موجة غضب عارمة بين أنصار الإخوان ومناهضي الانقلاب أثارها التصريح الأخير للمهندس يوسف ندا حول اتصال مجموعة لا يستهان بها (على حد وصفه) من ضباط الجيش المصري به وإعلانهم رفضهم لسياسة النظام الحالي وحرصهم ألا تتحول مصر لدولة فاشلة.
ولعل غضب كثيرين من هذا التصريح هو الحنق والملل الذي أصاب معارضي الحكم العسكري من كثرة تصريحات قيادات الحراك المناهض للانقلاب بعد فض رابعة عن ترنح الانقلاب واقتراب سقوط حكم العسكر، الذي يكذبه الواقع العملي على الأرض .
إلا أنني لم أنسق لموجة الغضب العاطفية تلك فقررت أن أُعمل عقلي وأستقرأ الوقائع في هذا الشأن وذلك لاختلاف الشخصية المتحدثة واختلاف الظروف المحيطة بالتصريح وأقدم لكم هذا التحليل باجتهاد شخصي قائم على توافر بعض المعلومات.
لماذا يجب أن نهتم بالتصريح ؟
أولاً: اختلاف الشخصية
جميع المتحدثين باسم الحراك المناهض للانقلاب على اختلاف مشاربهم وتنوعهم (مُحدثو سياسة دولية ومعارضة من الخارج) وكثير منهم لم يكن قبل الانقلاب يجيد التحدث للإعلام وتوصيل الرسائل الإعلامية المناسبة، بمعنى آخر جميعهم في طور التدريب أو يمكن أن نعتبرهم هواة في هذا الشأن (ليس قدحًا في شخصياتهم ولكنه فقط توصيف للحالة).
المهندس يوسف ندا لا يمكن وصفه بالهاوي إطلاقـًا؛ فالرجل له باع في الشأن الدولي والاقتصادي منذ أمد بعيد، فهو ملياردير يقابل رؤساء دول ويتوسط لحل مشاكل دولية وينخرط في صراعات قانونية مع قوى عظمى وينتصر فيها.
كما أنه ليس الشخصية التي تتحدث كثيرًا، وربما لولا اتهامه بعد أحداث سبتمبر بدعم الإرهاب وذكر جورج بوش الابن له بالاسم في أحد التصريحات بالبيت الأبيض لم نكن لنعرفه من خلال برنامج شاهد على العصر مع الأستاذ أحمد منصور؛ لذلك فعندما يتحدث يوسف ندا يجب ألا يؤخذ حديثه باستخفاف أو استهانة.
ثانيًا: اختلاف الظروف (المحلية والإقليمية والدولية )
لن أستطرد في تحليل وضع النظام العسكري في مصر فبيان ذلك أغنت عنه الوسائل الإعلامية المختلفة ولكن تسارع الأحداث في الشهرين الماضيين كان كاشفـًا وفاضحًا للنظام بشكل قاس، وخاصة بعد حادث الطائرة الروسية وانخفاض الاحتياطي بشكل ينذر بالخطر والذي قابله ارتفاع الدولار لأرقام غير مسبوقة وتصريحات لمسئولين إمارتيين يعبر عن امتعاضهم من أداء السيسي (تصريح محمد بن زايد)
هل تم الاتصال بيوسف ندا؟
لمن لا يعرف يوسف ندا فهو رجل لا يكذب ولا يخرّف، ويدرك ما يقول ومتى يقول ولمن يقول، ولنتذكر رسالته التي أرسلها لوكالة الأناضول والتي اعتبرتها أنا في حينه أنها خطاب حسن نوايا طلبته جهة ما (داخلية أو خارجية) من الإخوان حتى يتم اعتبارها وثيقة يتم التفاوض على أساسها في حال وجود تغييرات مستقبلية.
