اخبار العراق الان

عاجل

الاقتصاد في زمن الكوارث

الاقتصاد في زمن الكوارث
الاقتصاد في زمن الكوارث

2016-10-17 00:00:00 - المصدر: NEN عراق


الكاتب / حاتم حميد محسن

مقدمة

لابد من الاعتراف ان الازمة الاقتصادية الاخيرة كانت من اعظم الاحداث اهمية. انها تركت تأثيرا عميقا على الحياة الاقتصادية وجسّدت تحديا للاقتصاديين والمستشارين الاقتصاديين على حد سواء. وبالنظر لما تقدّم سيكون بإمكاننا الافتراض ان تدهور الأداء الاقتصادي يمكن ان يقود الى تغييرات في علم الاقتصاد. الهدف من هذه الورقة هو لدراسة تأثير الركود الاقتصادي الأخير على الفكر الاقتصادي المعاصر. هذا المقال هو محاولة للإجابة على السؤال حول ما اذا كانت هناك امكانية لحدوث تغيير في النموذج السائد لعلم الاقتصاد.

 

للإجابة على السؤال لابد من مناقشة مصطلح نموذج او paradigm وهو ما تم في الجزء الاول من هذا المقال. بعد ذلك جرى تطبيق هذه الفكرة على تحليل تطور علم الاقتصاد ثم عرض النماذج السائدة في الاقتصاد لغاية زماننا الحالي. ان الديناميكية الداخلية للبحوث العلمية المتجسدة في محاولات توضيح الالغاز المستعصية وازالة عدم الانسجام في النظام النظري، وكذلك العوامل البيئية الخارجية كل ذلك يؤدي الى ظهور النماذج او الى رفضها. في موضوع الاقتصاد، يبدو الأداء الاقتصادي من بين تلك العوامل الاساسية. لهذا السبب فان العلاقة بين النظرية الاقتصادية والأداء الاقتصادي جرى عرضها في الجزء الثاني من المقال. اما الجزء الثالث يفحص مشكلة تأثير الانهيار الاقتصادي الاخير على التنظير الاقتصادي.

 

ان الجوهر الاساسي للمقال هو ما اذا كان من غير الممكن الاشارة بالضبط الى اي اتجاه يسير علم الاقتصاد السائد، الازمة تعطي حافزا قويا لمراجعة المفاهيم السائدة، وطرح اسئلة اكثر عمومية واهمية حول الحياة الاقتصادية، واختيار الطرق الملائمة والاكثر فاعلية في تحسين معرفتنا بالمظهر الاقتصادي للواقع الاجتماعي.

 

النماذج في علم الاقتصاد

 

ان فكرة النموذج paradigm هي احدى المفاهيم الاساسية في فلسفة وسوسيولوجيا العلوم. انها استُخدمت على نطاق واسع في مناقشة تطور البحوث العلمية وفي الاقتصاد بالذات. وطبقا لـ كوهين فان المصطلح يشير الى “… الانجاز العلمي المعترف به عالميا الذي يوفر في وقت ما نموذجا للمشاكل والحلول لجماعة المهنيين…”، وبشكل ادق هو نموذج او شكل مقبول من البحث العلمي ضمن مجال معين من الدراسة، يسمح للاكاديميين تعريف المشاكل والطرق الشرعية لحقل البحث ويوفر معايير لإختيار المشاكل التي يضمن النموذج ايجاد الحلول لها. عندما يتم استبدال نموذج بآخر، فان التغيير يسمى “ثورة علمية” (Kuhn 1970,pp-viii, 10,23,37).

 

وبالنظر للتاريخ القصير نسبيا للاقتصاد كعلم، ومع كتاب ادم سمث (ثروة الامم) الذي نُشر عام 1776 واعتُبر كعلامة مميزة، فانه من المدهش ان نرى ذلك الكم من النماذج والثورات العلمية التي كان مؤرخو الفكر الاقتصادي قادرين على ذكرها. وهكذا، بالاضافة الى معظم الثورات الشهيرة، اي، “الحدية” و “الكنزية”، فانه يمكن للمرء ان يجد في الادب الاقتصادي: “المنافسة غير التامة”، “النقديين”، “الكلاسيك الجدد”، اللوكانيين، “التوقعات الرشيدة”، الثورات “الاحصائية” و “الشكلية” وربما اكثر. انها يمكن قرائتها كعلامة بان تطور الاقتصاد يحدث بسرعة كبيرة وان النماذج المتولدة هي غير مستقرة وقائمة على اساس هش (ربما لا تستحق حتى الاسم) وانها دليل بان العلم غير ناضج وان مفهوم البحث العلمي طبقا لكوهين غير ملائم كليا لتحليل تاريخ الاقتصاد.

 

ولحسن الحظ، يتفق معظم المؤلفين بان اول نموذج تأسس في الاقتصاد كان النموذج الكلاسيكي. ولكن في تضاد مع فكرة كوهين، فان ظهور الاقتصاد السياسي الكلاسيكي لم يترافق مع اعادة تعريف للسؤال الرئيسي الذي اثاره سابقا المفكرون المهتمون بالمظاهر الاقتصادية للحياة الاجتماعية. ما كان يمكن ملاحظته هو ان التحول في الاهتمام – المشكلة العامة التي اثيرت في فترة ما قبل الكلاسيك حول ما يجب فعله لزيادة الانتاج من البضائع المفيدة – بقي كما هو، لكن في الفترة التجارية كان الجواب يأتي من وجهة نظر الملك والمحكمة، بينما في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بدأت الرؤية تتغير تدريجيا الى رؤية اكثر جماهيرية واجتماعية.

 

كوهين اشار ايضا الى ان ظهور النموذج الجديد “يتطلب” تعريفا صارما جديدا للحقل. في حالة الاقتصاد، المشكلة هي ان التعريف الصارم الاول و الاكثر قبولا للاقتصاد او الاقتصاد السياسي، يبدو انه نشأ في عملية تطورية. انه كان نتيجة لنقاشات حدثت بين الجيل الثاني والثالث من الاقتصاديين الكلاسيك،

 

مع ذلك، يجب ملاحظة ان عملية رسم حدود نطاق الاقتصاد انما حدثت ضمن النموذج الكلاسيكي وربما يُنظر اليها كخطوة نحو تماسك اكبر لهذا النموذج، وليس كمقترح لنموذج جديد.

 

ان التغيرات في المشاكل الرئيسية التي حقق بها الاقتصاديون حدثت بشكل اكثر تكرارا من التغييرات في تعريفات موضوع الاقتصاد. التحول الاكثر اهمية لهذا النوع حدث في الثلاثينات، مع ذلك فهو لم يكن متصلا بثورة كنز الشهيرة لذلك العقد – مصدر التعريف، الذي لا يزال يُستعمل اليوم، هو ليس النظرية العامة لكنز، وانما اطروحة روبن حول طبيعة واهمية علم الاقتصاد (1932).

 

النقاش في ما اذا كان الاقتصاد يستحق اسم “العلم الناضج” بقي كما هو. وبقدر ما يتعلق الامر بعلامات النضج الرسمية، يمكن للمرء القول بان الاقتصاد اكتسب النضج في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، الفترة المهنية له – حيث ظهور المؤسسات المهنية، وتأسيس كليات منفصلة لها الحق بمنح شهادات اكاديمية في الاقتصاد واصدار المجلات المهنية للمختصين. انتاج المجلات المتخصصة كان بسبب حقيقة انه في القرن اللاحق، كانت المساهمات الجديدة للنظرية الاقتصادية تأتي وبشكل اكبر من المقالات وليس من الاطروحات او الكتب. ذلك لا يعني انه من المستحيل الاشارة للنموذج المسيطر في التحليلات الاقتصادية الحديثة. الاتجاه الارثودكسي ربما لايزال يوصف بـ “الكلاسيكي الجديد”، رغم معارضة بعض المفكرين لذلك. ربما هناك حاجة للإعلان الصريح بان مصطلح “الاقتصاد الكلاسيكي الجديد” سيُستعمل هنا فقط لإعطاء اسم للاتجاه الذي سلكه اكثرية الاقتصاديين. عرض (lazear) صورة ربما تؤخذ كنقطة بداية مريحة لوصف جوهر الاقتصاد الكلاسيكي الجديد لما قبل الازمة (لاكاتوس، 1987، ص 73، 81). في وصفه لحالة الاقتصاد الارثودكسي في اعتاب الالفية الجديدة يقول لازير (2000، ص 99):

