أكد الفقيه القانوني الدكتور محمد كمال الدين إمام أن المنظومة الدينية مضطربة لأن كل مؤسسة متمترسة خلف ثقافتها وتاريخها ومذهبها الذي تنتمي إليه، دون أي انفتاح أساسي وملحوظ، معتبرًا بأن الخروج من عنق الزجاجة يتمثل في فصل دقيق للعمل الديني عن العمل السياسي، وذلك ضمن تكامل وجودي يلحظ أهمية الدور المشترك في معالجة الأمور.
محمد الحمامصي: يُعد الفقيه القانوني الدكتور محمد كمال الدين إمام، أستاذ القانون المقارن والشريعة الإسلامية ورئيس قسم الشريعة الإسلامية السابق بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، واحدًا من أبرز المفكرين في الشأن الإسلامي، وله أنشطة في مجال العمل الفكري الإسلامي من خلال إنجاز العديد من الموسوعات الفقهية، وقدم للمكتبة العربية مؤلفات محل اهتمام واسع من المتخصصين، منها تنظير القوة: دراسة في فقه العلاقات الدولة، والإنسان والدولة: دراسة في فقه تنظيم السياسة، والدليل الإرشادي إلى مقاصد الشريعة الإسلامية.
وهو في هذا الحوار، الذي أجريناه معه على هامش مؤتمر "في نقض أسس التطرف ومقولاته: مقاربات وتجارب" الذي أقيم بالرباط بالتعاون بين مكتبة الإسكندرية والرابطة المحمدية للعلماء، يطرح رؤيته في الكثير من القضايا، مثار الجدل على الساحتين الدينية والسياسية والاجتماعية بصراحة وجرأة، مؤكدًا أن الاضطراب طال كل المنظومات، كما يطرح الحلول من وجهة نظره للخروج من الأنفاق المسدودة التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية، وإليكم نص الحوار:
على الرغم من الجهود التي تُبذل من جانب المؤسسات الدينية في العديد من البلدان العربية والإسلامية لمواجهة الأفكار المتطرفة والمتشددة إلا أن مساحة التطرف والتشدد تزداد اتساعا. برأيك ما هي الأسباب؟ وهل يمكن أن يكون اضطراب المشهد الديني أو تناقضه وراء ذلك؟
ما يجري على الساحة هو مواقف وردود أفعال فيما يتعلق بالخطاب الديني وقضايا التجديد الإسلامي، وليست منهجية قائمة على اتجاه مجتمع متكامل بكافة مؤسساته لمحاربة فكر ما يراه ضارا أو تطرفا ما يراه يمكن أن يؤثر سلبا على حياة المجتمعات التي يعيش فيها.
إن مقاومة أفكار المنظمة لا يمكن أن تكون بواسطة أدوات منظمة، هذه الأدوات المنظمة: مناهج تربوية، مناهج تعليمية، حل مشكلات إجتماعية موجودة بالفعل في الواقع، إيجاد نوع من التوافق المجتمعي بين القوى في المنظور السياسي فما يتعلق بالمبادئ وليس فيما يتعلق بالتفاصيل والجزئيات، لأن التفاصيل والجزئيات تحمل كل منها طابع المجموعة التي تتحدث في هذا الاتجاه. نحن لدينا جزر منعزلة تتعامل مع الظواهر المنظمة هذه بمنهج ردود الأفعال، وهذا المنهج مشكلته أمران: أنه لا يتعمق في دراسة المشكلة، وأنه قصير النفيس بمجرد أن ينتهي الحدث تنتهي معه أدوات المقاومة، فهذه هي المشكلة الرئيسية: كيف يمكن أن نخرج من هذا المأزق؟ لا بد أن التصور عاما والتكلفات واضحة لكافة مؤسسات المجتمع سواء كانت مؤسسات رسمية مثل الوزارات والجامعات أو مؤسسات مجتمع مدني، لكن الكل يعمل في تناسق وتناغم بحيث ننتهي في نهاية المطاف إلى إمكانية الوصول إلى نقاط التحاور، متى تكون قد نجحت أنت في مقاومة الفكر المتطرف، عندما تكون قد استطعت أن تجعله يأتيك محاورا، عندما تنجح في الإتيان به محاورا فإن قضاياه ومشكلاته التي يتحدث فيها، لديك عنها إجابات كثيرة، وهو ليست لديه أصول ليقوم عليها، فتستطيع أن تخلخل قواعده الفكرية وبالتالي تستطيع أن تستدرجه إلى أن يدخل قلب المنظومة الاجتماعية، قد يكون مغايرا لكنه ليس بفكر متطرف أو فكر محارب. هذه قضية أساسية للتعامل مع الأفكار.
