انطلقت تظاهرات العراقيين قبل خمسة شهور في تعبير صريح عن احتجاج شعبي برفض الفساد الحاكم ، مدججة بجملة مطاليب أغلبها خدمية واخرى سياسية لامركزية ، بلغت ذروتها في الأسبوع الثاني أي مطلع شهر آب 2015، جراء ارتفاع درجات الحرارة مع غياب شبه تام للكهرباء، فهدر العراق بتظاهرات بلغت ذروتها في بغداد وبقية محافظات الوسط والجنوب .
منذ الاسبوع الأول باركنا المظاهرات واشرنا للسياقات التي يجب ان تنتظم بها سياسيا ً، وتتواصل باعلان اهداف وطنية يجتمع عليها العراقيون وسقف زمني ليس طويلأ ، بعدها تتحول الى اعتصام يأخذ وقته المناسب،وفي حال عدم استجابة الحكومة للمطاليب يصار الى عصيان مدني يصيب الحياة بالشلل التام،عندها تستسلم الحكومة اذا كانت ديمقراطية فعلا،أو تواجه التظاهرات بالعنف والبطش .
وماسبق من رؤى واهداف وترتبط بقوة جماهيرية فاعلة وفتاكة وقادرة على الصمود وتمويل نفسها ومعالجة خسائرها ذاتيا ً، لكن الواقع كان يشير لحقائق اخرى ، وباستثاء الأسبوع الثاني فأن اعداد المتظاهرين كانت تتراوح مابين (1000-1500) في أحسن الأحوال،هذا الرقم لايشكل أي أثر أو أهمية في مشروع التغيير بالنسبة لسكان بغداد الذي يتراوح بين 7- 8 مليون مواطن ....!
كسبت التظاهرات جولة اعلامية مميزة ،فقد حظيت بالتأييد من القوى السياسية والدينية كافة (رغم زيف اكثرها)، كما نجحت في تعميم شعار فاضح لاحزاب الاسلام السياسي الحاكمة ( بأسم الدين باكونا الحرامية )، شعار اعلن عن موت القناعة والإيمان بجدوى هذه الاحزاب ووطنيتها .
مقابل ذلك كانت الاحزاب السياسية الحاكمة وطبقة اصحاب الأموال والفئات الطفيلية العديد من المرجعيات الإجتماعية والدينية المؤيدة لها، اجتمعت على بعضها وأجلت خلافاتها وتماسكت حين شعرت بقليل من التهديد الجماهيري، ومع مرور الأسابيع والشهور اصبحت التظاهرات ذات فعل روتي يتكرر بإيقاع اسبوعي لمدة ساعتين من نهار الجمعة لتفريغ احتجاجات ذات طابع فردي، تردد بعض هتافات لايتجاوز صداها عشرات الأمتار من ساحة التحرير ، وهي محاطة بطوق من الشرطة ومكافحة الشغب ، ولايسمح لها الوصول الى جسر الجمهورية ...!
لاشك ان المتظاهرين نخب مميزة ورائعة من الحالمين والأحرار الرافضين لهذا الفساد والانهيار الذي أصاب الوطن، لكن الاستحكامات الطائفية وطبيعة الصراع المذهبي غيبت فرصة التلاحم الوطني في الاحتجاج وجعلها تنطوي على ذاتها الطائفية، وهذا مؤشر صريح على عدم تنامي المعارضة في ساحة التظاهر كما حدث في تونس ومصر ، بل كانت المعارضة تنمو في مكان آخر اكثر قسوة ووحشية ، بدءا ً من الاهمال الكارثي وعالم الفقر والأمراض والجريمة الذي تعيشه مدن النفط في جنوب العراق، وصولا ً لملايين النازحين والمهجرين في هياكل المدن وساحات كردستان .
المعارضة ونضالاتها تشترط قيادة سياسية نوعية وليس انفعالات آنية، كما تحتاج وطن موحد وشعب موحد ضد الاستبداد والظلم والفساد .
*ستكون لنا وقفات اخرى مع هذا الموضوع الوطني المهم .