بقلم.. نزار حيدر
بينهما خيطٌ رفيعٌ جداً لا يكتشفهُ ليتعامل معه بحذرٍ الا الرّاشدون، ولذلك قال تعالى {أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} فرجلٌ رشيدٌ واحِدٌ يكفي لإنقاذ أمّة من الضّياع وتجربة من الفوضى.
وفي الازمات، كالأزمة الحاليّة، ينقسمُ النَّاسُ الى انواعٍ؛
*فمنهم من يعرف ما الذي يريدهُ ولذلك فانّ كل خطواتهِ محسوبة وواضحة فهو يفكّر بالمستقبل في الوقت الذي يسعى فِيهِ لتجاوز الحاضر المأزوم.
*ومنهم لا يعرف ما الذي يريدهُ فهو إمّعة من الأمّعات يجري خلف الاخرين من دون علمٍ او درايةٍ، اذا رفعوا أيديَهم رفع يدهُ معهم، والعكس هو الصّحيح، يردّد العبارات والمصطلحات التي يسمعها من الاخرين كالببغاء لا يفقهُ معناها ولا يعرف فحواها ولا يعي جوهرها.
هو جزءٌ من قطيع الغنم في حضيرة الدَّوَاب او في المرعى الذّي يَهُشُّ عليه الرّاعي، أَلزَّعِيمُ هنا.
*ومنهم من يعرف انّهُ يعرف انّ الطريق الذي يسلكهُ خطأ ولا يصل الى نتيجة إيجابيّة، فهو سَارَة فِيهِ للتخريب وليس للإصلاح وللتأزيم وليس للحلّ، وهم أولئك الذين لا يجدون انفسهُم الا في الازمات، ولذلك فانّ الأزمة بالنّسبة لهم الماء الزّلال الذي يسبحون به، والملجأ الذي يهربون اليه، مثلهُم كمثلِ اللصّ الذي يُطلق النّار لخلق الفوضى لتغطيةِ هربهِ.
*وآخرون يركبون موجة الأزمة كأَفضل طريقةٍ للهروب الى الامام، اي انّهم يقفُزون في الهواء فربّما ترفعهم الأزمة مرَّةً أُخرى وتعيدهم الى الصّدارةِ مثلاً او على الأقل تعيدُهم كأحد اللّاعبين الاساسييّن.
والمتتبّع لما حدث خلال الأيّام القليلة الماضية تحت قبّة البرلمان في بغداد، الى جانب الموقّعين على ما أسموهُ بوثيقة الشّرف، يلحظ انّ كل هذه الأقسام من النّاس موجودٌ في المشهد بطريقةٍ او بأُخرى، وكلٌّ حسب حجمهِ، طبعاً باستثناء التيّار الصّدري الذي بدأ يميّز نَفْسَهُ عن الاخرين منذ حوالي الشّهرين عندما أطلق مشروع الاعتصامات وما رافقها من تطوّراتٍ وخطابٍ سياسيٍّ جديدٍ بغضّ النّظر عن الموقف مِنْهُ، فانا هُنا أحلّل فقط.
في الأثناء تحرّكت الماكينة الإعلاميّة بشكلٍ واسعٍ جداً كأنشط أدوات الفوضى الخلّاقة، حاولت خلط الأوراق للتصيّد بالماء العكر، فكانت تحمل لنا شبكات التّواصل الاجتماعي، بمختلف أسمائها ومسمّياتها، في كلّ لحظة العشرات من الاخبار والسيناريوهات والصّور والافلام والبيانات والاستفتاءات التي تبيّنَ بعد أقلّ من (٤٨) ساعة انّها كلّها تقريباً كذب ومفبركة ومزوّرة ولا أساس لها من الصحّة ابداً، الغرض منها توظيف الأزمة لصناعة أبطال وهميّين جُدُد ولتبييض صور ووجوه بعض السّاسة الفاشلين والفاسدين.
كما انّ بعض هذه الوجوه الكالحة التي لم تجلب الخير للعراق، على حدّ قول الخطاب المرجعي، ذهب بها عريضة جداً جداً فتعامل مع الأزمةِ وكأنّها ثورة تصحيحيّة وإصلاحيّة حقيقيّة يقودها ملائكة هبطوا على مجلس النوّاب من السّماء، يهبط ملكاً ويصعدُ آخر، اذا به شكّل مكتباً خاصاً به مهمتهُ إصدار البيانات (الثّوريّة) لقيادة الثّورة الإصلاحيّة.
حقاً انّهُ لمشهدٌ مضحكٌ لدرجةِ البُكاء، فلستُ ادري كيف اقتنع بعض الذين يتصوّرون انفسهُم طليعة المجتمع وأنّهم نخبهُ الواعية، كيف أجازوا لأنفسهِم الانخراط مع العقل الجمعي الذي يتأَثّر عاطفياً عادةً مع مثل هذه الازمات؟ كيف سمحوا لأنفسهِم ان ينجرِفوا مع قاعدة (حشرٌ مع النّاسِ عيدٌ)؟ كيف أجازوا لعقولهم ان تصدّق الوهم وتثق بالسّراب؟.
انّ أمامنا الكثير من هذه الازمات وستتكرّر بلا شكّ لانّ حال العراق معقّدٌ جداً لا يمكن حلّهُ بهذه السّهولة والسّرعة التي يتخيّلها ويتمنّاها البعض، ولذلك فاذا كنّا سنتعامل مع كلّ أزمةٍ بهذه الطّريقة المنفلِتة والمنفعلة فعلى العراق السّلام.
العاقلُ يتعلّم من كلّ أزمةٍ دروسًا وعِبراً وتجارب وخبرة مُضافة ومُتراكمة، وغيرهُ يكرّر نفس الطّريقة وربما أسوأ منها.
واذا أردنا ان نتعامل بعقلٍ مع مثلِ هذه الازمات الخطيرة فانّ علينا جميعاً ان نقرّر ان نتعلّم وليس في التعلّم ضيرٌ او عيبٌ أبداً انّما العيبُ كلّ العيبِ ان يُكابر المرء فتأخذهُ الْعِزَّة بالخطأ رافضاً التّراجع او التعلّم مهما نصحهُ الآخرون او حتّى اذا تبيّن له خطأ خطواته، فعندها سيرسم نهايتهُ السّياسيّة بيدهِ كما فعلَ كثيرونَ من قبل.
فالذين تورّطوا بالتّوقيع على ما يُسمى بوثيقة الشّرف، ربما بسبب استشارةٍ خاطئةٍ (سيئة) عليهم ان يعودوا الى رُشدِهم السّياسي المعهود، او قل المفترض، كما فعل أَحدهم، فلا غرابةَ في ان يتراجع المرء خطوة اذا كانت تحقّق الصالح العام.
والذين انخدعوا ببعضِ المعتصمين المشهود لهم بالفساد والفشل من قمّة رؤوسهم الى أخمصِ أقدامهم، عليهم ان يتراجعوا عن دعمِهم لفرزهم، فليس كلّ ما هو دائريُّ الشّكل نتخيّلهُ جَوْزٌ ابداً، كما انّهُ ليس كلّ من سوّد وجههُ ثمّ قال انّهُ حدادٌ صدَّقناهُ.
وخيراً فعل زعيم التّيار الصّدري السَّيّد مقتدى الصدر اليوم عندما فرزَ الحشدِ المعتصم!.
والذين تداولوا سيلَ الاكاذيب والافتراءات والتّقارير والأخبار والصور المفبركة عليهم ان يتوقّفوا فوراً عن نشر مثلها والتّشكيك بمصادرها من الان فصاعداً، حتى لا يكونوا الظّهر المركوب والضّرع المحلوب كلّما ثارت فتنة.
وفي الأزمة؛
الف؛ كلّهم وظّفوا المقدّس، خاصة آيات القرآن الكريم، القاتل والمقتول والمتفرّج والأعمى ومن يظنُّ انّهُ بَصِيراً والجاهلُ ومَن يظنُّ انّهُ حكيماً والأحزاب والقبائل، كلّهم، وهو دليلٌ واضحٌ على انّهم يكذِبون القول ولا يصدُقون الحديث مع الشّارع.
باء؛ كلّهم وظّفوا الإنشاء في خطاباتهم وبياناتهم فلم يتقدّم لنا احدٌ منهم بمشروعٍ حقيقيٍّ، ما يعني انّهم كلُّهم لا يمتلكون رؤيةً للحلّ بعد ان اعمتهُم الحزبيّة الضيّقة والمصالح والامتيازات الفئويّة.
جيم؛ انّ من اكبر الأخطاء ان يندفعَ المرءُ بالاتّجاه الخطأ لتصحيح خطأ، وكأنّهُ امام خيارَين لا ثالثَ لهما.
ابداً، فأمامنا الكثير جداً من الخيارات الصّحيحة فلماذا نحصر تفكيرنا لاختيارِ أحد الخطأين دائماً؟.
دال؛ انّ ترحيل الأزمة ليست حلاً وهي ليست من خيارات العُقلاء عادةً الا ما ندر، لانّ التّرحيل يُراكمها حتّى تنفجر، خاصةً اذا كانت حقيقيّة وليست مُفتعلة، وانّ اسبابها وعوامِلها قائمة بالفعل ولا يدّعيها أَحدٌ.
ليست سياسة حافّة الهاوية تُصيب الهدف دائماً، فقد تُصيب الكلّ في مقتلٍ، فهي كالقنبلة اليدويّة بيدِ طفلٍ يلهو بها لا يعرف الا الله تعالى متى سيسحب فتيلها لتنفجرَ وتقتلهُم.