 

انا احب علوم الفيزياء، الاقتصاد يستعمل منهجية تنتج نتائج يمكن تفنيدها ويختبر هذه النتائج باستخدام اساليب احصائية قوية. الاقتصاد بالذات يؤكد على ثلاثة عوامل تميزه عن العلوم الاجتماعية الاخرى. الاقتصاديون يستخدمون بناء من الافراد العقلانيين المنخرطين في السلوك المعظم. النماذج الاقتصادية تخضع بصرامة لأهمية التوازن كجزء من اي نظرية. اخيرا، التركيز على الفاعلية يقود الاقتصاديين لطرح اسئلة تتجاهلها العلوم الاجتماعية الاخرى.

 

بكلمة اخرى، جوهر الاقتصاد الارثودكسي يرتكز على افتراض الاقتصاد الانساني homo ecomicus مع الاعتراف بالكائن البشري كمعظّم رشيد للربح و المنفعة، مفهوم التوازن والذي اعتُبر محصلة لهذين الاثنين – يمثل الدور المحوري لفكرة الفاعلية. اعلن لازير انه بسبب هذا الاتجاه فان “… الاقتصاد هو علمي، انه يتبع الطريقة العلمية في طرح نظرية شكلية قابلة للرفض، يختبر النظرية ويراجعها بالاعتماد على الدليل” واضاف بفخر ان “الاقتصاد ينجح متى ما فشلت العلوم الاجتماعية الاخرى”(2000 ص 102). سيادته تنبع من حقيقة ان الاقتصاديين بهكذا عمل هم قادرون على التنبؤ بمستقبل الاحداث (ص 100) وذلك “يسمح للاقتصاديين بعمل بيانات صريحة وواضحة للسياسة “.

 

ان الادّعاء الأخير يبدو نوعا ما ملفتا، طالما تسمح النظرية الاقتصادية الحديثة بغزارة لا متناهية من نصائح السياسة. غير ان هذه الرؤية تعزز الانطباع لدى العديد من المعلقين حول تطور علم الاقتصاد، بان طرق التحليل الاقتصادي هي اكثر اهمية من موضوعها حينما تأتي لتمييز النموذج السائد. الشيء المهم هو ان العلماء المنخرطين في تحليل محتوى الفكر الاقتصادي المعاصر، يشيرون الى الوجود المتزامن الحقيقي لمختلف الرؤى. هناك القليل او الكثير من خطوط التقسيم العميقة ضمن اطار النموذج السائد، غير ان “اتجاه النمذجة في المشاكل” يبدو عنصرا شائعا لدى جميع المدارس الارثودكسية.

 

عند التفكير في تأثير الاضطراب الاقتصادي الاخير على حالة علم الاقتصاد، نستطيع السؤال اي من تلك المدارس المتنوعة يمكنها اعطاء احسن تشخيص للركود الاخير في الاقتصاد العالمي. او ربما السؤال عن منْ هو القادر على توضيح الازمة الاقتصادية الاخيرة بطريقة اكثر اقناعا ويقدم اطروحة جديدة يمكنها ان تجذب غالبية الاقتصاديين؟ هل نستطيع توقّع رفض نموذج الكلاسيك الجدد وظهور نموذج جديد؟

 

الاقتصاد والأداء الاقتصادي

 

عند دراسة تطور علم الاقتصاد والعلوم الاجتماعية الاخرى، تنقسم العوامل التي تقرر التحول والتغيير في النماذج السائدة الى صنفين رئيسيين: داخلية، تأتي من الديناميكية الداخلية للموضوع و تلك التي تعتبر خارجية له. عندما نركز الاهتمام على مجموعة العوامل الداخلية، فان التحليل يتم طبقا للاتجاه التجريدي. اما عندما يتم التأكيد على العوامل الخارجية، اي، العوامل السياسية والتاريخية والمؤسسية، فسيكون حديثنا من منظور نسبي. كوننا مطلعين على وجود هذين المصدرين المحتملين لتطور الاقتصاد، فان السؤال الذي يقترح ذاته هو: هل هناك اي تطابق بين حالة التنظير الاقتصادي والأداء الاقتصادي؟

 

فمن جهة، يقترح موضوع علم الاقتصاد ارتباطا قويا بين الاثنين. وفي فترات الرخاء والركود تحدث بعض التغيرات الثانوية او الرئيسية في الحياة الاقتصادية، والذي يعني ان قضايا الموضوع تتطور. وعليه، يصبح مطلوبا ايضا اجراء عدة تغيرات مماثلة في علم الاقتصاد. ومن جهة اخرى، نجد ان ثورة المؤسسات الاقتصادية، طرق الانتاج، رغبات المستهلك، والمتغيرات الاقتصادية الاخرى، تحدث في كل الاوقات، وان الهدف الرئيسي لعلم الاقتصاد هو الاشارة الى العناصر العالمية، واكتشاف المبادئ العامة المؤطرة للحياة الاقتصادية. ولذلك، لازال السؤال قائما وهو، ما عمق تاثير الركود الاقتصادي على علم الاقتصاد.هل الازمة الاقتصادية تكفي لخلق ثورة علمية؟.

 

يبدو من الواضح عدم وجود ربط مباشر او اي نوع من الآلية العالمية. العلاقة هي اكثر غموضا. مع ذلك، اجتماع المعرفة بتطور الفكر الاقتصادي مع المعرفة بالتاريخ الاقتصادي يسمح لنا بملاحظة الترابط المتبادل بين الأداء الاقتصادي وتطور الفكر الاقتصادي منذ الربع الاخير للقرن التاسع عشر حتى اليوم. يبدو كما لو انه في وقت الازدهار يتجه غالبية العلماء للتركيز على تقوية الاتجاه السائد او على الاقل العمل ضمن حدوده. من الواضح، نرى دائما امكانية ان نجد العلماء يرفضون النموذج الارثودكسي (او بعض عناصره)، لكن تأثيرهم على الحقل هو اصغر مما في اوقات الانحدار الاقتصادي. من جهة اخرى، يؤدي تدهور الأداء الاقتصادي الى نمو النزعة للبحث عن مفاهيم جديدة غير ارثودكسية ورؤى اوسع للفعالية الاقتصادية.

 

ليس من الصعب العثور على الاسباب المحتملة وراء هذه الاعتمادية المتبادلة. ففي فترات الاستقرار الاقتصادي او النمو فان الحوافز للبحث عن تفسير للمشاكل الاقتصادية التي قد تحدث في المستقبل اللامتوقع تكون ضعيفة جدا. ولأن العمل ضمن اطار النموذج السائد يسهّل عملية القبول الاول والتزايد السريع للمساهمات المعروضة، فان محاولة حل الالغاز او ازالة عدم الانسجام في النظرية السائدة ربما يُنظر اليها من جانب العديد باعتبارها اكثر املا. ان مقدار الوقت والجهد الذي يجب ان يُخصص لتأسيس واشاعة نموذج مختلف ربما يصرف العديد من الاكاديميين عن اجراء المحاولات. عندما يتدهور الموقف الاقتصادي، خاصة عندما تبرز مشاكل جديدة، ويصبح من الصعب حلها بوسائل التحليل المألوفة، فانها تضعف قوة منطلقاتها وتشل دوغما الاقتصاد الارثودكسي. ذلك لايعني بالضرورة ان جميع ممثلي الاتجاه السائد مستعدون لإلغاء سريع وصريح لجميع عقائدهم السابقة. في الواقع، يبقى بين العلماء من لم يهتز ايمانهم بصرف النظر عن الاحداث الاقتصادية المؤذية. غير ان الرغبة للنظر الى ما وراء التقليدي والسائد هي اكبر في اوقات الكوارث منه في اوقات الرخاء. ومع ان الازمة لا تؤدي دائما الى ظهور نموذج جديد، لكن الهبوط الاقتصادي يخلق شروطا مسبقة لتغيير جوهري في علم الاقتصاد.

