها لا لتنقلها، فقط ما يناسب إمكانياتك وقدراتك.
- اختيار رفقاء الطريق له عامل الحسم في نتيجة المسيرة.
- عدم التركيز على صورة “النجاح”، فقد يكون العمل للوصول إليها هو النجاح ذاته وطريق تحقيقه هو طريق السعادة الحقيقي.
وفي النهاية لا تجعل كلامي هذا يثنيك عن تجربة صعود الجبل، لا أضمن لك الراحة فهي مغامرة بكل تأكيد، ولكن أضمن لك أنك ستتعلم أشياء جديدة: عن نفسك، وعن اﻵخرين، وعن الحياة نفسها!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست