«نهاية التاريخ»: هل نحنُ بانتظار المهدي أم المجتمع الشيوعي؟!

آخر تحديث 2016-01-02 00:00:00 - المصدر: ساسة بوست

عبد الرحمن ناصر

12

Follow @AbdoNasser24

في مايو 1948 أُعلن رسميًّا عن قيام «دولة إسرائيل» على الأراضي الفلسطينيَّة، الـ «دولة» التي فُرضت بالقوَّة كانت تقوم على وعدٍ إلهيٍّ بإقامة دولة إسرائيل على ما سُمِّي «أرض الميعاد» . في العام 1979 كانت ثورة المعمَّمين في إيران التي طردت الشاه واستطاعت إحكام قبضتها على مفاصل الحياة السياسية في إيران، الدولة التي تنتظر ظهور المهدي، تقف على الناحية المقابلة من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش»، التنظيم الذي أعلن دولة الخلافة التي تمهّد لظهور المهدي المنتظر الذي «سيملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا وظلمًا». على الناحية الأخرى من العالم، وفي صيف 1989 نشرت مجلة ناشيونال انترست مقالا للفيلسوف الأمريكي – الياباني فرانسيس فوكوياما بعنوان: «نهاية التاريخ؟» تطور المقال إلى كتاب كبير أسماه الفيلسوف: «نهاية التاريخ والإنسان الأخير!».

فما الصلة بين هذه المعلومات المتناثرة؟

نهاية التاريخ: اللاهوت والمادَّة، لا مشكلة في المسمَّيات

يُستخدم مُصطلح «نهاية التاريخ» بشكلٍ علميٍّ للدلالة على أنّ التاريخ الإنسانيّ، بكلّ ما يحويهِ من تراكيب وتناقضات وأحداث، سيصلُ في لحظةٍ ما إلى لحظة نهاية، فيصبح ساكنًا تمامًا، وسيجدُ الإنسان إجاباته الكاملة على كلّ أسئلته، وستُمحى جميع التصوُّرات الأخرى للحياة، وسيسود نموذجٌ واحدٍ لكلّ شئ. سيستطيع الإنسان السيطرة على بيئته، وعلى الطبيعة وعلى نفسه. في المحتوى العلمي الحالي يُشار إلى نهاية التاريخ باعتبارهِ يصفُ مظاهر الحضارة الغربية الحالية، لكن يمككنا أيضًا أن نطلق مصطلح نهاية التاريخ بشكلٍ لاهوتيٍّ على بعض الظواهر الأخرى. يمكن أن نتابعها خلال هذا التقرير.

  • الديموقراطية الليبرالية ونهاية المُجتمعات

في نهاية التاريخ ليس ثمة منافسون أيديولوجيون للديموقراطية الليبيرالية. *فرانسيس فوكوياما

 فوكوياما

بُعيد الحرب العالمية الثانية وانتصار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الغربي على هتلر، وهزيمة ألمانيا، لم يكن للرأسمالية المتمثلة في أمريكا، ومن بعدها أوروبا، أن تدخل في حربٍ مع حليف الأمس المتمثل في الاتحاد السوفيتي، ومن ورائه الشيوعيَّة، فبدأت الحرب الباردة بينهما، والتي اتخذت عدَّة طرق وأساليب؛ كدعم كلّ معسكر للمعارضة في بلدٍ يدينُ بالولاءِ للآخر، أو بالدخول في حروبٍ بالوكالة، كحرب خليج الخنازير في كوبا وغيرها. الهام في هذا التقرير أنَّهُ، وقبيل سقوط الاتحاد السوفيتي (عام 1991) وبداية العصر الجديد بانتهاء الحرب الباردة بسنتين تقريبًا، وفي صيف عام 1989 كَتبَ الفيلسوف الأمريكي ذو الأصول اليابانية فرانسيس فوكوياما مقالًا بعنوان «نهاية التاريخ؟» في مجلة ناشيونال انترست (مجلَّة المصلحة الوطنية الأمريكية)، أكمل المقالة بعدها بثلاث سنوات لتصبح كتابًا بعنوان: «نهاية التاريخ والإنسان الأخير!»، الكتاب اعتبر إنجيلًا للديموقراطيات الليبرالية في الغرب، وعلى رأسها دولة الولايات المتحدة الأمريكيَّة!