إذن أعتقد أنه تم الاتصال به على وجه الحقيقة من جهة ما ولكن من؟ ولماذا؟
لا يوجد سوى احتمالين لا ثالث لهما في موضوع اتصال الجهة العسكرية بيوسف ندا، وللأسف كلاهما ليس في صالح الثورة ولا في صالح الإخوان وهما:-
أولاً : احتمالية خطة الخداع الاستراتيجي من النظام
(الجيش الثاني يؤيد الشرعية وينحاز للرئيس)
لعل من حضر يوم الثالث من يوليو 3013 في رابعة العدوية يتذكر كيف أنه بعد إعلان بيان قائد الانقلاب بدقائق انتشر في الميدان هذا الخبر، ويتذكر أيضًا كيف سجد المعتصمون شكرًا وكبروا وفرحوا بهذا الخبر أيما فرح.
إلا أن الخدعة التي انكشفت بعد ذلك وهي أن شخصيات ذات حيثية هي التي اتصلت ببعض رموز الاعتصام لتنقل لهم هذا الخبر، وأيضًا تصاريح العديد من الأفراد التابعين للمخابرات الحربية والمندسين أمام المنصة بالخبر نفسه، فما كان من منصة رابعة العدوية سوى الإعلان بسذاجة أن (الجيش الثاني يؤيد الشرعية وينحاز للرئيس)
لماذا لجأت السلطة الانقلابية لهذه الخدعة؟
حتى تفوت اللحظة التي كانوا يخشونها وهي الفوران الجماهيري غير المحسوب من أنصار الرئيس مرسي نتيجة الإعلان عن عزله، فيتم تصدير قناعة للجماهير أن الأمر لم يحسم وأن الجيش منقسم وبالتالي يبقى المعتصمون والمؤيدون في حالة ترقب وانتظار لفعل القوة العسكرية وتفوت اللحظة الحاسمة والغاضبة بأقل رد فعل ممكن وبالفعل نجحوا في ذلك.
وكذلك كل الأخبار التي تم تسويقها بعد الانقلاب من عينة (السيسي تم اغتياله والموجود الآن هو البديل)، (صدقي صبحي رئيس الأركان في خلاف حاد مع السيسي وزير الدفاع) هي من إنتاج المخابرات، وهي التي قامت بترويجها وللأسف تلقفت صفحات ووسائل إعلام دعم الشرعية هذه الأخبار وقامت بنشرها وبالتالي كانت الجماهير المترقبة تنتظر ثم لا يسفر انتظارها عن شيء.
كان الانقلاب يتعامل – وما يزال – مع الجماهير المعارضة له بسياسة التلاعبShake him up Shake him down))، فيبث فيها الأمل ويجعله قريبًا جدًا منها ثم يتبدد الأمل فجأة فيصيبها بالإحباط تلو الإحباط حتى تيأس من مقاومته.
إذن نحن أمام نظام يجيد التلاعب بنفسيات الجماهير ويعرف كيف يوجهها في صالحه.
ولو افترضنا أن هذا الاتصال هو خطة خداع استراتيجي فإنه بالفعل تم الاتصال بالمهندس يوسف ندا من شخصيات أو شخصية لها مكانة في الجيش ومن خلال قنوات مخابراتية مصرية أو دولية (مشاركة في الغرض الخداع نفسه) وأوصلت له الرسالة التي عبر عنها في تصريحه وأوضحت له أنها تسعى للتغيير حتى لا تنهار مصر على يد تلك المجموعة العسكرية الفاشلة.
ماذا سيستفيد النظام العسكري من هذه الخدعة؟
يستفيد أن يبقى الفصيل الأكبر المعارض له في حالة ترقب وانتظار لفعل الآخر (الوهمي) وعندما لا يحدث شيء يصاب بالإحباط، وسيستفيد أيضًا في ضرب أي حراك متوقع ضده نتيجة لسياساته الفاشلة على اعتبار أن من يريد أن يقاوم فسينتظر تدخل تلك المجموعة العسكرية أو سيدخلها في حسابات تحركه وهو لا يدري أنه يبنى على الأوهام.