المشهد الديني جزء من المشهد العام، وفي دراسة تاريخ الأفكار لا يمكن إجراء عملية عزل الأفكار: هذا فكر سياسي وهذا فكر ديني.. إلخ، لذا فالاضطراب في المشهد الديني كونه جزءا من المنظومة ككل، نتاج عقل واحد، المنظومة المختلة إذا اتجهت في إطار الدين سوف تنتج التطرف، وإذا اتجهت إلى إطار السياسة سوف تنتج هذا التطرف، وإذا اتجهت إلى إطار الحياة الاجتماعية سوف تنتج هذا التطرف، وهكذا، حيث أن المسألة تتعلق بالنظام الفكري ليس في تجلياته في الواقع، تجلياته قد تكون دينية أو سياسية أو اجتماعية وهكذا، لكن صفة جميع هذه التجليات أنها مضطربة ومتطرفة.
لماذا برأيك لم يتم تكفير تنظيم داعش وغيره من الجماعات الإرهابية؟ ألا تعتقد أن عدم تكفيرها يدعمها ويساندها ويزيد من قدراتها على استقطاب المزيد من المؤيدين والمقاتلين؟
هناك من اتجه إلى تكفير تنظيم داعش مباشرة، لكن قضية عدم التكفير لا تنبع من الساحة الإسلامية الكلية، وإنما من الاتجاه الأشعري فيها في الساحة الإسلامية، فالاتجاه الأشعري في الساحة الإسلامية يرى أنه ليس من طبيعته التكفير، وأن الخروج على النص يعني معاقبة من خرج على النص، ليس تكفيره إنما معاقبته، أي وضعه تحت طائلة القانون على المستوى الفردي والجماعي، يعني الذي لا يقول بالتكفير يقول بضرورة محاربة داعش وقتله وتجاوز المشكلات التي نتجت عنه.
إن الفقه الأشعري في عموم العالم الإسلامي ومنذ نشأته فقه لا يقوم على تكفير الآخرين، يعني طالما أعلن هؤلاء الآخرين الشهادتين فهم في داخل دائرة إيمانهم ولكن تحكمه قضية المعصية والطاعة وليس قضية الكفر والإيمان، هذا فكر نظري يتمثل في المذهب الأشعري لكن هذا الفكر لا يمنع أصحابه من أن يقولوا أن هؤلاء ينبغي محاربتهم وأن هؤلاء بغاة ومتطرفون ويصح قتلهم.. إلخ، بما يجعل مبررات الوقوف الجماعي من كافة المجتمعات الإسلامية ضدهم مشروعة وواجبة. يعني الحرب ضد تنظيم داعش الآن ليس مجرد أمر جائز وإنما دخلت في قضية الواجب، ويأثم المسلمون إذا لم يحاربوا داعش، لأنه أساء إلى الإسلام وقتل الأبرياء مسلمين وغير مسلمين وأفسدوا الحياة الإسلامية واعتدوا على الممتلكات والأموال، وشيخ الأزهر د.أحمد الطيب قال أخيرا في جامعة القاهرة "ليس معنى أنني لا أقول بتكفير داعش أنني لا أبيح قتل داعش"، وأعتقد أن مجمع البحوث الإسلامية ودار الإفتاء قالا ذلك بصريح العبارة في فتاوى عديدة.
لكن لم يحدث أن أقيم مؤتمر في الأزهر أو في مكة أو في مكان ما من العالم الإسلامي مهمته النظر في قضايا داعش وتحديد موقف حاسم منها، هذا نطلبه، وأعتقد أن هناك توجه لعقد مثل هذا المؤتمر، يجمتمع فيه علماء الأمة ليقرروا أن داعش لا تنتمي للإسلام الصحيح وأن أفرادها عصاة وأن جميع ما تقوم به من أنشطة هو أنشطة إرهابية من وجهة نظر الإسلام.
لماذا لا يجلس علماء الأمة العربية والإسلامية على مائدة واحدة ويحسموا القضايا الخلافية أو مثار الجدل ويخرجون بكلمة سواء؟
المشكلة أن علماء الأمة في العالم العربي والإسلامي ككل لن يجتمعوا إلا سياسيا، لكنهم لن يجتمعوا علميا، فكل مؤسسة علمية كبيرة متترسة بثقافتها وتاريخها ومذهبها الذي تنتمي إليه، لذلك يصبح التعاون العلمي الفقهي الدقيق بين هذه المؤسسات ضئيلا، لكن هي تجتمع تحت مظلة موقف سياسي، مثلا ممكن أن يجتمعوا في مؤتمر لكن تحت مظلة موقف سياسي منظمة التعاون الإسلامي باعتبارها غطاء، وعلى الرغم من أن هناك خلافات بين هذه المؤسسات في بعض أفكارها الجوهرة لكن عليها أن تصدر هذا البيان الذي ينبغي أن يأخذ الصفة العلمية وليس السياسية، لأن هذا موقف علماء وليس موقف ساسة. السياسيون يتحركون في أذهانهم فن الممكن لكن العلماء يتحركون في أذهانهم الحالة، هذه منهجية وتلك منهجية. فن الممكن يمكن أن يجعلك تتقبل ما لا يتقبله العالم.
لماذا ينتظر علماء الأمة غطاء سياسيًا أو أوامر سياسية؟
هم هكذا في مؤسساتهم ومنظماتهم، لا أستطيع أن أجيب لأنني لست جزءا من هذا النسق، لكن أتصور أنهم هم لديهم ردود أفعال يومية من خلال مؤسساتهم حيث يصدرون بيانات إدانة عندما يحدث قتل أو عدوان أو عملية يقوم بها في بلد إسلامي أو عربي أو أوروبي، لكن أنت ما تريده هو ما ينبغي أن يكون، أن يجتمع هؤلاء العلماء ليدرسوا أمرين: الأول الأسس التي يقوم عليها هذا الفكر المتطرف ويبطلونها، وهي باطلة بطبيعتها، لكنهم يبطلونها حتى لا تكون جزءا من تفكير المجتمع، لأن الذين يقومون عليها شباب ليس لديهم خلفية دينية أو فكرية فيتقبلونها تحت مسميات كثيرة، يتم غلق الباب عندما تجمع الرؤوس الكبيرة وتقول أن هذا خطأ وهذا ليس أساسا، وهذا باطل وهذا معارض للكتاب والسنة، يعني تفند دعاوى هذه الجماعات.
ثانيا تعلن على الملأ أن هذه الجماعات خارجة عن الفكر الإسلامي الصحيح. مستويان الأول تفنيد ألأسس التي تقوم عليها هذه الجماعات والثاني الإدانة الكاملة لتطرفات وسلوكيات هذه الجماعات على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي، إذا حدث هذا سيكون قد أدى العلماء ما عليهم ووجهوا السياسيين إلى المواقف التي ينبغي أن يتخذوها.
تظل السياسة هي المحرك الرئيسي المسيطر، فهل ينبغي فصل الدين عن السياسة؟
لا أريد أن أعبئ قضية فصل الدين عن السياسة بآراء التاريخ ولا بالأفكار المتصارعة على الساحة ما بين العلمانيين والإسلاميين وغيرهم، أنا أقول بفصل الدين عن السياسي، بأن السياسي عليه أن يعمل فيما يختص به ورجل الإسلام والعلم ينبغي أن يقوم بدوره فيما يدركه ويحسنه، على أن تصب النتائج في مصلحة المجتمع، وما قد يريده السياسي قد يؤصله العالم وما يحتاج العالم قد يقدمه السياسي، وبالتالي هناك نوع من التعاون، أنا لا أعرف الفصل بين الدين والدولة في المجتمعات العربية والإسلامية لكن أعرف أن هناك تعاونا، وأن هذا التعاون مصدره أن الدين له دور في حياة الإنسان على المستويين الفردي والجماعي، عملية الفصل التي وجدت في أوروبا نتيجة الحرب بين الإمبراطورية والكنيسة، هذا تاريخ لم تشهده البلدان العربية والإسلامية لكن شهدت أن العلماء لهم واقعهم الذي يعيشونه ودورهم في الحياة الاجتماعية، يستقلون بتعليم الجماهير وتثقيفها وتصحيح مسارها وأن يكونوا جسرا بينها وبين السلطة، والسلطة أيضا في إدارة الشأن السياسي وحماية كيان الدولة وحراستها ومنع العدوان عليها وتقوية الجيش وغر ذلك، يعني هناك أدوار مركبة يقوم بها العالم ويقوم بها السياسي. عملية الفصل بمعنى أن الدين في دور العبادة وأن السياسة هي المجتمع هذا لا تعرفه النظم الإسلامية.
لكن قد يوظف أحدهما الآخر، الدين والسياسة، وقد لا يحسن التوظيف؟
هذا قد ينتج نتيجة عدم خبرة العالم وما يمكن أن نسميه انتهازية السياسي، عندما تكون السياسة انتهازية ويكون العالم ليست لديه الخبرة الكافية يتم توظيفه ليس لمصلحة ما يعتنقه ولكن لمصلحة ما يريده الآخرون، وهذه مشكلة حلها في تهيذب الجانب السياسي وتقوية البناء العلمي لعالم الدين، والتقوية هنا ليست تقوية علمية محضة ولكن تقوية علمية ونفسية حيث يستطيع أن يقف ويقول رأيه، بحيث لا يكون السياسي أسير للعالم ولا يسير العالم في ذيل السياسي.
وإذا وقع هذا التوافق فإن أمورا إيجابية كثيرة ستحدث، لأن المجتمع سيجد من يلوذ به، عندما يجد العالم يتشدد يستطيع أن يلوذ بالسياسي، وعندما يجد أن السياسي يستبد يستطيع أن يلوذ بالعالم، ويصبح هناك إمكانية لإيجاد توازن داخل المجتمع بحيث لا ننتقل من الحياة الطبيعة إلى حياة التطرف والتشدد، لكن إذا اختل هذا التوازن إلى من يلجأ المجتمع؟، عندما تريد أن تأكل ولا تستطيع أن تجد ما تأكله هل ستظل واقفا أما ستسلك الطريق غير المشروع، من الذي فتح هذا الطريق غير المشروع، انسداد الطرق الأخرى.
السياسي دوره في القرارات، ما هي القرارات التي يتم بها علاج المرض؟ العالم مثل معمل التحاليل يعرض عليك المشكلات التي تعترض مثلا وظائف الكبد، القلب، الدم، هو يقوم بمهمة التوصيف الصحيح وإعطاء التاريخ الكامل لهذه السلبيات الموجودة في داخل المجتمع، أما القرار فبيد السياسي، لا ينبغي للعالم أن يقوم بدور السياسي كما لا ينبغي لطبيب التحاليل أن يقوم بإجراء العمليات والعكس، التحليل هذا دور العالم يحلل أمراض المجتمع وهي بطبيعتها أمراض فكرية تعلق بالجسد الديني والاجتماعي والسياسي وغيرها، ويضع التشخيص والخطط والبرامج ويقدمها للسياسي لاختيار الأنسب لمصالح الناس وتصدر القرارات على مسؤوليته ومسؤولية العالم أيضا.
الكل يلقي باللائمة على الخطاب الديني ويتهمه بالتقصير وتكررت الدعوات من قبل المسؤولين من رؤساء ووزراء ومسؤولين، ألا ترى أن الخطاب الديني وتجديده أصبح شماعة يلقي عليها المسؤولون فشلهم في إدارة ملفات الاقتصاد والتنمية والعدالة الاجتماعية والتعليم والصحة والثقافة وغيرها؟
إنني أقبل من القادة السياسيين توجيه العلماء أن يكونوا في حالة حركة من أجل مواكبة الحياة وما يدور فيها تحت مظلة الأفكار الإسلامية السليمة ومظلة الخطاب الديني الصحيح، لكن لا أقبل أن يتحول تجديد الخطاب الديني والأفكار الإسلامية إلى شماعة، وهذا ما يجري بالفعل، لأنه كما أشرنا سابقا في داخل المنظومة الاجتماعية لا تتحرك جزئياتها على انفراد، فالخطاب الديني لا يتحرك بعيدا عن الخطاب التعليمي والخطاب التعليمي لا يتحرك في قطيعة مع الخطاب الإعلامي، والخطاب الإعلامي لا يتحرك في قطيعة مع الخطاب السياسي، هذه كلها دوائر مجتمعة، وإذا وجدت هذه القطيعة فمعنى ذلك أن هناك خللا في المنظومة مجتمعة وليس في جزء واحد منها. دعنا ننظر على الطبيعة: هل المنظومة الإعلامية صحيحة؟ لا، هل المنظومة التعليمية مؤادية لواجبها؟ لا، هل المنظومة السياسية تسير على منهج واضح تستطيع أن تفصح ماذا سيحدث غدا؟ لا، بالتالي لماذا تريد للمنظومة الخاصة بالخطاب الديني أن تكون هي المنظومة التي تسير على أسس سليمة وقوية وتقوم بالتجديد، أليس الخيال السياسي الذي يحتاجه رجل السياسة لتجديد قراراته مسألة مهمة، أليس تصويب العمل الإعلامي وتحوله من فضاء مسموم إلى فضاء محكوم بمنظومة قيم أليس هذا أمرا ضروريا؟ أليس الخروج من خطورة التدني التعليمي حيث أصبحنا في مؤخرة الصفوف أمرا ضروريا؟ إننا عندما نتحدث عن مكاننا على مستوى العالم في الجانب التعليمي والاقتصادي والعلم نجد أنفسنا في مؤخرة الصفوف، فمن الطبيعي أن نجد أنفسنا في المجال الديني في مؤخرة الصفوف. لكن هل الدين يطلب منا أن نكون في المؤخرة في هذه المجالات كلها أم في المقدمة؟ الدين يطلب منا أن نكون في مقدمة الصفوف، العلم جزء أساسي من الدين، القوة جزء أساسي من الدين، الأخلاق، الإعلام الحق جزء أساسي من الدين، إذن ما يدعونا إليه الدين لا الخطاب الديني يحققه ولا الخطاب الإعلام يحققه ولا الخطاب التعليمي يحققه ولا الخطاب السياسي يحققه، فإذن المنظومة كلها مأزومة وهذا هو مصدر الإشكال، وكل منها يعتمد على الآخر في التصويب، هذا يقول أنه تم تهميشي سياسيا وبالتالي ليس لدي القدرة على التجديد في هذا الوقت الذي أنا فيه في أضعف حالاتي، والسياسي يقول أنت لا تقوم بدورك، ورجل التعليم يقول أنت لم تعطيني الإمكانيات ولا النظم الكافية، ونفس الأمر لدى علماء الاجتماع، حتى في الرياضة تعلمنا أن نكون في مؤخرة الصفوف.
يذهب البعض إلى أن ما يجري في المنطقة العربية والإسلامية لا يخرج عن كونه صراعا سنيا شيعيا، والبعض الآخر يراه إسلاميا مسيحيا غربيا, وأن الجماعات الارهابية صنيعة الأطراف المتصارعة خاصة الغربية، ما رأيك؟
العالم الإسلامي موضوع على أجندة العالم الغربي، هذا أمر لا خلاف عليه، لأن الأول سوق للثاني لتسويق منتجاته وسلاحه وصنع منجزاته ومجاله الحيوي الذي يريد أن يتمدد فيه، القضية ليست في العالم الغربي القضية فينا نحن، حتى العالم الغربي فيما بينه هناك مصالح متعارضة، مثلا روسيا والاتحاد الأوروبي من جهة وبين الاتحاد الأوروبي وأمريكا من جهة أخرى، وبين أمريكا وأمريكا اللاتينية، جميعهم عالم غربي، الغرب ومن يمثلونه ليسوا على شاكلة واحدة، ونحن لا نعمل على خلافاتهم لإيجاد مصالحنا وخلق إمكانية للحركة لمقاومة التيارات القادمة منه، نحن على أجندتهم لسبب بسيط جدا "لأنك لو كنت العربي الذي يعيش في خيمة ما تذكرك أحد"، لكننا نقيم على ثروة العالم، وبعض مفكريهم يعبرون عند ذلك حين يقولون "أنت تقيم في بلاد لا تستحقها وعلى ثروة لست جديرا بها"، وبالتالي من حقي أن أخذ منك كل ذلك وأن أجردك من كل هذه الامكانات وأن أجعلك في نهاية المطاف تابعا، السياسة الغربية لا تريد للعالم العربي أن يقوى، لكن هل البيت القوي يبني نفسه على آراء الآخرين، أنه يريد أن يدخل بيتك ويستولي على أولادك وأسرتك ومقاليدك وزوجتك وثروتك، هل أنت ستفتح له الأبواب هكذا على مصراعيها وتقول له تفضل يا سيدي إنني بحكم الضيافة العربية والإسلامية أستقبلك بانفتاح وبحب وتقدير ولك حق الضيافة ثلاثة أيام، ليبقى قرنين وثلاثة قرون وهكذا.
