د. علي الجابري : أوروبا تنقلب على اللاجئين .. وتخذلهم
مع تزايد تدفق اللاجئين الى اوروبا منتصف العام الماضي ، وبالتزامن مع صدمة نشر صورة غريق المتوسط الطفل "إيلان"، إعتقد مئات الالاف من العراقيين والسوريين والافغان وغيرهم إن اوروبا فتحت الابواب على مصراعيها لهم جميعا، بل ذهب البعض لابعد من هذا التصور، واطلق العنان لتخيلاته لينذرنا بوجود مؤامرة في اوروبا لافراغ المنطقة العربية من الطاقات (الخلاقة) لتستفيد منها (القارة العجوز)؟!
وما زاد الطين بلة، تلك التظاهرات التي خرجت في عموم اوروبا للترحيب باللاجئين، ولا زلت اتذكر جيداً صورة رئيس وزراء السويد وهو يتقدم صفوف المتظاهرين تحت الامطار، ويقول ان اوروبا التي نعرفها لا يمكن ان تبني الاسوار امام اللاجئين!!
كل تلك المظاهر ، وما رافقها من زخم اعلامي عالمي يدعو للتخفيف عن معاناة الهاربين من الموت وفتح الابواب امامهم ليبدأوا حياة جديدة في دول تسود فيها الديمقراطية وحقوق الانسان ؟! اوصلت رسائل خاطئة لمن يعيشون في بلدان مثل العراق وسوريا وافغانستان واليمن وفلسطين وغيرها ان اوروبا تناديهم ، وربما هي بأمس الحاجة لهم ، وان ذهابهم الى تلك الارض الموعودة كفيل بنقلهم من مصاف المقهورين والمظلومين والغارقين في غياهب الموت والقتل والطائفية الى جنة لم يكن يحلم بها السابقون ولا اللاحقون !! فهبت الجموع عن بكرة ابيها الى (أرض الميعاد) الجديدة، حتى ضاقت بهم الارض وإمتلات مراكز اللجوء بالمستحقين وغير المستحقين ، بالمظلومين والقتلة، بالمؤيدين والمعارضين، بالعلمانيين والاسلامويين واللادينيين.
الجميع هربوا من ارض امة العرب ظناً منهم ان الخلاص يكمن بمجرد ان تطأ قدمك ارضاً اوروبية ، وان السعادة والرفاهية والنعيم سيكون بإنتظارهم !!
وما ان غصت اوروبا باللاجئين حتى علت اصوات اليمين المتطرف ، والتحق بها لاحقا مئات الالاف من الاوروبيين المعتدلين او دعاة الانسانية الذين كانوا يتعاطفون مع اللاجئين !! إذ لم يكن يخطر ببالهم ان تختنق ارضهم بهذه الجموع التي جاء اكثر من نصفها بطرا وليس هربا من الموت ..
الان تحول المزاج الاوروبي ، وانقلبت الشعوب على حكوماتها التي فتحت الابواب امام هذه الجموع .. وعلا صوت المتطرفين ، وظهر صوت آخر لمن كانوا يدافعون عن حقوق الانسان.
تحول الكلام الان الى كيفية التخلص من اللاجئين وطردهم ، وبدأت الحكومات تتسابق لتشديد قوانين اللجوء في اوروبا لكي تكون بلدانها طاردة للاجئين وليست جاذبة للمزيد منهم.. حتى رئيس وزراء السويد الذي قال بالامس انه ضد بناء الاسوار، سبق الجميع ببناء سور كبير بوجه اللاجئين بعد ان اختنقت بلاده بهم؟!
هل نلوم الحكومات الاوروبية ، ام نلوم اللاجئين الذين ارتكب الكثير منهم جرائم وتصرفات مشبوهة أساؤوا من خلالها لمن يستحق فعلا، وقلبت المعادلة ضدهم ؟
من المهم ان يدرك الجميع ان اوروبا الانسانية لا يمكن ان تبقى هكذا لتسمح بتدفق الملايين إليها .. ومن المهم ان نعي ان الحكومات الاوروبية التي بدأت تفقد شعبيتها لن تبقى مكتوفة الايدي وتسمح بتراجع اكبر يفقدها السلطة.
الاحزاب والتحالفات التي تحكم بلدان اوروبا تعرف ان إستمرارها بهذا الوجه الانساني سيبعدها عن السلطة ويدفع بالمعارضة الى الواجهة، لذلك ستتعامل بواقعية في قادم الايام، وتقدم مصالحها ورغبات شعوبها على قضية اللاجئين برمتها ؟!
نعم اوروبا بدأت تنقلب على اللاجئين .. وتخدلهم ، والقادم أسوأ إن بقيت هذه الجموع تتوافد الى القارة التي كانت حلما للهاربين من الموت .. وبداية الحل تكمن في رسم صورة حقيقة للحالمين باللجوء من اجل الرفاهية والنعيم بإنها ليست كذلك، وان الطرق غير معبدة امام الجميع ، الا لمن يستحق الحماية ، ولمن هرب فعليا من الموت في بلده ..
ازمة اللجوء لن تحل عن طريق بناء الاسوار ، بل عن طريق وضع حلول جذرية لما ارتكبته القوى الكبرى من اخطاء في الشرق الاوسط جعلت كل من يعيش فيه يبحث عن الخلاص بأي ثمن كان.
* رئيس إتحاد الصحفيين العرب في السويد ورئيس التحرير المسؤول في وكالة الصحافة الاوروبية بالعربية
لمراسلة الكاتب : dr.ali@europressarabia.com