مدينة جدَّة: عاصمة المملكة الاقتصادية والسياحية، والتاريخية أيضًا

آخر تحديث 2016-01-01 00:00:00 - المصدر: ساسة بوست

جولة خلف أسوار جدة القديمة

“أرض الرخاء والشدة”، أو كما يحب آخرون أن يطلقوا عليها اسم “عروس البحر الأحمر”، وإلى آخر ذلك من الألقاب المتعددة التي تدل في النهاية على بقعة جغرافية محددة المعالم وهي مدينة جدة، العاصمة الاقتصادية والسياحية للسعودية.

وتتصدر صور المدينة اليوم ناطحات السحاب، ومقرات البنوك العالمية، وميناءها البحري التجاري، ولكن على الجانب الآخر هناك صورة مهمة للغاية ينبغي إبرازها لتعكس تاريخ هذه المدينة الممتد لما يقرب من 3000 سنة.

وحدثت أهم نقطة تحول في تاريخ جدة في عصر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، عندما اتخذها ميناءً لمكة المكرمة عام 26 هـ/ 647 م، ومن بعدها اكتسبت المدينة البعد التاريخي الإسلامي، الذي جعلها واحدة من أهم المدن الواقعة على سواحل البحر الأحمر، وبوابة للحرمين الشريفين.

وفي هذا التقرير سنأخذكم في جولة في جدة التاريخية، نعرفكم فيها على سورها وبواباته، وحواريها، ومساجدها، ومنازلها.

حكاية سور جدة


في قديم الزمان أحيطت مدينة جدة بسور طيني له ثماني بوابات تفتح فجرًا وتقفل عشاءً، بهدف حماية المدينة من الداخل، ويعود تاريخ إنشاء السور إلى عصر المماليك وتحديدًا في أيام السلطان قنصوه الغوري، عندما ظهر الفرنجة البرتغاليون ووصل أذاهم إلى جزيرة العرب واليمن وجدة، فلما بلغ السلطان ذلك جهز إليهم جيشًا عظيمًا بقيادة الأمير حسين الكردي، وجعل له مدينة جدة إقطاعًا، وأمره بتحصينها، وعندما وصلها شرع في بناء سورها، بهدف تحصينها من هجمات البرتغاليين، وزوده بالقلاع والأبراج والمدافع لصد السفن الحربية التي تغير على المدينة.

وساعده أهل جدة في بناء السور الذي كان له بابان: الأول من جهة مكة المكرمة، والثاني من جهة البحر، واشتمل على ستة أبراج كل برج منها محيطه 16 ذراعًا، ولاحقًا فتحت في السور ستة أبواب أخرى هي: باب مكة، وباب المدينة، وباب شريف، وباب جديد، وباب البنط، وباب المغاربة، وفي بداية القرن الحالي أضيف إليها باب جديد وهو باب الصبة، وظل السور قائمًا حتى تمت إزالته عام 1947 م لدخوله في منطقة العمران.

وكان لكل باب من تلك الأبواب تاريخ يميزه فعلى سبيل المثال كان باب المدينة الذي يقع في حارة الشام يستخدم للوصول إلى “القشلة” وهي الثكنة العسكرية القائمة حتى يومنا هذا، كما كان الباب يستخدم لمرور العربات المحملة بالحجارة المستخرجة من المناقب الواقعة شمال جدة والطين المستخرج من بحر الطين أو ما أصبح يعرف ببحيرة الأربعين، والمستخدم في بناء بيوت جدة في ذلك الوقت.

عبق التاريخ يفوح من حواري جدة


تتميز منطقة “جدة التاريخية” بوجود العديد من الحواري ذات الطابع المتميز المستمد من تاريخ المدينة العريق، وقُسمت جدة في بدايتها إلى عدة أحياء، وقد أطلق عليها مواطنو المدينة القدامى مسمى حارة، سُميت حسب موقعها الجغرافي أو شهرتها بالأحداث التي مرت بها، وكانت أشهر تلك الحارات:

1- حارة المظلوم

تعددت الروايات حول سبب تسمية هذه الحارة، ولكن أكثرها انتشارًا أنها سميت بذلك الاسم نسبة للسيد عبد الكريم البرزنجي الذي قتلته الحكومة العثمانية ظلمًا بعد اتهامه بضلوعه في إحدى الفتن، وقد قتل شنقًا بدون إجراء تحقيق، في نفس الحارة التي سميت بعد ذلك بالمظلوم لهذا السبب.

2- حارة الشام

تقع في الجزء الشمالي من داخل السور، في اتجاه بلاد الشام، وبها دار السرتي ودار الزاهد.

3- حارة اليمن

موقعها في الجزء الجنوبي من داخل السور، جنوب شارع العلوي واكتسبت مسماها لاتجاهها نحو بلاد اليمن، وبها دار آل نصيف ودار الجمجوم ودار آل شعراوي ودار آل عبد الصمد.

4- حارة البحر

تقع في الجزء الجنوبي الغربي من مدينة جدة، وتطل على البحر، وبها دار آل رضوان المعروفة ذلك الوقت برضوان البحر.

5- حارة الكرنتينه

تقع في جنوبي جدة وكانت مواجهة للميناء البحري القديم قبل ردم المياه الضحلة أمامها لإنشاء ميناء جدة الإسلامي ومصفاة البترول، وكان دخول الحجاج القادمين بحرًا عن طريقها وتعتبر أقدم أحياء جدة خارج السور وتسكنها هذه الأيام أغلبية وافدة من دول إفريقيا.

