رضوان العسكري يكتب: بلادي تحترق...!
رضوان العسكري
من على وسادة الخوف يصحو، وعيناه يملأها الدمع، الذي أحرق وجنتاه، فلا أعلم أهي حرارة قلبه المستعر! أم حرارة النار التي أُقدت بالديار، ماسكةً بطرف المدينة الشرقي، تتسارع نحو طرفه الغربي، تبطئ تارة وتسرع اخرى، ياله العجب كل العجب! بلادي يغمرها اللهب! دخاناً اسود وغبار، دياري تستعر النار، ماذا حل بك يابلادي....!
بيقيت في حيرةٍ من امري! ذهني القاصر لا يدرك الذي حدث، أهي حقيقةً أم رؤيا، فأخذت أسأل العاجزين عن التأويل، عما يجري فمنهم من يجتهد بالقول والتفسير، ليخبرني إن عدواً وضع جمرةً في الهشيم، قال آخر جاء غريباً يتستر خلف ظلام الليل الدامس، يحمل مشعلاً قد اخفاه عن اعين النظارة، إستغل الامان الذي نحن فيه، فتسلل بين ازقة المدينة ليحرق اكوام الحطب الذي ادخرناه لبرد الشتاء القارص فإلتهمت النار كل شيئ. ناداني آخر من بينهم أيا أيها السائل، اذهب لقارئة الفنجان واسألها عسى ان تأتيك بالغيب الذي غاب عنا، فإقتنعت بكلامة، وذهبت للبحث عنها في النواحي الغربية البعيدة، حتى وصلت الى اطراف ديارها، فوقفت مندهشاً مرعوباً وقد دب الخوف في قلبي الذي كاد خفقانه يكسر اضلاعي، ليخرج من صدري النحيل.
شاهدت مالم تشاهده عيناي، ولم تسمع به اذناي، شاهدت ناراً سوداء لا ضوء فيها ولا دخان، تلتهم كل شيء! فلم تُخلف غير الرماد أثراً، وانا في ذلك الذهول اسير، اسأل وابحث عن دار قارئة الفنجان، فلم يجبني احد! الكل ينظر الي بصمت وإستغراب، بعيون يملأها الخوف, وقلوب يملأها الرعب، ما الذي حدث لتلك المدينة، التي كانت عامرةً بأهلها وابنيتها الشاهقةواسواقها الزاهية.
وجدت صبياً يلوذ بجدار احدا المنازل، الذي بات حطباً لتلك النار، فسألته عن غايتي فأشار لي بسبابته نحو الشرق، وقال تجدها في خيمة النازحين، فلما وصلت سألت عنها اخبروني قد لا تلحق عليها! لماذا؟ لأننا تركناها تحاول اخراج ابنتها ذات الربعين، التي تأبى الخروج من دارها، ما السبب؟ لأنها شاهدتنا ونحن نغتصب، امام انظار قومنا من قبل صاحب المشعل، حيث وهبنا له كبار القوم، فقلت اشرن لي اين اجدها؟ فأومأت لي احداهن ودموعها دماً تجري على وجنتيها حسرةً على شرفها، اتجه غرباً، اسرعت وقدماي تتخبطان في بعضهما، حتى شاهدتها تصرخ بأعلى صوتها إبنتي تحترق، لكنها لا تشعر باطراف ثيابها تشتعل، ما إن وصلت لها وجدت قد احترق كل ما يسترها من ثياب، فنزعت شماغي ولففتها به وحملتها على ذراعي، وهي تتمتم في لحضاتها الأخيرة بكلمات - باعنا كبار القوم, وهبنا امام المسجد, زهدوا بنا اهلينا- ودموعها تجري على وجنتاها المحترقتين، سألت لمن؟ قالت لصاحب المشعل! اين ذهب؟ فأشارت بطرف عينيها الى نهاية الحيّ، ما إن اوصلتها لجمع النساء، حتى ركضت مسرعاً نحوه، وصلت اليه فوجدته قزماً, اشعث, اغبر, قد سودت وجهه اعماله الدنيئه، وافعالة الرذيلة.
يجتمع حوله عديد من اهل الحي، فسألت احدهم في آخر القوم بصوتٍ خافت، مالذي يدفعكم باللحاق به؟ قال لم يبقى لنا شيء - ديارنا احترقت, بواكرنا اغتصبت, اطفالنا خطفت، اموالنا سلبت, تجارتنا نهبت- فلم يبقى شيء نخشى عليه من الضياع، فهرول وهو يصرخ "عليّ وعلى أهلي" ولم يقل "عليّ وعلى أعدائي".
فرجعت الى دياري مهموماً منكسراً، وصلت قبل موعد صلاة الظهر بلحظات، دخلت الى مسجدها الكبير، فوجدت الناس قد اجتمعت في باحت المسجد، أنبأتهم بما شاهدت بعيني بينما انا احدثهم، صعد الخطيب منادياً حيا على البلاد.
فما إن انتهت الصلاة إئتزر القوم اكفانهم، حاملين معهم ما يصلح به القتال، فخرجناً وخطانا تتسارع نحو صاحب المشعل، فكان الجو ملتهباً من حرارة شمس الصيف اللاهبة وحرارت النار المستعرة؟ منهم من هب ليخمد النار وآخر اسرع ليأتي بما تبقى من الاطفال والنساء والشيوخ، ليسكنهم ديارنا، وذهبنا نحن لقتل صاحب المشعل، نطأ المنايا بأقدامنا، لنزف قوافلاً من الشبان الى جنات النعيم، بمحافل عرس، بنعوش اسدل عليها بدلات زفافهم البيضاء، زينت بالورود الاحمر والاصفر.
وطاف الكهول افواجاً حول مناياهم، محرمين بأكفانهم ليحجوا الى ديار الآخرة، ونحن ما بين هذا وذاك نطفئ ناراً ونبني داراً، نرسم البسمة على شفاه الاطفال، ونكحل عيون الصبايا بدمائنا القانية، فنتفترش رمال الصيف الحارقة, ونلتحف سماء الشتاء الباردة, لنجسد اروع ملاحم الشرف والبطولة والاباء، بفضل دعاء امهاتنا وآبائنا الذين ما ادخروا فينا جهداً، في سبيل بلادنا ومقدساتنا.
رضوان ناصر العسكري كاتب في المقال والقصة القصير من مواليد 1979 العراق خريج معهد ادارة لعام 2001 كتبت الكثير من المقالات السياسية والاجتماعية في الكثير من القضايا التي تهم البلد والوطن العربي بالإضافة للقصة القصيرة.