يمكنك قراءة المقالة كاملةً، بالإنجليزيَّة من هُنا. والكتاب كاملًا، مترجمًا إلى العربيَّة هنا

لم يكن فوكوياما هو الوحيد الذي بشَّر بنهاية التاريخ، لكنّ فوكوياما كان الأبرز الذي قال إنّ الرأسمالية ونظام السوق الحرّ على الناحية الاقتصادية، والديموقراطية الليبرالية على المستوى السياسيّ هي النظام الأكمل الذي سيمثِّل نهاية التاريخ (أي نهاية التطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان!) وبهذا يمكن اعتبار أمريكا هي نهاية التاريخ، وعليه فإنّ جميع دول العالم يجب أن تحذو حذو الولايات المتحدة الامريكيَّة. على جانبٍ آخر يتمثَّل منهج فوكوياما العلوم الطبيعية باعتبارها القادرة على تفسير التاريخ الإنساني تفسيرًا نهائيًّا. فوكوياما أستاذ جامعيّ في أكثر من جامعة أمريكية، كما عمل في قسم العلوم السياسية بمؤسسة راند، وهو الآن أحد أعضاء مجلس أمناء المؤسسة. عمل كذلك بهيئة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية.

اقرأ أيضًا: لماذا تصبح الدول الفقيرة أكثر فقرًا: 5 أسباب تشرح لك

و قد أسفرت محاولتنا السابقة لبناء تاريخ عالمي عن مسارين تاريخيين متوازيين، الأوَّل: تحكمه العلوم الطبيعية الحديثة و منطق الرغبة، و الثاني: يحكمه الصراع من أجل الاعتراف. و قد كانت نهايتا المسارين واحدة لحسن الحظ، ألا و هي الدبموقراطية الليبرالية الرأسمالية. * من كتاب فوكوياما

«عولمة الديموقراطية» هو ما يدعو إليه فوكوياما، باعتبارها النظام النهائيّ الذي وصل إليهِ العالم، كذلك فإن اقتصاد السوق الحرّ هو المسيطر والنهائي بالنسبة للبشريَّة. بالطبع ارتبط اسم فوكوياما بالمحافظين الجدد في الولايات المتحدة لفترة كبيرة. العولمة بهذا الشكل تعني أنه يجب على جميع الدول في العالم أن تحذو حذو الديموقراطية الأمريكية، دونَ النَّظر لبقية الاختلافات الحضارية والثقافية وحتى الاجتماعية. يمكن رؤية آثار هذه العولمة للسياسات الاقتصادية والنماذج السياسية المتعلقة بالديموقراطية الليبرالية من خلال سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين. بالطبع لا يمكن أن نقول إنّ موقف فوكوياما النظريّ هو الذي جعل الولايات المتحدة وأوروبا ومؤسساتهما الدولية تبشِّر بهذه النماذج، وإنما كانت هي سابقة عليه. لكن لا يمكن كذلك تجاوز الأثر الكبير الذي تركه كتاب فوكوياما. تجدر الإشارة إلى أنّ فوكوياما قد تراجع عن بعض أسس نظريته في وقتٍ لاحق، وللاطلاع على هذا التراجع يمكنك قراءة هذا المقال.

  • الاتحاد السوفيتي والحتمية التاريخية بالطبقة العاملة

والهدف الأول للشيوعيين هو الهدف نفسه لكل الأحزاب البروليتارية الأخرى: تَشكّل البروليتاريا في طبقة، إسقاط هيمنة البرجوازية، و استيلاء البروليتاريا عن السّلطة السياسية. * كارل ماركس وإنجلز، البيان الشيوعي

بالطَّبع، اختلفت تفسيرات ماركس وهيغل جدًّا، تحديدًا ماركس قال عن نفسه: «أنا لستُ ماركسيًّا» عندما قرأ بعض تحليلات لكتاباته نَحَت بها منحًى غريبًا عنه. لكنَّنا في هذا التقرير لن نتحدث عن ماركس بصورة أساسيَّة، سيكون الحديث منصبًّا على فكرة نهاية التاريخ التي طبَّقها أساطين الاتحاد السوفيتي بطريقتهم، التي خالفت في نسختها الاستالينيَّة – تحديدًا – تعاليم ماركس تمامًا، وفقًا للكثير من المحللين والمفكرين بالطَّبع.

يرى فوكوياما أنّ ماركس ومن قبله هيغل كانا يعتقدا أنّ البشرية ستصل يومًا ما إلى شكلٍ من أشكال المجتمع الذي سيقوم بإشباع الاحتياجات الأساسيَّة لدى الإنسان. بالطبع يختلفان بشدَّة حول تعريف هذه «الاحتياجات الأساسيَّة» لدى البشر، هذا الشكل للمجتمع يُعتبر نهاية التاريخ، في شكلها الهيغليّ ومن بعده الماركسيّ. نهاية التاريخ عند هيغل ستصل إليها البشريَّة بوصولها للـ «دولة الليبراليَّة»، فهو الذي يقول إنّ «تاريخ العالم ليس إلا تقدُّم الوعي بالحرية». بينما تكون هذه النهاية عند ماركس بالوصول لـ «المجتمع الشيوعيّ» الخالي من الطبقات ومن الاستغلال الرأسماليّ للفقراء.

وفقًا لماركس سيستطيع العُمَّال تكوين طبقتهم الخاصَّة، بعد وصول الرأسماليَّة لمرحلتها الأخيرة، وفي سبيل حتميَّة «المجتمع الشيوعي» ستكون هناك حتميَّة سابقة هي حتميَّة «ديكتاتوريَّة البروليتاريا» التي تحكم فيها طبقة العمَّال، بعد إسقاط البرجوازيَّة، في سبيلها للتخلص من الدولة، والوصول للمجتمع الشيوعي الذي يطبق مجموعة من القواعد أهمَّها: من كلٍّ وفق طاقته، ولكلٍّ وفق حاجته.

يُشار إلى الاتحاد السوفيتي، باعتباره التمثيل الأكبر للشيوعيَّة، ليس فقط لأنَّه التجربة الشيوعيَّة الأكبر في العالم، وإنَّما لأنّ «أبا الاتحاد السوفيتيّ» وقائده الفذّ فلاديمير لينين كان منظرًا ماركسيًّا، لكنّ الاتحاد السوفيتيّ – على الأقلّ في نسخته الاستالينيه بعد وفاة لينين – لم يصل إلى تكوين طبقة البروليتاريا، ناهيك عن ديكتاتوريتها التي كان من المفترض – وفقًا لماركس – أن توصل في النهاية إلى المجتمع الشيوعيّ الذي حلُمَ به ماركس وإنجلز، ومن بعدهما ـ بطريقةٍ أخرى ـ لينين.

لينين بين الجماهير

النقد الأكبر الذي يوجَّه لتجربة الاتحاد السوفيتيّ، ليس فقط في أنَّهُ أصبحَ دولةً مركزيَّة ديكتاتوريَّة خانقة، تحكَّمت فيها الرَّغبات الشخصيَّة لديكتاتور كستالين، وإنَّما في كونها لم تلتزم بتعليمات ماركس من حيث النشأة، فوفقًا لتعليمات ماركس كان يجب على الطبقة العاملة دعم البرجوازيَّة في حربها مع الإقطاع، لتصل البرجوازية بالرأسمالية لمرحلتها الأخيرة التي ستنتهي بوصول البروليتاريا للحكم، ثمّ الوصول للمجتمع الشيوعيّ، لأنّ الثورة «الشيوعية» في روسيا والتي يشار إليها بثورة فبراير 1917، قامت في دولة إقطاعيَّة لم تكن فيها طغمة صناعيَّة كما كانت في بلاد أوروبية أخرى، بالتالي لم يحدث الجدل المطلوب بين طبقتي: البرجوازيَّة والبوليتاريا.

لينين كان لديهِ تفسيره لهذا، ويعتبر لينين أحد الذين أضافوا للماركسيَّة، بكتب مثل «الدولة والثورة» و «ما العمل؟» و«اليسار الطفيلي» و«الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية». لكن إذا تجاوزنا رده على منتقدي تجربة ثورة فبراير 1917 إلى صيرورة الاتحاد السوفيتي، لوجدنا أنَّه في النهاية اعتمد على فرضيَّة «حتميَّة تاريخيَّة» وانتهى إلى السقوط النهائيّ عام 1991. فهل كان سقوطه لأنه خالف تعليمات ماركس؟ ليست هذه قضيَّتنا التي ترصد «نهاية التاريخ» عبر العروج على التجارب الأبرز لها.