مساجد جدة شاهدة على عصور إسلامية عديدة


نظرًا لقربها من مكة المكرمة والمدينة المنورة فقد كانت مساجد مدينة جدة شاهدة منذ وقت مبكر على بداية العصور الإسلامية، وظهور واختفاء الدول التي حكمت العالم الإسلامي، وما زالت تلك المساجد تتميز حتى يومنا بشكلها الجذاب الذي يسر الناظرين، ومن أهمها:

1- مسجد الشافعي

من أقدم مساجد جدة التاريخية، ويعود تاريخ بنائه إلى زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي عنه، ويتميز بأسلوبه المعماري المميز حيث يأخذ شكل المربع، ووسط المسجد تم تصميمه ليكون مكشوفًا بهدف الحصول على تهوية جيدة، واستخدم في بنائه الطين البحري والحجر المنقبي بالإضافة إلى الأخشاب.

وشهد المسجد عدة ترميمات، كانت آخرها عام 2012 عندما أمر الملك عبد الله بن عبد العزيز ملك السعودية بترميمه وعمل صيانة كاملة له، وافتتح المسجد بعد الترميم في يونيو 2015.

2- مسجد عثمان بن عفان

يطلق عليه أيضًا اسم مسجد “الأبنوس” لوجود ساريتين به من خشب الأبنوس، ويعد من المساجد الأثرية الموجودة بجدة، ويقع في حارة المظلوم، وتم بناؤه في القرن التاسع والعاشر الهجري، ويتميز المسجد بمئذنته الضخمة.

وجاء ذكر المسجد في كتب الرحالة ابن بطوط حيث قال عنه: “إن بجدة جامع يعرف بجامع الأبنوس، معروف بالبركة ويستجاب فيه الدعاء إن شاء الله”.

3- مسجد الباشا

من أشهر المساجد الشاهدة على تاريخ جدة، وقام ببنائه والي جدة أبو بكر حسين باشا عام 1735م، في حارة الشام، وتميز المسجد بالشكل المعماري القديم وكان يتميز بمئذنة عالية، بقيت كأحد معالم مدينة جدة الأثرية إلى أن تم هدمه في عام 1978 م وتم بناؤه من جديد بنفس الاسم.

4- مسجد عكاش

يقع الآن في المنطقة التجارية في “جدة التاريخية”، وأطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى “عكاش أباظة”، الذي قام بترميمه وتجديد بنائه، واختلف المؤرخون حول تاريخ بنائه، فاللوحة المعلقة على أبواب المسجد تشير إلى أنه تم بناؤه في عام 1200 هجري، ولكن توجد وثيقة عثمانية لتسجيل المسجد صدرت عام 1188 م أي قبل التاريخ المدون في اللوحة.

وأقيم المسجد على أرضية مرتفعة عن مستوى الشارع، حيث يصعد إليه بسلالم، وللمسجد خمسة أبواب مصنوعة من خشب الجوز القديم، أما القباب فدائرية وعليها نقوش وزخارف إسلامية لافتة للنظر، وأعيد ترميم المسجد لمرتين: الأولى في عام 1864 م والثانية في عام 1977 م.

كيف كانت منازل أهل جدة قديمًا؟


من يسير في شوارع جدة سيلاحظ تنوع معمارها، وتميزه عن بقية مناطق السعودية، وما زالت الكثير من منازل جدة القديمة قائمة حتى اليوم، فالبعض منها تم ترميمه، وتحويله إلى متاحف تحكي تاريخ المدينة.

وبنى أهالي جدة منازلهم من الحجر المنقى الذي كانوا يستخرجونه من بحيرة الأربعين ثم يعدلونه بالآلات اليدوية لوضعه في مواضع تناسب حجمه بجانب الأخشاب التي كانت ترد إليهم من مناطق مجاورة أو يستوردونها من الخارج خاصة من الهند، بالإضافة إلى الطين الذي يأتون به من بحيرة الطين والتي تعرف اليوم ببحيرة الأربعين.

وتميزت الدور بوجود “ملاقف هواء” على كافة الغرف، وأيضًا استخدام “الروشن” وهو عبارة عن عنصر بارز من واجهة المبنى، عادة ما يكون له سور منخفض، واستخدمت الأخشاب المزخرفة في الحوائط بمسطحات كبيرة ساعدت على تحريك الهواء وانتشاره في أرجاء الدار وإلقاء الظلال على جدران البيت لتلطيف الحرارة، وكانت الدور تقام بجوار بعضها البعض وتكون واجهاتها متكسرة لإلقاء الظلال على بضعها.

ومن أشهر بيوت جدة “بيت نصيف” الذي يقع في وسط المدينة، ويعتبر أحد أهم المعالم الأثرية فيها، واكتسب البيت أهميته منذ أن نزل فيه الملك عبد العزيز في ضيافة صاحب البيت الشيخ عمر أفندي نصيف، وذلك عام 1925 م، وحاليًا تم تحويله إلى متحف، كما أصبح أيضًا مكانًا تقام به المعارض المؤقتة والأنشطة الرمضانية وتلقى فيه المحاضرات والندوات.