بعيداً عن الغزل المذهبي، والطّائفي، والغزل الدّيني، يجدر القول إن إيران اليوم تميّزت بما قدّمته من نموذج قوي جداً؛ لقد استطاعت أن تُركِع الغرب، وأن تكسر شوكة الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصّهيوني. فهي التي لم ترضخ إلى الإرادة والإدارة الأميركية خلال أقل من أربعة عقود. إنّ ما تقدّمه إيران من إنجاز نووي وطبي، وفكري وتكنولوجي رغم الحصار ورغم العقوبات الدّوليّة، مكّنها من النُهوض تكنولوجياً وفكرياً وعلمياً وعسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً. فلقد استخدمت سياسة النّفس الطّويل مع الولايات المتحدة الأميركية، ومع الدّول الحليفة لواشنطن، كما أثبتت أيضاً أنّها صاحبة سياسة امتصاص الصّدمات وصدّ كلّ هجمة عليها. وهي تحرص على ألا تنجرّ إلى حروب عبثية في المنطقة، كما حاول البعض أن يستفزّها في اليمن فلم تزجّ بنفسها في حربها. وحاول البعض أن يجرها إلى حرب طائفيّة في الخليج، فنأت بنفسها عن أي حرب طائفية فيه. إيران كانت حريصة وذكيّة جداً حيث عمدت الولايات المتحدة الأميركيّة عن طريق حلفائها في المنطقة إلى محاولة استفزازها لتجد مبرّرات لها وذرائع لعرقلة الملف النّووي الإيراني.
استطاعت إيران رغم الحصار بذكائها الدّبلوماسي وعبقريتها السّياسية ودعمها للتكنولوجيا والعلم والتّقدم أن تصل إلى المستوى العالمي وتلعب دوراً إقليمياً قوياً جداً في المنطقة.إن ما رأيناه خلال الأسبوع المنصرم من توقيع إيران إتفاقيّة اقتصاديّة بستين ملياراً مع الصين يؤكّد أنّها تستطيع إغراق سوق الأوبك وسوق النفط في الوقت الذي يغرق فيه الخليج بحفلات المجون وتسويق البرامج والأفكار التّافهة وترويجها.نعم، لقد نجحت إيران بخطتها وأهدافها التي رسمتها على مدى ثلاثين عاماً أن تشكّل نهضةً قويةً وأن تتجاوز كلّ العقبات والعقوبات، في حين فشل الخليج الذي اعتاد على أن يصفّق للقرارات الأميركيّة من دون أن يفهم شيئاً ولم يقدّم شيئاً لأمته ولا لأبنائه لأنّه اعتاد على المؤتمرات البروتوكوليّة الفارغة.
ما فعله الخليج فقط أنّه أنتج مجتمعاً استهلاكياً لأنّ بعض أنظمته الاستهلاكية لم تفكر إلاّ في منفعة من يتحالف معها من التجار أو الأحزاب السّياسية. هذه مشكلته. لقد استنفذ جلّ طاقته وقدرته بالحروب الطّائفية والقبلية والمنفعيّة لبعض التّجار وأيضاً العنصريّة القبليّة؛ بينما إيران قفزت في علوم التكنولوجيا والطّب والهندسة والفكر والعلم والرّياضيات في قيادة القرار السّياسي وبكلّ هدوء ومعرفة وذلك بانتقائها لقياداتها السّياسية سواء على الصّعيد الدّبلوماسي أو العسكري أو الفكري أو حتى على مستوى النّاطقين الرّسميين باسم الجمهورية الإسلامية الإيرانيّة.
إنّ تجربة إيران تُعدُ تجربة رائدة سياسياً بعيداً عن الغزل المذهبي فهذا واقع الحال. لقد أثبتت بإنجازتها ما لم تفعله دول الخليج التي لم تقدّم سوى الاستهلاك عدا دبي صاحبة التّجربة الرائدة في مجال الاقتصاد. وفي هذا الوقت بالذات دبي تجاوزت الاعتماد على النفط، وستحتفل في آخر هذا العام بتصدير آخر شحنة بترول.أتمنى من دول الخليج الإلتفات إلى هذا. فعار علينا أن نسمع اليوم من أحد من دول الخليج أنها تعاني من عجز في الميزانيّة وتحاول ترقيع حالها الاقتصادي لأنها صرفت أموالها في حروب عبثيّة في المنطقة لصالح الولايات المتحدة الأميركية ولم تقدّم شيئاً إلاّ إرهاقاً لميزانيتها وهي على وشك الإفلاس تقريباً وإلحاق فقر مُدقع بشعبها مترافق مع رفع أسعار الوقود. لِمَ لا نستفيد من السّياسة الإيرانيّة في المنطقة بعيداً عن المذهبية والطّائفية العفنة التي لا تسمن ولا تغني من جوع وبعيداً عن التّخلف والتّعصب؟ فلننظر إلى ما قدّمته إيران في الثّقافة والفكر في التكنولوجيا والطّب في المسرح والسينما. إيران تملك اليوم أقماراً صناعيّة حتى أعداءها باتوا يقفون لها إجلالاً واحتراماً وتقديراً، لم تخضعها ولم تركعها الضّغوطات الأميركيّة لأنها برهنت أنّها قوية جداً جداً رغم الحملة الكبيرة عليها. نعم، إيران لها مصالح في المنطقة وأمر طبيعي جدا ًأن تكون لها مصالح كدولة إقليميّة كما أي دولة في العالم كروسيا كأميركا كالصين وغيرها، فكلّ دولة قويّة تسعى أن يكون لها نفوذ.
أُمنيتي لبلدان الخليج أن يتركوا الأحقاد والطّائفية والكلام الفارغ ويلتفتوا إلى التّنمية - تنمية بلادهم؛ ويبحثوا عن شيء جديد غير النّفط ليحافظوا على رفاهية أبناء الوطن العربي لانّ النّفط سينتهي في يوم من الأيام ولن يكون هو المصدر الأوحد في الجانب الاقتصادي لدول الخليج.
فلو أن المال الخليجي والفكر الإيراني توحدا كمشروع أمة لكنّا انتصرنا على عدو الأمة الصّيهوـ أميركي، لأن قوتنا في وحدتنا.