لذلك نحن لدينا أخطاء تاريخية جسيمة جدا، هو تصور أن الغرب هو من يستطيع أن يجعلنا ننهض ونحيا ويستطيع أن يجعلنا نموت. لا، الأمم تموت من داخلها وتنهض من داخلها. وبالتالي علينا نحن أن نستخدم قوانين النهضة فعندها نستطيع أن ننتصر على أنفسنا وضعفنا الداخلي واستبدادنا النظمي وأفكارنا المتدهورة وعلى تعليمنا المتخلف، ننتصر على كل أمراضنا الموجودة في داخل مجتمعاتنا سواء كانت أمراضا في الدين أو السياسية أو الاقتصاد أو الفكر، ثم بعد ذلك يكون هذا الانتصار وسيلة القوة التي نحمي أنفسنا بها في مواجهة الموجات العاتية التي تأتينا من الغرب، إذن لا ننظر إلى الغرب على أنه مصدر ما نحن فيه، بل ننظر إلى أنفسنا على أننا مصدر ما نحن فيه، على الرغم من أن ما نحن فيه ساهم في صنعه الغرب على مدى ثلاثة قرون فكريا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ودينيا من خلال حملات التبشير وغيره، لكنه وجد قلبا خاليا فتمكنا، أو وجد جسدا ضعيفا فاستولى عليه.
قضية السنة والشيعة قضية قديمة حديثة، إذا حصرنا في إطار أنها مذاهب، نستطيع أن نحل مشكلتها، أما إذا جعلناها في إطار قوى سياسية متصارعة يعني فرق عقائدي وليس مذاهبي فقهي، فنحن نشعل النار بين السنة والشيعة، القضية منهجية، لا توجد دولة سنية تتبنى فكرا سنيا في العالم العربي الإسلامي، لكن توجد دولة شيعية تتبنى العقيدة الشيعية، ولأنها تبنتها كعقيدة وجدت أن جزءا من دورها الأساسي أن تتمدد جغرافيا، أقصد بذلك إيران، لقد أصبح جزءا من عقيدتها محاربة المذهب السني، وتحاربه حتى داخل إيران، فالسنة داخل إيران ليس لهم حقوق المواطن لا في مساجدهم ولا رواتبهم ولا في ثرواتهم، وهذا صراع ممتدة جذوره منذ الحرب بين الدولة العثمانية والدولة الفارسية، لكن عندما كانت الدولة العثمانية قوية لم تعط للجسد الشيعي إمكانية التمدد على جغرافيا العالم الإسلامي الذي تمتلكه، وعندما تناثرت الدولة العثمانية وأصبحت في خبر كان أصبح الصراع السني الشيعي ظاهرا على الساحة، وفي ذات الوقت أصبح الصراع السني الشيعي جزءا من آليات الغرب في تفكيك وتفتيت العالم العربي والإسلامي، لأن جزءا من محاولة إضعاف هذا العالم أن توجد بينه هذا الصراع، ليس هناك من حل إلا العودة إلىأن السنة والشيعة مذاهب في الفقه، كما يصلي الشافعي وراء المالكي والمالكي وراء الحنفي، وكما تتفاعل المذاهب مع بعضها البعض في نقاش جيد ومثمر، يمكن للساحة أن تحتمل كل هذه المذاهب، لكن أن تتحول الأمور إلى صراع عقائدي وصراع على الجغرافيا وتهميش السنة لحساب الشيعة أو ضرب الشيعة لصالح السنة، ستظل القضية مشتعلة لا يستفيد منها أحد في العالم الإسلامي إنما يستفيد منها الغرب أولا وأخيرا، وهي جزء من أجندته منذ انسحب من شبه القارة الهندية.