 

هناك عنصر اخر يضاف الى الصورة وهو السياسة الاقتصادية وتأثير النظرية الاقتصادية عليها. بما انه لا توجد علاقة سبب-نتيجة صارمة بين الأداء الاقتصادي وعلم الاقتصاد فلا يوجد هناك ربط مباشر ولا اي نقل اوتوماتيكي للتنظير الاقتصادي الى السياسة الاقتصادية. يجب الاشارة هنا بانه حتى في المراحل المبكرة من تطور الاقتصاد كعلم منفصل نحن نستطيع العثور على اتجاه ليس فقط يتجاهل اعتماد السياسة الاقتصادية على النظريات الاقتصادية، وانما ايضا يُضعف بشكل حاد دور المستشارين الاقتصاديين (cairnes 1861). على سبيل المثال، منذ اواسط القرن التاسع عشر جادل كيرنس ان الاقتصاد السياسي “لا صلة له بمبدأ عدم التدخل وبصلته الكبيرة مع الشيوعية”، حتى عندما لا يصدر الاقتصاد السياسي ” حكما على قيمة ومدى الرغبات بالغايات المقصودة في مثل هذه الانظمة”. بيانات في اتجاه مشابه عرضها روبنس (1932)، وهو العمل الذي لايزال له تأثير عميق على الطريقة التي ينظر بها الاقتصاديون لحقلهم.

 

ورغم هذا الخط من التفكير، سيكون من الصعب انكار ان النظرية الاقتصادية تمارس تاثيرا على السياسة الاقتصادية، لا يهم كم هو تأثير غير مباشر او معقد. حتى عندما يتفق المرء مع رؤية روبنس للمستشارين الاقتصادين كمتخصصين محايدين كليا، لايستطيعون عمل اي شيء اكثر من الاشارة الى اي من الوسائل المحتملة ستقود الى الاهداف المختارة من جانب السياسيين، فلابد من الاعتراف ان تلك الوسائل ستُقيّم على اساس نموذج الواقع الاقتصادي الذي يقبله الخبير الاقتصادي. هذا يشير الى انه في جميع المجتمعات التي يُسئل فيها المستشارون الاقتصاديون عن ارائهم في المشاكل الاقتصادية (والتي تبدو غالبيتها في المجتمعات المتطورة حديثا)، كان للنظرية الاقتصادية تأثيرها على السياسة الاقتصادية.

 

ايضا، يُتوقع من المستشارين الاقتصاديين عمل اكثر من تصنيف ما هو ممكن وما هو غير ممكن، وهو ما اشار اليه Blaug (1992) ونلسون (2001)، و(sedlacek) 2011، الذي كان يعمل ذاته كمستشار اقتصادي. المستشارون سئُلوا ليقرروا اي الحلول افضل وايها اسوأ. وكما حدد (Blaug): “… لسوء الحظ، تسعى النصيحة الاقتصادية لتوضيح ليس فقط دالة الامكانية، وانما ايضا دالة التفضيل. صانع القرار يبحث عن نصيحة في كل من الهدف والوسيلة… بكلمة اخرى، هو لا يحاول الحصول على ما يريد، بل هو يتعلم ما يريد عبر تقييم ما يحصل عليه “(Blaug 1992 pp129-130 ). واذا كان الامر هكذا، فان تأثير الأداء الاقتصادي على علم الاقتصاد سيصبح اكثر قوة بفعل الافكار الايجابية والسلبية حول السياسة الاقتصادية التي يُنظر اليها كنتاج لنماذج او نظريات معينة. من المعروف انه في اوقات الاضطراب الاقتصادي، تتعرض السياسة الاقتصادية للنقد وهو ما شهدناه في السنتين الاخيرتين.

 

في الديمقراطيات المعاصرة، وحيثما تكون قوة الاعلام الجماهيري ساحقة وقضايا الراي العام كثيرة، فان المشاكل الاقتصادية يتم مناقشتها بحرارة وبصراحة عاليتين. وبالنتيجة، فان الركود قد يوقف بسرعة الركائز الساندة للمستشارين الاقتصاديين (والى حد ما علم الاقتصاد ايضا). وعندما تهتز امتيازات المهنة، سيكون من الصعب على الاقتصاديين إبعاد انفسهم كليا عن النقد. هذا يعطي حافزا قويا للإجابة واعادة النظر في الاتجاهات المتبناة سابقا. بهذا العمل، ستؤدي الأزمة الى انفتاح الباحثين وبشكل كبير على المفاهيم غير الارثودكسية. بعض التوضيحات لهذا التأثير يمكن العثور عليها في ظهور الاقتصاد الكلي. فمثلا، ظهور الشعبية المتسارعة لاتجاه الاقتصاد الكلي كان محصلة للكساد الكبير في الثلاثينات، بينما انهيار الاقتصاد الكنزي ترافق مع انتصار النقدية، اما الاقتصاد الكلاسيكي الجديد نُظر اليه بعد اربعة عقود، كنتيجة لأزمة السبعينات.

 

متى ستحدث الثورة في النظرية الاقتصادية؟

 

وفق السياق الحالي، من الصعب تجنّب التفكير في الركود الاقتصادي الأخير وعلاقته بالنظرية الاقتصادية. انه جدير بالأهمية طالما ان الموقف الحالي هو غير عادي لعدة اسباب. فمن جهة، ووفق العديد من المصادر نجد ان الازمة تجسدت كنتاج للسياسة الاقتصادية الليبرالية الجديدة المتجذرة في الاقتصاد الكلاسيكي الجديد. اعتذار آلن غرينسبان امام الكونغرس الامريكي، المقالات المقروءة على نطاق واسع لبول كروغمان (كروغمان 2009) التي تتنبأ بضرورة عودة السادة – كل ذلك يندرج ضمن التبرير القوي لذلك الموقف. ومن جهة اخرى، نحن نسمع العديد من الاصوات البارزة والهامة تشير بنفس المقدار الى ان السياسة الاقتصادية التي انتُهجت قبل الازمة كان لها القليل من المشتركات مع القيم الليبرالية ومبادئ الفكر الاقتصادي الكلاسيكي الجديد. ومن هذه الرؤية، لا يجب ان يُعامل الركود الاقتصادي كنتيجة للعملية الليبرالية او لتطبيق المقترحات المنبثقة من الاقتصاد الكلاسيكي الجديد وانما هو نتيجة غير مباشرة لخضوع السياسة الاقتصادية للأهداف السياسية القصيرة الأجل.

 

ان جوهر هذا الجدال يمكن التعبير عنه في ما يتعلق بالنقاشات اللامتناهية عن الأهمية النسبية للسوق مقابل فشل الحكومة. من الملفت اننا عند تحليل الموقف الحالي لهذا النقاش ربما يحصل لدينا انطباع بان كلا وجهتي النظر حول الازمة هما بنفس المقدار من القوة او الضعف. وعلى عكس الموقف بعد الأزمة الاقتصادية السابقة في القرن العشرين، هذه المرة لم يجر الإخلال بالتوازن لمصلحة اي جانب. التفسير لهذا ربما تجسّد في المشاكل الميثدولوجية العميقة التي شملت جميع الاتجاهات الرئيسية في الاقتصاد المعاصر. وكما ذكرت McCloskey(1989,2002)، ان الاقتصاد لم يتعلم الدرس الناجم من النقاشات التي حدثت في القرن العشرين في فلسفة العلوم وهو متحفظ لمواجهة نتائج التناقضات في الوضعية المنطقية. موقف (لازير) في الجزء الاول من المقال يأتي توضيحا لذلك.

