(عيدُ النَّوْرُوز، و حديثُ الذِّكريَات)

آخر تحديث 2016-03-21 00:00:00 - المصدر: باخرة الكورد

أمور كثيرة قامَ الدماغ بتثبيتها في ملف الذاكرة الطويلة، منها ثلاثة أمور جعلتْها ذكرى عيد النَّوْرُوز، في ملف المستندات الأَحدث استحضارًا اليوم؛ لما لها من صلةٍ بذكريات اجتماعيّة، ذاتِ بُعْد إنسانيّ حَمِيمِيّ، يُمثِّل فيها أحبابٌ من إخوتنا الكُرْد الشطر المحفوظ منها.
ـ الأوّل منها:
يعود إلى عام ( 1978م )، بعدما نجحْتُ من الثالث الإعدادي، و شعرتُ أنّني قد دخلتُ في طَور الفتوة، الذي يضعني في أولى مراحل الشباب، أردْتُ أن أقومَ بجولة تخرجني من قريتي الصغيرة إلى العالم الفسيح، فيمَّمْتُ وجهي صوبَ مدينة حلب، حيث مهوى أفئدة أبناء الريف، و فيها وجدتُ نفسي أستقلُّ سيارة تُقِلُّ الركاب إلى مدينة عفرين؛ لما كنْتُ أسمع من أخبارها من والدي رحمه الله الذي كان يتردّد إليها لكسب الرزق و الاِتّجار.
لقد استوقفني فيها طيبةُ أهلها مع هذا الشاب العربيّ، الذي بدَتْ عليه الغربةُ بدءًا من اللباس، و انتهاءً باللغة، و مرورًا بسؤاله عن خارطة تحركاته التي كانت أقربَ إلى العفوية الساذجة؛ فكأنّي المتنبي في شعب بوان.
ـ الثاني:
يعودُ إلى أيام الدراسة الجامعيّة في بغداد الجميلة، ما بين الأعوام ( 1984ـ 1988 م )، حيث شاءت الأقدار أن يكون أحدَ نُزلاء بيت حي القاهرة، الذي أقمتُ فيه في السنتين ( الثالثة، و الرابعة )، الأخُ الكرديُّ الحبيب، طالبُ كليّة الإعلام في جامعة بغداد، إبراهيم درويش ( و هو من عفرين أيضًا )، فكان نِعمَ الأخ و الشريك في المسكن، و الرفيق في الجامعة، و الزميلُ في الحقل الإعلاميّ لفترات طويلة، امتدّت من مرحلة الجامعة الأوليّة إلى الدراسات العليا في مرحلة الدكتوراه.
ثمّ مَنَّ الله علينا بدوام الصُحبة حتى اليوم؛ على الرغم من مُستقرِّه في باريس، بعيدًا عن السعوديّة حيث أقيم.
يُعجبُك في إبراهيم ( أبو المُنتصر الكردي ) كلُّ شيء، و يشدك إلى مجلسه الأنيس عباراتُه اللطيفة، و خُلُقُه العظيم، و أدبُه الجمّ، وثقافتُه العميقة، و يا ما أُحيلاها سَحْنَتُه الكُرديّة.
رعى اللهُ أيام ذاك المُشتَمَل ( البيت الصغير من طابقين )، حيث كنَّا شريحةً من المجتمع السوريّ المعروف بغناه الإثنيّ، و المجتمعيّ: إبراهيم ( كرديّ )، و نجدت ( شركسيّ )، و محمد و حسان ( حلب: المدينة )، و زهير، و أنا ( ريف إدلب الشماليّ ).
ـ و الثالث:
يعود إلى أيام كنتُ محاضرًا في الجامعة المستنصرية عام ( 1994م )، و كان من طلابي اثنان من أكراد مدينة كركوك، جمعتني بهما علاقة ودّ؛ لدماثة خلقهما، و لكونهما جيرانًا لزميل تركمانيّ كنّا معًا على مقاعد الدراسة الجامعيّة، و قد أحطتهما برعاية خاصة بعدما عرفتُ ضيق ذات اليد الذي كانا فيه، بعدما ألمَّ بالعراق ما كان من تداعيات حرب ( 1991م ).
كلُّ ذلك ليس موضع شاهد ذي مغزى، فيما أريد الحديث عنه من أمر ( أيوب، و محمد )؛ بل ما كان حُسْن صنيع أهلهما، حينما ألحَّا عليَّ بزيارتهم، في إحدى زياراتي لمدينة كركوك، حيث كانت أمُّهما قد أعدَّتْ لنا طعامًا شعبيًّا ادخرت ثمنه من مصرف شهرين كاملين، و لجهلِها بالعربية لم تجِدْ غير كلمة ( أنت على راسي يا دكتور )، لتعبِّر بها عن عظيم امتنانها، و شدّة فرحها بقدومي إلى بيتهم المتواضع، الذي كانت النظافة فيه باديةً للعيان، على الرغم من ضيق اليد الذي هم فيه.
تلك الأمور هي من جملة ما تحتفظ به الذاكرة من علاقات اجتماعيّة، مع مَنْ لقيتُهم من أهلنا الكُرد، الذين شظَّتْهُم الجغرافيةُ السياسيّة في القرن الماضي، ثمّ جاءت الأنظمة القوميّة الشوفينيَّة؛ لتزيد الطينَ بِلَّة و تسلبهم كثيرًا من حقوقهم الإنسانيّة.
حريٌّ بهذه الثورة أن تنصفَهم ممّا لحِق بهم من الحيف، و تُشركَهم في تقرير مستقبل سورية، و في اختيار شكل النظام الذي يرتضونه، ضمن توافقات مستقبليّة مع سائر مكوِّنات المجتمع السوريّ.
لهُم الأَكُفُّ ترفعُ عاليًا بذكرى عيدهم القوميّ ( النَّوْرُوز: اليومُ الجديد )، الذي يكون في ( 21/ 3 ) من كلّ عام، بمناسبة أول يوم في التقويم الشمسيّ عندهم؛ بغض النظر عن الروايات التاريخيّة عنه.