اهوار العراق .. جدلية الحياة في مملكة القصب
الكاتب – سوزان الشمري
بعد شوق طويل تنامى كهاجس رسام يعشق الخيال ويصور الطبيعة ارتسمت بمخيلتي لوحة “لفينيسيا” لكنها فينيسيا بتربة ارض الرافدين, حلم راودني منذ الصغر وامتلكني عنفوان الرحيل اليه, فقد كان والدي يروي لنا في ليالي الشتاء الباردة أيامه في الجيش حيث كان هناك في اهوار الجنوب بمحافظة ميسان ليصور لنا جمال يسحر الأبصار ويحلق بنار فوق طبيعة اعتقدنا انها ليست بيننا. اذ شاءت الأقدار ان ازور بصحبة والدي الخمسيني محافظة ميسان حيث النهر والسمك والقصب الشامخ كشموخ سكانه، ليغادر البصر مسرح الواقع منذهلا امام معجزة طبيعية تعرف بالاهوار. او كما يسميها الباحثون والمستكشفون الاجانب بـ (فينيسيا العراق) او (جنة عدن).
نعم (الاهوار).. تلك المساحات المائية التي استوطنها الانسان منذ نحو ما يزيد على الخمسة الاف سنة كانت تعد حتى قبل بضعة عقود من الزمن محطة استراحة للطيور المهاجرة من اسيا الى افريقيا وبالعكس وموطنا للكثير من انواع الاسماك والطيور، فضلا عن انها كانت حاضنة لانواع من النباتات والمزروعات واهمها قصب البردي الذي يمثل عنصرا اساسيا في عمارة بيوت الاهوار واكواخها العائمة في هذه المنطقة التي شبهها البعض بمدينة (فينيسيا الايطالية). والتي تتشابها من ناحية الشكل والمناخ ودرجات الحرارة حتى سميت اهوار العراق توأم (فينيسيا) والعكس صحيح.
تاريخ السياسات المتخبطة
يروي لنا الحاج عبد الكريم السويعدي وهو رجل ستيني انحدر من هور الحمار اقصى جنوب محافظة ميسان عاصمة “اهوار الجنوب” وهاجر الى بغداد بعد الحرب العراقية الايرانية وجفاف الاهوار فيقول بألم يعتصر ذاكرة القلب “كنا نسكن الاهوار وهي بالنسبة لنا جنة الله في الارض, كانت تزدهر بالمسطحات المائية والقصب والبردي والبيوت التي تطفو عليها قبل تدخل النظام البائد الذي عمد الى تخريب كل شي جميل ليس في محافظة ميسان فقط وانما في العراق بشكل عام اذ كانت الاهوار تمثل منتجعا سياحيا يزورها الاف السياح سنويا بالاضافة الى انها تعتبر الموطن الاصلي لعدد كبير من الطيور المتنوعة التي تهاجر من والى مختلف دول العالم”.
ويتداخل حوارنا المسائي خلال جلستنا بديوان الحاج عبد الكريم صديقه الحاج أبو رحيم والذي ناولنا فنجان قهوة عراقية اصيلة ليقول بغبطة وحزن “سياسة القمع التي انتهجها النظام السابق، تجاه سكان الاهوار والجنوب بالخصوص بلغت ذروتها مع تجفيف مستنقعات الأهوار بشكل متزامن مع بناء سدود ضخمة في تركيا وسورية، أدّت إلى انحسار تدفّق مياه دجلة والفرات. وتدهور الوضع بشكل مُزرٍ في منطقة كانت واحة طبيعية بكل معنى الكلمة وأكبر منطقة رطبة في الشرق الأوسط.
الاهوار منطقة طوفان نوح (ع)
يقول الكاتب والاعلامي حامد فريج” نفتخر بان اهوارنا كانت موطناً أزلياً لواحدة من أعرق الحضارات وهي الحضارة السومرية وكذلك فإنها في الافتراض التأريخي وقراءة لقصد الميثولوجيا والقصص فإنها كانت المكان الذي حصل فيه الطوفان وابتدأ منه نوح (ع) رحلته الإيمانية وغيرها لذا فإن أور هي مدينة كانت يوما ما ميناء ومحطة تجارية للسفن التي كانت فيها سومر تنقل تجارتها عبر الأهوار ومسطحاتها المائية الى المناطق البعيدة مثل دلمون (البحرين) مكان (سلطنة عمان) بلاد السند والهند وافغانستان، وكذلك كان هذا المكان ومكوناته يشكلان محمية طبيعية تقي المعتقد أو الدين من التعسف والاضطهاد الذي يمسه كما ان فسحة التأمل وجمالية المكان تعطي لتلك الرؤى بهجة التأمل والتعبد والالتجاء كما في الديانة المندائية وبعض الحركات الثورية في العصر العباسي الثاني كالقرامطة والزنج وغيرها، إذن الماء هو روح طبوغرافية الأهوار والحاضنة الحياتية للموجودات التي رأت في هذه الطبوغرافية المكان الملائم لديمومة وجودها والاستمرار معه، الاهوار هي سحر الجمال وخفايا الطبيعة وعمق التاريخ وامتداد الحضارات لا يعرف اسرارها الا من عاش على ضفافها ومارس الحياة فيها.
سمفونية الاهوار
يتجلى الإرث الحضاري للجنوب العراقي الذي شيدت على أرضه أهم الحضارات البشرية مثل السومرية والبابلية والاكدية. في الغناء الريفي المتأثر بالبيئة التي احتضنته بسهلها وخصوبة أرضها والأنهار التي ارتوت منه، هذا ما قاله لنا الاستاذ صلاح حسن باحث اجتماعي وناشط حقوقي في منظمة شط العرب الانسانية الثقافية, معرجا “صوت الغناء الريفي ياتيك من كل صوب و ناحية تنقله اليك امواج المياه الهادئة وكأنه سمفونية سومرية تعود بك لسبعة الاف عام من العصور الغابرة فكلمات جواد وادي وصوته الشادي أصداء ترن ذكرياتها وكأنها لوحة موناليزيه رسمت بريشة فنان عبقري لتسطٌر لنا سرمدية وخلود الاهوار الابدي الذي يحكي لنا اسطورة عمق و عراقة الحضارة السومرية, (مشحوفي طر الهور والفالة بيدي). أنها صور”حية وشواهد من الحضارة القديمة لتلك البيئة التي جمعت بين عمق التاريخ الحضاري للعراق والتاريخ النضالي الثوري لسكان الاهوار فالمشحوف واسطة نقل سومرية والاهوار (البطحة) بيئة سومرية والفالة وسيلة صيد سومرية قديمة.
ويضيف “الإرث الموسيقي للمنطقة، يتجلى باكتشاف أولى الآلات الموسيقية، كالقيثارة في الحضارة السومرية (أكثر من 7 آلاف سنة) والتي تعد اقدم آلة موسيقية وترية عرفها الإنسان، وآلة العود في الحضارة الأكدية، وهي أول آلة موسيقية ذات ذراع عرفها الإنسان (4500 سنة).اذ يوفر انسياب القارب البطيء بسلاسة على مياه الأهوار، باعتباره الوسيلة الأهم للتنقل هناك، إيقاعاً بطيئاً انسيابياً في الموسيقى يختلف عن إيقاع المدينة الصاخب وأي إيقاع آخر في أي ريف آخر، سواء كان جبلياً أو صحراوياً.
المشحوف والبلم
وعن ذكريات الزمن الجميل يأخذنا الشيخ” أبو محمد المحمداوي في رحلة خيالية بين اهوار ميسان يسترجع ايام صباه وهو يعتلي مشحوفه ليستسرق خلسة الناس بغية ان يحظى بنظرة عطف وحب من رفيقة دربه وحبه القديم الجديد “ام محمد” والتي كما يقول غنيت المواويل واقرحت العيون لعشقها وبحسب كلام ابي محمد فإن عشقه يقارب عشق زليخة ليوسف.
والمشحوف، سمة الهور الأولى، هي مفرد مشاحيف: قوارب خشبية تفرد سكان الأهوار في صناعتها منذ القدم، تمتاز بقدرتها على التحرك بسهولة في المستنقعات ذات المياه الضحلة لأنها خفيفة الوزن مصممة بطريقة تجعلها أكثر انسيابية من القوارب الأخرى،.ويدخل المشحوف في جميع مفاصل حياة سكان الاهوار، فهو لصيد الطيور والاسماك والنقل من مكان إلى آخر. ويقترن المشحوف بعمود خشبي طويل لتحريكه ودفعه يدعى المردي. لكن غالبية المشاحيف اليوم أصبحت مجهزة بمحركات حديثة تعمل بالوقود، ومع ذلك لم تتراجع الحاجة إلى المردي.
ويتفق المؤرخون على أن فضل ابتكار المشاحيف يعود إلى السومريين قبل أكثر من خمسة آلاف سنة. بالإضافة إلى المشحوف توجد في مناطق الأهوار قوارب من نوع آخر منها ما يعرف بـ”البلم” و”الكعدة”، لكن صيادي الأسماك والطيور المهاجرة ورعاة الجواميس هم الأكثر تعلقاً بالمشاحيف، بحكم طبيعة عملهم الذي يتمتعون به وهم ينشدون المواويل على أنغام الناي المصنوع من القصب.
الاهوار والمستشرقين
عالم الاهوار سحر الرحالة والمؤرخين والباحثين، ومنهم السير ولفريد ثيسجر الذي أقام فيه سبع سنوات وألف كتابا اسماه “رحلة إلى عرب أهوار العراق”، كما زاره المستشرق كالفن ماكسويل وكتب مؤلفا شهيرا حوله، وأطلق على المنطقة اسم “مملكة القصب”.
وتقدر المساحة الأصلية للاهوار بحوالي 7700 كم2 وكانت تتكون من البحيرات الكبيرة التي تتخللها جزر صغيرة سكنها الناس وزرعوها بمختلف المحاصيل والأشجار، معظمها تقع بين نهر دجلة والفرات ضمن اطراف ثلاث مدن هي العمارة والبصرة والناصرية وتعتمد مصادر تغذيتها على كميات الامطار والثلوج الساقطة في منابعها الرئيسية اما اكبر الاهوار فهو هور الحويزة وتبلغ مساحته 2863 كيلو مترا مربعا.
ويليه هور الحمار الذي تبلغ مساحته 2441 كيلو مترا مربعا وقد تعرضت اغلب مساحات الاهوار في بداية التسعينيات الى عملية تجفيف ما ادى الى انحسار المياه من اغلب المساحات وبقيت اماكن قليلة شكلت بركا صغيرة، وتحول المستنقع المائي الكبير الى اراض جافة وغطى الملح بعض اجزائها وبدأت تظهر انواع جديدة وغريبة من الارض والاحياء التي لم تكن تعرفها المنطقة.
الامر الذي دعا وزارة الموارد المائية الى تشريع قانون نهاية العام 2008 لتشكيل مركز انعاش الأهوار العراقية وهو تشكيل مستقل ذو وحدة حسابية كبقية تشكيلات الوزارة الأخرى والهدف من هذا المركز جاء لبلورة دور الوزارة في كيفية إنعاش الأهوار وإعطاء هذا الإقليم في المحافظات الثلاث وهي البصرة والناصرية والعمارة واحدا من أهم مستلزمات حوض وادي الرافدين وبحسب مدير عام مركز انعاش الاهوار العراقية عبد الكاظم لهمود ياسر: “ان المركز تمكن من انعاش ما نسبته 38.5% من الاهوار العراقية ووصلت نسبة الاغمار في اهوار الحويزة والحمار الى حوالي 50% من المساحة المقررة اعادة اغمارها”.
المصدر / شبكة النبأ المعلوماتية
مرتبط