 ستالين

  • في انتظار المهدي!

بالانطلاق إلى العالم اللاهوتيّ سنجد أنّ المسلمينَ واليهود يمتلكون من قناعات «نهاية التاريخ» الكثير، العجيب في الأمرّ، ولأنّ الأمر يرتبط باللاهوت في مقامه الاوَّل، أننا سنجد أن أغلب الذين يزعمون بنهاية التاريخ بشكلٍ لاهوتيّ في معسكراتٍ معادية، ليس فقط معاداة المسلمين لليهود أو العكس، وإنما المسلمونَ أنفسهم الذين يزعمون نهاية التاريخ معهم، بينهم من العداوة والبأس ما بينهم. التمظهر الأكبر والأوسع لدى المسلمين في سيناريو نهاية التاريخ هو ظهور «المهدي المنتظر» الذي سيملأ الأرضَ عدلًا بعد أن مُلئت جورًا وظُلمًا، لا يهمنا بالطبع البحث وراء مدى صحة ظهور المهدي من عدمه، ما يهمنا في هذا التقرير سرد هذا السياق اللاهوتي لنهاية التاريخ فقط.

  • الفقهاء خلفاء المهدي لحين ظهوره!

المادة رقم 5 في الدستور الإيرانيّ تقرِّر أنّ «ولاية الأمة في ظل استتار الإمام تؤول إلى أعدل وأعلم وأتقى رجل في الأمة ليدير شئون البلاد.» وبالطبع هو المرشد الأعلى للثورة الإيرانية.


لأسباب تاريخية عديدة كانت روايات ظهور المهدي في السرديَّة الشيعيَّة مختلفة اختلافًا كليًّا عنها في السرديَّة السنيَّة، تجاوزًا عن تلك النقطة فالسياق الذي يتعامل معهُ الشيعة، أو لنكن أكثر تحديدًا، فالسياق الذي تتعامل معهُ الدولة الشيعية – الوحيدة في العالم – مع المهدي المنتظر مغايرًا تمامًا لأيَّة تصوُّراتٍ سنيَّةٍ عنه. ولكن يجب علينا في البداية بطبيعة الحال أن نعرج على السياق التاريخي لظهور المهدي المنتظر لدى الشيعة الاثنى عشريَّة.

وفقًا لمدوَّنات الفقه الشيعيَّة، يؤمن الشيعة بأن الإمامة وردت نصًّا من النبيّ محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم – للإمام عليّ كرم الله وجهه، وثبت بعد ذلك للأئمة الاثنى عشر بعدهُ، عبر نسل الإمام الشهيد الحُسين. الإمام الحادي عشر الحَسَن العسكريّ توفي عام 260هـ دون إعلانِهِ عن وجودِ خلفٍ له، انقسمت من بعده الشيعة إلى أربع عشرة فرقة، واحدة فقط منها هي التي تقول بأنّ الإمام الحسن العسكريّ تركَ خليفةً له هو ابنه مُحمَّد بن الحَسَن العسكريّ، ولكنَّه أخفاهُ خوفًا عليه من السلطات حينها، المهديّ، مُحمَّد بن الحَسَن العسكريّ غاب غيبةً صغرى منذ عام 260هـ وحتَّى عام 329هـ، وفقًا لرواية الشيعة، غاب الإمام غيبةً كُبرى منذ ذلك الوقت وحتَّى يعود من غيبته ليملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت جورًا وظُلمًا.

ما الذي سيفعلهُ شيعته حتَّى وقت ظهورهِ إذن؟ لا شيء، سينتظرون، ويعتمدون التقيَّة للتعامل مع الأحداث الضاغطة والمحاربةِ لهم. بالطبع لم تكن السلطة في إيران لتفوِّت التعاون مع فقهاء الشيعة بهذا الشَّكل: سيعتزلُ الفقهاء السلطة تمامًا، بالتالي سيُفتح الباب تمامًا للشاه الصفوي للتحكم في مصائر الناس دون معارضة، ومن بعده القاجاريين، ثمّ شاه إيران البهلوي وولده. الفقيه الكركي كان أول من تعاون مع الشاه طهماسب الصفوي في تصفية خصومة باعتباره خليفة الإمام المهدي والذي يتواصل معهُ في غيبته، ويوجهه الإمام المهديّ مُحمَّد بن الحَسَن العسكريّ لما فيه خير البلادِ والعباد.

تحت ضغوطات التاريخ والسياسة، خرج الإمام روح الله الخُميني معارضًا للشاه، الذي تقوم أساسات حكمه بالأساس على فكرة ولاية الفقهاء، ولكنها ولاية دينية وليست سياسيَّة، استطاع الخوميني عبر «اجتهاده الدينيّ» أن يجمع في يد الوليّ الفقيه السلطة الدينيَّة والسياسيَّة معًا، في كتابيه؛ «كشف الأسرار» و«الحكومة الإسلاميَّة». يقول الخوميني في كتابة الحكومة الإسلاميَّة التالي:

لو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين (العلم بالقانون والعدالة) بتأسيس الحكومة، تثبت له نفس الولاية التي كانت ثابتة للرسول الأكرم (ص) ويجب على جميع الناس إطاعته. فتوهُّم أن صلاحيات النبي (ص) في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين (ع) وصلاحيات أمير المؤمنين (ع) أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهم خاطئ وباطل .

كما يقرر أيضًا:

الحكومة (ولاية الفقيه) شعبةٌ من ولاية رسول الله (ص) المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج .

بهذا استطاع الخُميني أن يثور على الشاه ويجمع في يده، ليس فقط السلطة الدينيَّة المتمثلة في الأحكام الفقهية وجمع الزكاة، وإنما إصدار القرارات التي تتعلق بدولة كإيران، قرارات السلم والحرب، العداوة أو الصداقة مع الدول الأخرى، ببساطة: الوليّ الفقيه هو ظلُّ الله على الأرض بلا مُنازع!

هذا الأساس الفقهي الذي تقوم عليه دولة قويَّة ومتشعِّبة في المنطقة كإيران، أساس يمكن بسهولة إطلاق مفهوم «نهاية التاريخ» عليه. لكنّ الشقّ الآخر يكتمل بتأكيد الدولة وأساطينها، بأنهم خلفاء المهديّ فقط لحين ظهوره. الأمر الأكثر خطورةً، وغرابة، ودلالةً على ما يذهب إليه التقرير، أنّ الرئيس الإيرانيّ السابق أحمدي نجاد يقول هذا على الملأ: أولًا: إنَّه قابل المهدي بشخصه. ثانيًا: إنّ الدول الغربية تسعى لاعتقال الإمام المهديّ. ثالثًا: السبب الخفيّ وراء ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشَّام «داعش» هو التشويش على المهدِيّ مُحمَّد بن الحَسَن العسكريّ وشيعته، بسبب وجود تقاربٍ لفظيٍّ بين كلمتي «داعش» و «الشيعة»، ما قد يسبب خلطًا لدى الغرب حين يظهر المهديّ ويقود الشيعة! ماذا تقول داعش إذا؟!

اقرأ أيضًا: في انتظار «المهدي»: «الحُجّتية» يرفضون قيام أي دولة قبل ظهور «المهدي المنتظر»

  • معركة «مرج دابق»: في انتظار مهديّ السُّنَّة!

المجلة الأشهر لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام تسمَّى «دابق»، وفقًا للمجلة نفسها فإنّ اسمها مأخوذٌ من اسم منطقة في الريف الشماليّ لحلب في الشام، في هذا المكان ستقع معركة كبيرة، وبعض أحداث ملاحم نهاية الزمان، التي وردت في أحاديث النبيّ محمد – صلى الله عليه وآله وسلم -. خلافًا لتنظيمات توصف باعتبارها «أقلّ راديكاليَّةً» مقارنةً بداعش، مثل القاعدة – والتي كانت المنبع الرئيس لها – تشمل قائمة أعداء داعش: الأنظمة السياسية بكامل تياراتها، والسنَّة الخارجين عن طاعة أمير المؤمنين أبي بكر البغدادي أمير التنظيم، والخليفة الذي يحكم تمهيدًا لظهور المهدي المنتظر، كذلك تضم قائمة الأعداء الشيعة حيثما وجدوا، والأقليات الدينيَّة، والجماعات الجهادية المنافسة.

باختصار يتعامل «داعش» باعتباره معطىً إلهيّ متجاوز لتناقضات التاريخ، وصيرورته، معتبرًا نفسهُ، ونفسهُ فقط، هو المعبِّر الوحيد والنهائي والصحيح، والذي يمتلك الحقيقة المطلقة في تفسير نصوص الإسلام. يعتمد التنظيم بشكلٍ رئيس أدبيات الفقيه الشهير ابن تيمية، وشروحات الإمام محمد بن عبدالوهاب على كتبه. وفقًا للسرديَّة السنيَّة عن المهديّ المنتظر، فهو شابٌّ من نسل النبي ّمُحمَّد، ويحملُ اسمه «مُحمَّد بن عبد الله». سيظهرُ في آخر الزمان عبر أحداثٍ ملحميَّةٍ عديدة، ويعيدُ العدلَ والقسطَ بين الناس، بعد أن امتلأت الحياةُ الدنيا بالظلمِ والجور.

على مرّ التاريخ ادَّعى العديد من المسلمين المهدويَّة، وقاموا بثوراتٍ أو بدعواتٍ للنَّاس للانضمام إليهم، لأنّ هذا هو نهاية التاريخ، فسينتهي العالم على خيرٍ بالمهديّ. أبرزُ هؤلاء الذين ادَّعوا المهدويَّة، جهيمان العتيبي والمهديّ الشاب محمد بن عبد الله الخاص به، حين قاموا باحتلال الحرم المكي وادعوا أنّ المهديّ معهم، كان جهيمان قائدًا لهذا التحرك الذي مني بفشلٍ ذريع.

من قبلهِ كان الإمام محمد المهديّ بن عبد الله في السودان، الذي ادَّعى أنه المهديّ المنتظر، وأنَّهُ يرى النبيّ يقظةً ويجلسُ معهُ ويتلقَّى منهُ الأوامر. قام المهديّ بثورة سمِّيت بـ «الثورة المهديَّة» على الحكم التركيّ المصري في السودان. كما ادَّعى المهدويَّة عددٌ كبيرٌ أيضًا عبر التاريخ الإسلامي، دومًا كانت تلك الدعاوى ترتبط بهدف الوصول للسلطة، وملأ الدنيا عدلًا بعد أن مُلئت جورًا وظلمًا بالطبع!

عندما يتعلَّقُ الأمر بنهاية التاريخ، ومع الإيمان القويّ بأنّ التحركات الإنسانية ما هي إلا تمهيدٍ لمخطَّطٍ إلهيٍّ فوقيّ، غير تاريخيّ، يكون حرق النَّاس، وتعذيبهم، واستعبادهم مبرّرًا، وبالطبع لا يحتاجُ القارئ إلى أمثلة كثيرة عمَّا فعلته – وما تفعلهُ – داعش.

على الجانب الآخر كان القتلُ (وجرائم الحرب) أيضًا طريقًا لـ «تحقيق» الوعد الإلهيّ الذي وعدهُ الله منذُ آلاف السنين لليهود، أو بشكلٍ أدقّ للإسرائيليين.

  • أرض الميعاد: يمكننا أن نقتل كما نريد

أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي، هنا تكونت شخصيته الروحية والدينية والسياسية، وهنا أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيما حضارية ذات مغزى قومي وإنساني جامع، وفيها أعطى للعالم كتاب الكتب الخالد. * من إعلان قيام إسرائيل، في مايو 1948

يتعامل اليهود مع أرض فلسطين باعتبارها «أرض الميعاد» التي وعدها الله لأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، بعض التفسيرات الأخرى تقول إنّ الوعد كان ليعقوب عليه السلام، بأنّ أرض فلسطين ستكونُ لهُ ولنسلِهِ لأنَّها الأرض المقدَّسة. القداسة بالنسبة لليهود ليست في المكان فقط، وإنَّما عبر ثلاثية: الإله، الشعب، الأرض. لهذا ليست فقط أرض فلسطين هي أرض الميعاد بالنسبة لإسرائيل، وإنما أيضًا اليهود هم شعبُ الله المختار المقدَّس الذي فضَّله على جميع الخلق، وهكذا يمكن إدراك فكرة الحلوليَّة في الديانة اليهودية، التي يحلّ فيها الإله في الأرض لتصبح مقدسة «أرض الميعاد» ويحلّ أيضًا في الشَّعب فيصبح «شعبُ الله المختار».

في سياق تدشين هذه الـ «دولة» قام تيودور هيرتزل بإنشاء الحركة الصهيونيَّة التي انبثقت منها الدولة اليهودية المقامة الآن على أرض إسرائيل. هيرتزل يهودي، كرس نفسهُ لخدمة فكرة الدولة اليهودية، الاسم الذي أطلقه على كتابه الأهمّ. وقام بعقد المؤتمر الأول للحركة الصهونية في بازل بسويسرا عام 1897، ومع ذلك، ومع كونه الأب الروحي لإسرائيل بالفعل إلا أنه لم يزر أرض فلسطين أبدًا ولم يتحدث باللغة العبرية في حياته أيضًا. توفي هيرتزل عام 1904.

جدير بالذكر أنّ هيرتزل كان قد اقترح أيضًا إقامة دولة إسرائيل في أوغندا، لكن أعضاء المنظمة الصهيونية العالمية لم يوافقوه الرأي. بدأت أفواج اليهود بالقدوم إلى فلسطين، تكونت بعض الميليشيات المسلحة، التي كانت تقوم بعمليات نوعيَّة مسلَّحة تجاه الفلسطينيين، أشهر هذه الميليشيات ميليشيا الهاغاناه، التي كانت النواة الأساسيَّة لتأسيس جيش إسرائيل الحالي. في سبيل «الدولة الموعودة» قامت تلك الميليشيات بعمليات قتل وطرد ممنهجة للفلسطينيين، استطاعت بعدها فرض سيطرتها على عديد من الأراضي والتي أقرتها الأمم المتحدة بعد ذلك، الأكثر من هذا أنّه وفقًا لحدود 1967 فإن إسرائيل أيضًا تعتبر محتلَّة للأراضي الفلسطينيَّة كدولةٍ مُجاورة لها، كلّ هذا من أجل وعد الربّ!

للمزيد من التفاصيل يمكنك قراءة: إسرائيل: القصَّة الكاملة لتأسيس جيش من العصابات

من ننتظر؟!

ربَّما يستطيع التقرير في النهاية أن يقول إنَّهُ قد وفَّى بوعدِهِ للقارئ حين وضعهُ أمام عدد كبير من المعلومات المتناثرة التي بدت غير مترابطة في مقدمة هذا التقرير. لكن لعلّ السياق الآن يبدو متناسقًا وأكثر وضوحًا؛ فالنماذج التي تمّ التطرُّق لها، اعتبرت نفسها ممثِّلًا إمَّا عن الطبيعة/المادَّة، أو عن الإله/الميتافيزيقيّ، بالتالي اعتبرت نفسها نهاية التاريخ بجدارة، هذه التمثيل الذي جعل جميع هذه النماذج تتدخل في شئون غيرها من البشر والدول، وتقتل وتتورط في عمليات تعذيب ممنهج ووحشيّ، وجرائم حرب، بدايةً من الولايات المتحدة التي غزت عددا لا نهائيّا من الدول في العالم كلِّه لإثباتِ أحقيَّتها بالتعبير عن نهاية التاريخ، أو الاتحاد السوفيتي الذي لم تكن فظائعهُ بأقلّ من فظائع هتلر إلا قليلًا، داعش وإيران، رغم خلافهما الشاسع، لكنَّهما لا يختلفان من زاوية نظرهما لنفسيهما، وبالتالي نظرهما للآخر وما ينبغي أن تكون علاقتهما به، نهايةً بإسرائيل التي قامت باحتلال دولة منذ أكثر من ستين عامًا استنادًا على وعدٍ إلهيّ، فهل نحنُ بانتظار المجتمع الشيوعيّ، أم الدولة الديموقراطية الليبرالية، أم المهديّ المنتظر (الشيعي أو السني) أم بانتظار سيطرة إسرائيل على ما تبقى من الأراضي التي تسعى لضمها لأرض الميعاد؟ وحدها الأيَّام هي التي ستخبرنا!