 

معظم الاقتصاديين لازالوا مؤمنين بنموذج البحث العلمي القائم على افتراض ان المقياس النهائي لصلاحية النظرية هو تاكيدها بالحقائق. ان الدور الكبير للدليل التجريبي يبرز من الايمان بان الحقائق هي شيء مستقل تماما عن النظرية، لذا فهي يمكن ويجب اعتبارها الملاذ الاخير. العمل في سايكولوجيا وسوسيولوجيا العلوم يبين ان الطريقة التي نتصور بها الحقائق تعتمد على ما لدينا سلفا من نظام للمفاهيم والتصورات المسبقة (fleck 2006). مع اخذ ذلك في الاعتبار والعودة الى قضية رد فعل الاقتصاديين للازمة الاخيرة، يمكن للمرء الاتفاق مع Schener(2013a) الذي حلل المناقشة الشهيرة بين كروغمان 2009 وكوران 2011 وهما يمثلان اتجاه الكنزيين الجدد (كروغمان) والكلاسيك الجدد(كوران)، ليصل الى استنتاج بان كلا المعارضين يرون الحقائق من خلال العدسة التي ينظرون بها للحياة الاقتصادية ويفسرانها لمصلحة النموذج الذي يؤمنان به. كلاهما صحيح ضمن حدود نظريتيهما، لكن اي منهما غير قادر على اقناع الآخر. يرى Scheuer ان كبار الاقتصاديين في الاقتصاد المعاصر يؤسسون انفسهم على قاعدة صلبة من النماذج النظرية للواقع الاقتصادي لما قبل الازمة، ولا يرغبون في البحث عن اي شيء اخر يتجاهل تلك. هو يرى ذلك مؤشرا لعدم توقّع اي تحوّل خطير او تغيير بالنموذج الاقتصادي كنتيجة للأزمة الاخيرة (Scheuer 2013b).

 

من الجدير بالذكر ان الازمة كانت مدهشة لغالبية الاقتصاديين ورغم محاولات توضيح جذورها ضمن اطار من العقائد السابقة، فهي سببت الاستياء لأن الاطار لم يكن جيدا في التنبؤ بها. هذه التجربة تعطي الحافز لإعادة التفكير اولاً بالمبادئ. كان الفشل حافزا للتفكير العميق وإعادة تاسيس قواعد ميثدولوجية واعادة دراسة ليس فقط محتوى النظرية الاقتصادية وانما ايضا الطرق المقبولة في اختبار الفرضيات، والعلاقة بين النظرية الاقتصادية والحياة الاقتصادية ودور الاقتصادي في المجتمع.

 

ان الاضطراب الاخير في الاقتصاد العالمي قد فتح الباب لتغيير النموذج السائد. غير ان السؤال عن احتمال حدوث ثورة علمية سيبقى قائما.هناك امكانية للاشارة الى بعض عناصر النموذج الرئيسي السائد التي عانت بشدة من الأزمة. من بين هذه هناك ثلاث مجالات يجب ذكرها:

 

1- النظرية الرئيسية للطبيعة الانسانية التي نالت القبول من جانب الارثودكس، اي، مفهوم الانسان الاقتصادي homo ecomicus وهو مفهوم يصف الانسان ككائن عقلاني يتصرف وفق مصلحته الذاتية. يسعى الانسان الاقتصادي الى تعظيم المنفعة كمستهلك وتعظيم الربح كمنتج. هذه النظرية تقف في تضاد مع الاقتصاد السلوكي الذي يختبر السلوك الاقتصادي الحقيقي. اول من استخدم المصطلح هو جون ستيوارت مل في اواخر القرن التاسع عشر ضمن اطروحته في الاقتصاد السياسي. يرى مل ان الانسان يسعى الى اكبر كمية من الضروريات والراحة والرفاهية باصغر كمية من العمل وإنكار الذات. فكرة الانسان العقلاني تعني انه يسعى لمصلحته الذاتية بأقل كلفة وأقل عمل. وبالرغم من جاذبية مفهوم الانسان الاقتصادي، لكنه تعرّض الى نقد شديد ومنذ البداية. النظرية تنقصها الواقعية وهو ما يؤثر سلبا على جميع الاستنتاجات المرتكزة على ذلك النموذج. كذلك نتائج الافتراضات الضمنية للعقلانية، والسمة التوتولوجية لمفهوم تعظيم المنفعة والتركيز على الانوية كل ذلك تعرض للهجوم الشديد من جانب المدرسة التاريخية الالمانية.