الاحتمال الثاني: ترتيبات التغييرات المستقبلية
تبين من سيل التصريحات التي خرجت من كاترين اشتون واتفاق البرادعي وليون أن السيسي لم يكن في الخطة، فقد كانت خطة الغرب تقتضي أن يتولى الحكم التيار العلماني (المدني) بمساعدة الجيش، وأن يتنازل الرئيس عن صلاحياته للبرادعي كرئيس وزراء، وأيضًا كانت خطة الخليج تتمثل في عودة الفريق أحمد شفيق كمعبر عن النظام السابق ووريثًا له وأن يبقى السيسي وزيرًا للدفاع كما صرح بذلك الشيخ محمد بن راشد.
إلا أن السيسي فرض نفسه على الجميع (بدافع الطموح الشخصي) أو بضغط الحاشية التي أحاطته وصنعت منه نجمًا شعبيًا في أيام قليلة، أيًّا كانت الأسباب لكنه بالفعل جعل نفسه الرقم الأكبر في اللعبة وبالتالي تقبل الجميع الأمر الواقع المفروض عسكريًا.
وفيما بعد تبين أنه لا يتمتع بالمؤهلات الشخصية المطلوبة للرئيس، وتوالى الفشل السياسي والاقتصادي والأمني منذ أن تولى مقاليد الحكم، كما أن القوى الغربية – لأهمية مصر ومكانتها- لن تترك أمرًا للصدف وللانفجار الشعبي مرة أخرى والذي فاجأهم في يناير، فمن الطبيعي أن تجهيز البديل سيكون أمرًا حتميًّا.
ولكن من البديل؟
ثبت للغرب وبما لا يدع مجالاً للشك أن القوى العلمانية ليس لها شعبية، وليس لها قواعد مجتمعية يمكن لأن ينهض عليها مشروع سياسي أو مجتمعي، وبالتالي كان العسكر هم السند الحقيقي الذي يعتمد عليه الغرب في إدارة مصالحه الاستراتيجية بمصر وعلى رأسها حماية إسرائيل؛ وبناء عليه فهم أفضل بديل.
وإذا كان هناك قرار بالتخلي عن السيسي بعد ثبوت فشله وعدم ملائمة شخصيته، فإن بديله سيكون عسكريًا بالضرورة، ومن المؤكد أن ترتيبات الإطاحة به تتطلب التفاهم مع المعارضة الرئيسية له وللحكم العسكري الجديد حتى يتم ترتيب الأمور وتصفير المشاكل والعودة للاستقرار المنشود في مصر غربيًا وخليجيًا؛ وبناء عليه تم الاتصال بالمهندس يوسف ندا من خلال الفاعلين والقادرين على التغيير حتى يتم ضمان ألا تكون هناك معارضة لخطة التبديل (عسكري بآخر)
وبعد تصريح يوسف ندا مباشرة أقال السيسي أحد عشر وكيلاً من المخابرات العامة (هل يوجد ارتباط؟ ربما نعم وربما لا)
لماذا أعلن عنها؟ سؤال لا أجد له إجابة
لو كان الاتصال حقيقيًّا فإن الإعلان عنه بدون إذن من المتصلين- إن كانوا من الجيش المصري كما أخبر – سيعتبر ذلك بيعًا بالمزاد العلني لهم، ولا أعتقد أن يوسف ندا سيرغب في ذلك لأنه بلا فائدة له أو للإخوان، لا أدري على وجه التحديد لماذا الإعلان عن اتصال خطير مثل هذا، ولمن لا يعرف فأفراد الجيش المصري وخاصة الضباط يتم مراقبتهم بشكل دقيق من قبل المخابرات الحربية وخاصة كبار الضباط، إلا أن ظني يقودني إلى أنها رسالة موجهة والإعلان عنها مقصود من قبل الجهة التي اتصلت به وربما طلبت منه الإعلان.
الضباب
يبقى كل ذلك في إطار الظن والتخمين؛ فالوضع في مصر لم تعد تحكمه قواعد ثابتة، فلا يوجد حياة سياسية ولا يوجد مجتمع مدني له من الوعي والرشادة ما يُبنى عليه آمال أو طموحات ولا يوجد أيضًا نظام حكم رشيد له محددات قومية أو وطنية أو حتى أخلاقية تمكنك من أن تعرف منها مساره، ولذلك فالفوضى والانقلاب والعنف ستكون السمة السائدة في أي تغيير قادم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست