يتعدى قرار السعودية وقف مساعداتها للجيش وقوى الأمن اللبنانية ردة الفعل على مواقف لبنان الأخيرة، وينذر ببروز معادلات جديدة في إطار الحرب المشتعلة بين طهران والرياض لتزعم الإقليم. الرياض عزت قرارها، وقف مساعدات مقررة للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي بقيمة أربعة مليارات دولار، إلى المواقف اللبنانية المناهضة للسعودية على المنابر العربية والإقليمية والدولية، وحملت "حزب الله" المسؤولية في ظل ما أسمته "مصادرة إرادة الدولة اللبنانية". وأوضح مصدر سعودي مسؤول أن الخطوة تأتي في إطار مراجعة شاملة للعلاقات مع الجمهورية اللبنانية. وأشار المصدر إلى امتناع لبنان في مجلس جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي عن التصويت على بيانين يدينان الهجمات على مقار بعثات دبلوماسية في إيران. ومن البديهي أن يؤجج القرار السعودي الأوضاع الداخلية في لبنان، ليضيف ملفا خلافيا آخر بين الفرقاء السياسيين، العاجزين عن الاتفاق على إدارة أي من الملفات الشائكة، وأهمها ملء الشغور الرئاسي. وقد ظهرت بوادر انقسام عمودي بين مختلف الأحزاب السياسية اللبنانية من جراء الخطوة السعودية.. ففيما يطالب فريق بالاعتذار من المملكة، وتصحيح الخطأ بإرسال وفد حكومي كبير للاعتذار، لا يقل عن نصف عدد الوزراء، بمن فيهم الوزراء السياديون، فإن فريقا آخر يقلل من تأثير هذا القرار على تسليح الجيش اللبناني لوجود بدائل طرحتها روسيا في وقت سابق، وكذلك العروض السخية من طهران. ويرى خبراء أن القرار يأتي في إطار توجه دولي لعدم تسليح الجيش اللبناني بسبب وجود فيتو إسرائيلي عليه. ويربك القرار السعودي الوضع اللبناني، وقد يتسبب في انفراط عقد الحكومة، التي لم تلملم أوضاعها بعد استقالة وزير العدل أشرف ريفي، ما ينذر بشغور رئاسي ووزاري في ظل برلمان ممدد له. يجب القول إن السعودية قدمت في العقود الأخيرة عشرات مليارات الدولارات، كمساعدات وهبات للبنان. وعملت الرياض مع سوريا، في إطار ما يُعرف بمعادلة "سين- سين"، على استقرار لبنان بوضع أساس لإنهاء الحرب الأهلية باتفاق الطائف في عام 1989. ورغم الخلافات السعودية- السورية بعد مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، فإن الرياض أنهت خلافا تاريخيا بين رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري والرئيس السوري بشار الأسد، وحرصت على استمرار التنسيق مع دمشق في الشأن اللبناني رغم الأزمات وعلاقات المد والجزر بين دمشق والرياض. ويبعث قرار الرياض على الحيرة؛ فوقف المساعدات للجيش وقوى الأمن يمنح أفضلية لـ"حزب الله"، لأنه الطرف اللبناني الوحيد، الذي حافظ على سلاحه وطوره في السنوات الأخيرة. كما أن وقف الهبة يطلق يد إيران في لبنان، ويدفعها مرة أخرى إلى تكرار عرضها بتسليح الجيش، خاصة أنها باتت تملك فوائض مالية بعد رفع العقوبات عنها بمقتضى الاتفاق النووي مع القوى العظمى. كما يخالف القرار السعودي التغيرات الحاصلة في صناعة القرار في السعودية، والتي خرجت عن السياسة المحافظة، المتبعة لعقود نحو الهجوم في البحرين واليمن وسوريا. ومن الواضح أن تحوَّل سوريا، من لاعب إقليمي مهم إلى ورقة في الصراع الإقليمي والدولي، أضعف النفوذ السوري في لبنان، والذي استمر عقودا طويلة، وكان حاسما في تسمية الرؤساء والحكومات، ووصل إلى إقرار قوانين الانتخابات. وربما كانت السعودية تنظر إلى أن الانتصار في المعركة في سوريا يفتح آليا على حسم الأمور في لبنان. فخسارة إيران في دمشق تفتح أبواب بيروت للرياض، وتضعف أعداء السعودية، وفي مقدمتهم "حزب الله"، الذي كان له نصيب الأسد في تبرير وقف الهبة السعودية للجيش اللبناني. ولا يمكن فهم الخطوة السعودية إلا في إطارين؛ الأول: دفع لبنان إلى الهاوية، وهو احتمال ضعيف لتوافق جميع القوى الدولية على النأي به عن تبعات الأزمة السورية منذ بدايتها. وأما الإطار الثاني، ولعله الأرجح، فهو إقحام لبنان كورقة في المعركة الإقليمية الكبرى مع إيران، وحصول الطرف الفائز فيها على لبنان كـ "جائزة إضافية" نتيجة حسم الموقف في سوريا. ومن الواضح أن الأزمة في لبنان ستتواصل وربما ستتفاقم. فشعار النأي بالنفس، الذي طرح منذ بداية الأزمة السورية، شعار غير واقعي، في ظل تشابك العلاقة بين سوريا ولبنان والتداخلات الإقليمية والدولية. ويبدو أن معادلة "سين –سين"، التي كانت عنوانا للتنسيق السوري- السعودي للمحافظة على استقرار لبنان، سوف تخضع لتفسيرات جديدة نتيجة التغيرات الحاصلة في سوريا بعد خمس سنوات على الأزمة، وربما فتحت أبواب الجحيم على لبنان بانتظار ما سوف يؤول إليه الصراع للسيطرة على سوريا. سامر إلياس