 

2- رؤية الاقتصاد كعلم وضعي متحرر من القيمة. الاقتصاد الوضعي يتعلق بوصف وتفسير الظاهرة الاقتصادية وذلك بالتركيز على الحقائق وعلاقات السبب – النتيجة، ويتضمن تطوير واختبار النظريات الاقتصادية. انه يقوم على ما هو كائن وليس على ما ينبغي ان يكون، كونه يتجنب إصدار الأحكام والقيم الاقتصادية، فمثلا هو يصف كيف يؤثر النمو في عرض النقود على التضخم، لكنه لا يعطي اي تعليمات عن السياسة التي يجب اتباعها. النقاد اعترضوا على فكرة الاقتصاد المحايد المتحرر من القيم واعتبروا تحرير الاقتصاد من الاحكام القيمية مسالة تافهة، فمن الصعب جدا عدم التفكير في الجانب الاخلاقي من المشكلة. معظم نقاشات الاقتصاديين تتجذر عميقا في المعتقدات والقيم التي تؤثر في الطريقة التي يتصورون بها الظاهرة وما يحدث من عمليات في الحياة الاقتصادية. وهكذا، فان القيم هي هامة لكل من الفاعلين الاقتصاديين والعلماء الذين يقومون بتحليل سلوكهم.

 

3- الادّعاء بان الاقتصاديين يمتلكون الأدوات والبيانات لإعطاء تنبؤات موثوقة.

 

ان الازمة الاخيرة زعزعت مثل هذا الانطباع ان لم تحطمه، وهو الامر الاكثر ايلاما لرجال المهنة. انه يضعف بشكل كبير من مكانتهم كرجال مؤهلين للتبشير بالحظ. الطرق المتبعة في التنبؤ اثبتت عدم كفائتها في حماية الاقتصاد العالمي من الاهتزازات. ورغم التقدم في الطرق الاحصائية والايكونومترك فان عدم اليقين يبقى جزءا هاما من الحياة الاقتصادية.

 

Mcclskey(2002) وTaleb(2013) يؤكدان ان الاساليب المستخدمة من جانب الاقتصاديين واصحاب المهنة ككل، ليست مفضلة. سيكون من الصعب تغيير او استبدال تلك الاساليب وربما اصعب بكثير من استبدال النظرية السائدة للطبيعة الانسانية او جعل الاقتصاديين واعين بانهم غير قادرين على تحرير انفسهم من الاحكام القيمية. المشكلة هنا مزدوجة. اولا، انها ممارسة راسخة ومتجذرة في قلب الاقتصاد المعاصر، والذي يعني من الصعب استبدالها باي شيء اخر. وثانيا، ان الادوات الاحصائية المستخدمة هي ليست فقط في التنبؤ بمستقبل الاحداث الاقتصادية وانما هي ايضا تصادق على صحة النظريات الاقتصادية. وهكذا فهي مندغمة بعمق في النموذج الاقتصادي.

 

استنتاج

 

يبدو ان خلق نموذج جديد او تجديد النموذج القديم يحتاج ان يتشكل باسلوب لحل او استبدال او ازالة هذه المفاهيم الثلاثة المسبقة. بالنسبة للقضيتين الاولى والثانية، نجد بعض الطموحات لتغيير الاتجاه الارثودكسي جاءت ضمن المفاهيم التي صيغت على هامش التيار الرئيسي من جانب الاقتصاديين التطوريين والسلوكيين والتجريبيين والمؤسسيين. بينما العنصر الثالث يبدو هو الاكثر اشكالية، لأن تغييره مرتبط بالتحول الهام في الطرق المستخدمة في تبرير الفرضيات الاقتصادية. ربما الهدف الأسهل لتحقيق التغيير هو تعزيز اتجاه اكثر تواضعا في الاعتماد على النتائج المحتملة التي تعطيها النماذج الكمية. هذه النتائج المتحصلة لابد ان تجد مكانها في علم الاقتصاد والسياسة الاقتصادية رغم ان الأزمة الاقتصادية الاخيرة اثارت الشكوك حول مدى صلاحية تلك النتائج.

شبكة النبأ المعلوماتية

الاقتصاد في زمن الكوارث