تكلمنا بالجزء الأول عن المعركة الفاصلة التي فتحت للمسلمين دخول أوروبا والقضاء على عاصمة الرومان في أوروبا وهي معركة فتح القسطنطينية التي فتح خلالها السلطان محمد سلطان الدولة العثمانية، القسطنطينية خلال عام 1453 ونتائج تلك المعركة على قوة الدولة الإسلامية، وانتشارها في أوروبا والمشرق العربي الإسلامي وأفريقيا وآسيا.
وفي الجزء الثاني سوف نتكلم عن كيف سقطت الأندلس من السيطرة الإسلامية على أيدي ملوك الإسبان عام 1492؟
وذلك بعد هزيمة ملك قشتالة وليون، لممالك الموحدين انتهاءً لمملكة بني الأحمر بآخر معاقل المسلمين بغرناطة، فشتان الفارق بين معركتين، وقعتا في حقبة واحدة من التاريخ الإسلامي والغربي، وبني عليهما تحولات ضخمة وشديدة في التاريخ الاقتصادي والتنموي والعسكري العالمي.
وبالانتقال إلى معارك سقوط الأندلس وضياعها من أيدي العرب المسلمين، وعودتها إلى الإسبان، فسوف نجد أن معركة العُقاب أو معركة “لاس نافاس دي تولوسا” هي معركة وقعت في 16 يوليو 1212م، شكلت نقطة تحول في تاريخ شبه جزيرة أيبيريا أو “الأندلس” حيث تجمعت قوات الملك ألفونسو الثامن ملك قشتالة ومنافسوه السياسيون سانتشو السابع ملك نافارة، وألفونسو الثاني ملك البرتغال، وبيدرو الثاني ملك أراغون، ضد قوات الموحدين حكام الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الأيبيرية، ومناطق واسعة من شمال وغرب أفريقيا، وقاد قوات الموحدين السلطان محمد الناصر، التي جاءت من شتى مناطق الدولة للمشاركة في المعركة.
وقعت المعركة في وادٍ يسميه الإسبان نافاس قرب بلدة تولوسا، وهذا سبب تسميتها بمعركة لاس نافاس دي تولوسا، ووقعت كذلك قرب حصن أموي قديم يسمى العُقاب (بضم العين)، ولذلك تسمى في التاريخ العربي باسم معركة العقاب أو معركة حصن العقاب.
ما قبل المعركة
كان لهزيمة الملك القشتالي ألفونسو الثامن في معركة الأرك التي وقعت عام 1195م الأثر الكبير في توطيد حكم المسلمين في الأندلس وتوسعة أراضيهم فيها؛ فقد استرجع المسلمون كلا من مدن تروخلو وبلاسينسيا وكوينكا وقلعة رباح وبينافينتي، والعديد من المدن والقلاع الأخرى.
وقد تركت تلك المعركة أثرًا في قلب ألفونسو الثامن الذي كانت تحدثه نفسه بالانتقام على الرغم من أنه اضطر إلى عقد هدنة مع الموحدين بعد معركة الأرك.
قلعة رباح الحصينة
استغل الملك ألفونسو الهدنة في تحصين مملكته، وكذلك في تأليب بقية مسيحيي أوروبا ضد المسلمين؛ فقد استطاع أن يجلب ود منافسيه السياسيين في أيبيريا ملوك البرتغال ونافارة وأراجون.
ونقض ألفونسو الهدنة عام 1209م بقيامه باقتحام حصن رباح في وسط الأندلس، وأغار على جيان وبياسة وأجزاء من مرسية. إثر ذلك أعلن السلطان محمد الناصر الجهاد وأمر بتجهيز الجيوش لإيقاف المد الصليبي.
ويذكر بعض المؤرخين المسلمين أن تعداد الجيش الإسلامي وصل لثلاثمئة ألف مقاتل، وآخرون يوصلون العدد لنصف مليون مقاتل لكثرة المتطوعين فيه.
سار محمد الناصر بقواته إلى الأندلس واستقر في إشبيلية، وأرسل جزءا من جيشه لتحرير قلعة رباح ذات الموقع الإستراتيجي، وبعد حصار دام 8 أشهر استطاع المسلمون أن يغزوا ذلك الحصن.
واستغل ألفونسو الثامن ذلك الوضع وبعث إلى البابا إنوسنت الثالث يدعوه لإعلان حرب صليبية في أوروبا، وقد استجاب له البابا فأمر بمساعدته، وأعلنها حربًا صليبية لا يحل الغفران على من لا يساعد أو يشارك فيها.
أرسلت الدويلات الإيطالية وفرنسا الجنود والمؤن لدعم التحالف المسيحي.
وتحرك الصليبيون باتجاه قلعة رباح، وكانت حامية القلعة الإسلامية لا تزيد عن 100 فارس إلا أنهم قاوموا مقاومة عنيفة ثم استسلموا في نهاية الأمر لعدم تكافؤ الطرفين، ولعدم وصول الإمدادات من المسلمين. عندما علم محمد الناصر بذلك حرك جيشه باتجاه الشمال والتقى الطرفان في الثالث عشر من يونيو.
المعركة
والتقى الطرفان على جبال الشارات أو السييرا مورينا، وعسكروا في أطراف تلك الجبال.
ونظمت الصفوف وحمس الجنود وكان الجميع بانتظار شرارة البداية حتى كان السادس عشر من يونيو الموافق الخامس عشر من صفر 609هـ. في ذلك اليوم التحم الجيشان، وفي بادئ الأمر قاومت مقدمة الجيش الإسلامي المؤلفة من المتطوعين المغاربة، وصدر الجيش المكون من الجيش النظامي الموحدي؛ قاوموا فرسان التحالف المسيحي مقاومة شرسة حتى بدأت قوات المسيحيين بالتراجع وظهرت عليهم أمارات الخوف.
واستشار ألفونسو قادة جيشه وكبار دولته فأشاروا عليه بمحاولة حصار الجيش الإسلامي، وكان صوابا أن فعل؛ فانطلق جناحا الجيش المسيحي المكونان من قوات نافارة وأراجون، وطوقوا جيش محمد الناصر الأمر الذي أدى إلى اضطراب الجيش وانسحاب جناحيه من
أرض المعركة
بعد ذلك اقتحم المسيحيون الجيش الإسلامي وقتلوا أغلب من فيه، وانسحب من استطاع أن ينسحب إلى بلاد المغرب وكان منهم السلطان محمد الناصر ومجموع الجنود، ففر السلطان محمد الناصر مكرهًا، فبعد أن رأى هزيمة جيشه ومقتل ابنه على أرض المعركة جلس في خيمته منتظرًا الموت أو الأسر، إلا أن جموع المسلمين المنسحبة أجبرته على الفرار معها، فانطلق حتى وصل إلى إشبيلية ومنها إلى مراكش حيث توفي بعد فترة قصيرة في عام 1213م. بعد انتهاء المعركة مباشرة تقدم المسيحيون تجاه حصن مدينة أوبيدا واستردوا الحصن والمدينة وقتلوا 60 ألفًا من أهلها.
من أوبيدا انطلق فريديناند الثالث من قشتالة باتجاه قرطبة واحتلها عام 1236، وجيان عام 1246، وإشبيلية عام 1248، ثم سقطت كل من آركوس وقادس وصيدا الأندلسية وكان فريديناند الثالث بعد هذه الانتصارات يطمح إلى عبور مضيق جبل طارق وضرب دولة الموحدين في عقر دارها، إذ كانت تعاني من الانقسامات والثورات ولا يزال أثر الهزيمة فيها. لم يمنع فريديناند من التقدم سوى موته في إشبيلية عام 1252.
على جبهة أخرى قام ملك أراغون وكونت برشلونة جيمس الأول بالتوسع في مملكته، فقام باحتلال جزر الباليار بين عامي 1228 م و1232م ومدينة بلنسية عام 1238م.
واتحدت مملكة ليون وقشتالة مع مملكة أراجون، واستطاع الملك فيرنانديو والملكة إيزابيلا استرجاع المدن الأيبيرية الواحدة تلو الأخرى إلى أن سقطت في أيديهم غرناطة آخر قواعد المسلمين سنة 1492.
وسلم أبو عبد الله الصغير ملك غرناطة بعد صلح عقده مع فيرناندو يقتضي بتسليم غرناطة وخروج أبي عبد الله الصغير من الأندلس، ولكن سرعان ما نقض هذا الأخير العهد. وبدأت محاكم التفتيش في التعذيب والقتل والنفي، وبدأت هنا معاناة أهل الأندلس من المسلمين ومن اليهود؛ فقد كانت محاكم التفتيش تجبرهم على التنصُّر أو الموت، وقد تمسك أهل الأندلس بالإسلام، ورفضوا الاندماج مع المجتمع الغربي المسيحي.
وحسب الرواية القشتالية الرسمية, لم يُبد الأندلسيون رغبة في الاندماج في المجتمع النصراني، وبقوا في معزل عنه, يقومون بشعائرهم الإسلامية ويدافعون عنها بكل تفان، وحتى لا يصطدموا بمحاكم التفتيش لجؤوا إلى ممارسة التقية فأظهروا النصرانية، وأخفوا الإسلام, فكانوا يتوضؤون, يصلون ويصومون، كل ذلك خفية عن أعين الوشاة والمحققين.
وسنة 1601م, كتب المطران ربيرا, مهندس قرار الطرد؛ تقريرًا عن الوضع قدمه إلى الملك.
وقال فيه: “إن الدين الكاثوليكي هو دعامة المملكة الإسبانية, وإن المورسكيين “المسلمين” لا يعترفون ولا يتقبلون البركة ولا الواجبات الدينية الأخيرة, ولا يأكلون لحم الخنزير, ولا يشربون النبيذ, ولا يعملون شيئا من الأمور التي يقوم بها النصارى”. ثم يضيف: “إننا لا نثق في ولائهم لأنهم مارقون, وإن هذا المروق العام لا يرجع إلى مسألة العقيدة, ولكنه يرجع إلى العزم الراسخ في أن يبقوا مسلمين, كما كان آباؤهم وأجدادهم”.
ويعرف مفتشو العموم أن المورسكيين – بعد أن يحجزوا عامين أو ثلاثة وتشرح لهم العقيدة في كل مناسبة، فإنهم يخرجون دون أن يعرفوا كلمة منها, والخلاصة أنهم لا يعرفون العقيدة, لأنهم لا يريدون معرفتها, ولأنهم لا يريدون أن يعملوا شيئا يجعلهم يبدون نصارى”.
وفي تقرير آخر يقول المطران نفسه: “إن المورسكيين كفرة متعنتون يستحقون القتل, وإن كل وسيلة للرفق بهم فشلت, وإن إسبانيا تتعرض من جراء وجودهم فيها إلى أخطار كثيرة، وتتكبد في رقابتهم والسهر على حركاتهم وإخماد ثوراتهم كثيرًا من الرجال والمال.
وجاء في قرار الطرد الخاص بمسلمي بلنسية: “قد علمت أنني على مدى سنوات طويلة حاولت تنصير مورسكيي هذه المملكة ومملكة قشتالة, كما علمت بقرارات العفو التي صدرت لصالحهم والإجراءات التي اتخذت لتعليمهم ديننا المقدس, وقلة الفائدة الناتجة من كل ذلك, فقد لاحظنا أنه لم يتنصر أحد, بل زاد عنادهم.
وننظر إلى أنه بعد سقوط دولة الموحدين في الأندلس على يد المسيحيين، وسقوط معظم أجزائها في أفريقيا على يد القوى المحلية، قامت دولة المرينيين على أراضي دولة الموحدين، وقاموا بعدة معارك في بلاد الأندلس، ولكن النصر لم يكن حليفهم فيها.
ومن ذلك نستنتج أن ضعف المسلمين في مملكة الأندلس والمغرب الإسلامي، وبُعدهم عن حشدهم للجهاد وعدم التقدم العسكري، والانغماس في الشهوات والسكر والنساء، لدرجة أن جميع عمليات الفحش والبذخ والسكر، كانت موجودة في أسر ملوك وأمراء المسلمين في غرناطة وإشبيلية وقرطاجة، وغيرها من ممالك بني الأحمر والموحدين، الذين حكموا ممالك المسلمين في الأندلس خلال القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وهو ما أصابهم بالضعف والهوان والبعد عن روح الجهاد والاستعداد لأعدائهم.
وفي المقابل، كانت ممالك الغرب الأوروبي المسيحية في فرنسا وإيطاليا وقشتالة والإسبان، يستعدون لطرد المسلمين من الأندلس، وذلك بالتصنيع الحربي واستخدام البارود في الحروب، وابتكار أسلحة حديثة وإنشاء مصانع للأسلحة، وحشد الكنيسة الغربية لهم، وعقائد الشباب الأوروبي لمعركة المصير بالنسبة لهم لطرد المسلمين من أرض الأندلس، وعودتهم إلى أفريقيا مرة أخرى.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست