إذا حاولت يومًا أن تسأل أحدًا من كبار السن الذين عاشوا في الزمن الجميل – كما يطلقون عليه – عن أكثر ما يفتقده في عصرنا الحالي؛ سيجيبك على أغلب الأحوال أن الذوق العام للناس قد تغير كثيرًا عن الماضي، ستلمح في عينيه نظرة أسى حزنًا على ما مضى من مظاهر التحضر والرقي التي كانت سائدة في كل جانب من جوانب الحياة، وقد تشعر بمرارة وغصة في حديثه عن الجمال الذي كان حاضرًا في كل شيء، محاولًا أن يستحضر ذكريات الماضي السعيد قبل أن تظهر تلك التجاعيد التي رسمها الزمن على وجهه، فهم حقًا أصدق من يصف لك كيف كنا وكيف أصبحنا لأنهم قد عاشوا الشيء ونقيضه.
سيخبرك عن دماثة الخلق والسلوكيات الراقية في تعاملات الناس بين بعضهم البعض، وعن مشاعر الود والتسامح فيما بينهم، وكيف كان الجيران يعبرون عن مشاعرهم الفياضة بتبادل الأطباق المليئة بالخيرات، وعن احترام الصغير للكبير في الشارع والمواصلات والأماكن العامة.
سيحدثك عن نظافة الشوارع وكيف كانت تغسل بالماء والصابون، وأن القاهرة كانت من أجمل مدن العالم، وعن احترام الناس لآداب الطريق، وكيف كانت الأناقة عنوانًا للتميز بين الرجال والنساء.
ستسمع منه عن زمن الفن الجميل الذي كان يخلو من الرداءة والابتذال، وعن الأغاني ذات الكلمات الراقية التي كانت تمس الوجدان والمشاعر.
ستجد نفسك لا إراديًا بعد ذلك في حالة مقارنة بين الماضي والحاضر، وأول تساؤل سيجول في خاطرك حتمًا ما الذي حدث، ما الذي حل بالذوق العام حتى أصابه التدني والانهيار التام بهذا الشكل المريب، حيث تستطيع أن تلمسه في العديد من المواقف وأن تراه في صور عديدة من حياتنا اليومية متجسدًا في كل شيء.
ففي الشارع ترى انهيارًا كاملًا للذوق العام، تسمع الألفاظ الخارجة التي لم نعتد سماعها، والتحدث والضحك بصوت مرتفع بلا مراعاة لشعور الآخرين، وأصبح من الطبيعي أن ترى بعض الشباب يجلسون على ناصية الطريق يحدقون في الفتيات بلا خجل أو يلقون على مسامعهن ألفاظًا خادشة للحياء، ولا عجب ممن يقف بسيارته صفًّا ثانيًا ليسد الطريق أمام الآخرين بلا أدنى شعور بالمسؤولية، وإذا حاولت أن تقول لأحدهم من باب النصح أن هذا الفعل لا يصح فيجيبك بكل برود “أنا حر” لأنه للأسف لم يتعلم يومًا أن حريته تنتهي عند الاعتداء على حرية الآخرين.
وفي مناطق وسط البلد في القاهرة تلك المنطقة الساحرة، ستجد أن الغالب عليها هو التناسق في شكل البنايات هكذا كان الحال قديمًا، “واللي بنى مصر كان في الأصل حلواني” هكذا كانوا يتغنون، ولكن اليوم “اللي بنى مصر لا تعرف له أصل”، فالعشوائية هي السائدة في العمارة والبناء، فتجد في الشارع الواحد العمارات باختلاف أشكالها وأحجامها وألوانها بلا أي تنسيق أو حد أدنى من التخطيط، وأصبحت تلال القمامة المتراكمة في كل مكان من معالم الجمال في المدينة! وإن ظننت يومًا أنك قد أخطأت الطريق لأن تلال القمامة قد انزاحت من الشارع الذي اعتدت السير فيه، فعليك أن تدرك على الفور أن أحد المسؤولين قد غادر المكان منذ قليل.
وإن كنت مواطنًا صالحًا فيجب عليك ألا تتذمر أو تبدي غضبك من تلك الضوضاء الصادرة من عند الجيران لأن لديهم فرحًا ويجب عليك وحتمًا ولا بد أن تفرح معهم، وإن عدت من العمل وترغب في أخذ قسط من الراحة فلا تنزعج من مكبرات الصوت التي تم وضعها في الشارع احتفالًا بافتتاح محل جديد، فكن صبورًا بشوش الوجه محبًا للخير وتحمّل هذا التلوث السمعي بصدرٍ رحب.
حتى على مستوى الملبس لم يعد هناك ما يميزنا عن غيرنا من الشعوب أو يعبر عن هويتنا العربية، فترى تداخلًا عجيبًا بين جميع الموضات من هنا وهناك مجتمعة في آنٍ واحد، وتجد بعض الشباب يرتدون ملابس كتب عليها بعض العبارات المسيئة أو التي تتعارض مع ثقافتنا بلا دراية بمعناها.
وعن الفن فحدث ولا حرج فالكلام كثير، حيث اقتصر دوره في الآونة الأخيرة في إفساد الذوق العام وتقديم كل ما يتعارض مع هويتنا ومعتقداتنا الدينية بدعوى أنها تجسد الواقع، ولا أدري ما هو الواقع في أغاني مليئة بالسباب والألفاظ الخارجة وأفلام يكتب عليها للكبار فقط، لقد تعلمنا أن الفن هو الواجهة الحضارية لأي مجتمع، هو الذي ينير الشعوب ويساعد في الارتقاء بالحس الفني والذوق العام لهم، وليس دوره تجسيد الواقع فقط، والذي غالبًا ليس له وجود في الحقيقة وإنما هو موجود في خيال المؤلف فقط.
والأكثر مرارة أن من يتصدرون شاشات التلفاز التي تدخل بيوتنا ليلًا ونهارًا، تلك الفئة التي يطلق عليهم لقب “المثقفين”، فيحدثك أحدهم عن ميثاق الشرف الإعلامي صباحًا، ويطل على المشاهدين ليلًا ليسب ويفضح من يعارضه في الرأي، لتأخذ قرارك بإغلاق التلفاز وأنت مستريح الضمير.
ومن مشاهد الكوميديا السوداء التي ينطبق عليها المثل الشهير “هم يضحك وهم يبكي” عند زيارة مسؤول كبير لأحد المدارس التي من المفترض أنها تمثل منبر العلم والتي تغرس في طلابها القيم والمعاني النبيلة، فتجد أن مظاهر الذوق قد تجلت فجأة وكأن السماء تمطر ذهبًا، فترى السلالم وقد تزينت بالسجاد الأحمر، وأحواض الزرع خرجت أخيرًا من مخبئها وانتشرت هنا وهناك، فتتعلم حينها أن الذوق ليس أسلوب حياة وإنما هو ظاهرة ليس لها وجود إلا في المناسبات فقط.
إن التطور الذي طرأ على مجتمعاتنا مع تغير الأزمنة والثقافات لدى الشعوب أثر بشكل مباشر على الذوق العام نتيجة تقصير الجميع في القيام بدورهم الحقيقي، تقصير الآباء في تربية أبنائهم وغرس القيم الأخلاقية بهم من ناحية، وعدم قيام المدرسة بدورها الثقافي والتنويري من ناحية أخرى، مما أدى لسوء وتدنٍّ في الأخلاق يزاد يومًا بعد يوم، وكذلك التأثر بالثقافات الأجنبية التي لا تتماشى مع هويتنا وثقافتنا العربية.
نحن بحاجة لتقييم سلوكياتنا من جديد، بحاجة لاستدعاء الذوق في كل تعاملاتنا، بحاجة لسماع كلمات من نوعية “من فضلك” و”شكرًا” و”إذا سمحت” ومراعاة شعورالآخرين، ومقاطعة كل ما يقدم لنا من فن لا يسمو بعقليتنا ويغذي أرواحنا حتى لا نتفاجأ يومًا باختفاء كلمة “الذوق” من قاموس حياتنا.
فالذوق العام هو المقياس الحقيقي لمدى الوعي الثقافي لدى الشعوب وهو ما يبرز هوية كل مجتمع، وهو مقياس لتحضر الأمم وتميزها وتفردها بين الجميع.
والآن أدعوك عزيزي القارئ أن تمتع عينيك ببعض اللقطات من روائح الزمن الجميل من خلال مشاهدة هذا الفيديو النادر.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست