اخبار العراق الان

لغز محمد حسنين هيكل!

لغز محمد حسنين هيكل!
لغز محمد حسنين هيكل!

2017-02-17 00:00:00 - المصدر: العراق اليوم


طبق الأصل ,   2017/02/17 17:00  , عدد القراءات: 4

بغداد- العراق اليوم:

صلاح عيسى 

ظل محمد حسنين هيكل - الذي تمر الذكرى السنوية الأولى لرحيله عن الدنيا هذا الأسبوع - محصناً ضد النقد خلال السنوات العشر التي أعقبت توليه رئاسة تحرير الأهرام عام 1957، اكتسب خلالها نوعا من الهيبة، حالت بين كثيرين وبين التعرض لما يكتبه بالنقد، بعد أن تتالت - في مقالاته - الإشارات التي تدل على صلته المباشرة والوثيقة بالرئيس جمال عبد الناصر، على نحو يوحي بأن ما يكتبه، لا يعبر عن رأيه، بل يعبر - كذلك - عن آراء الزعيم الذي كان قد وصل إلى ذروة جماهيريته خلال تلك السنوات.

وكان من بين الدلائل الأخرى على ذلك، أن عبد الناصر قد اختص هيكل دون غيره من كبار الصحفيين، بالحوارات التي كان يقرر أن يجريها مع الصحف المحلية، ويختص الأهرام، بالأخبار التي تتعلق بالتغيرات المهمة في سياسة العهد، وتستثنيها من تنفيذ تعليمات الرقابة، التي كانت تحول بين غيرها من الصحف وبين نشر هذه الأخبار، وفضلاً عن أن عبد الناصر كان يكلف هيكل منذ بداية الثورة، بإجراء اتصالات تدخل في نطاق الدبلوماسية غير الرسمية، بحكم صلاته الواسعة بالدبلوماسيين الأجانب بالقاهرة، وبالدوائر السياسية في عواصم العالم، فقد كان معروفاً في دوائر السياسيين والصحفيين، إنه هو الذي يصوغ خطب الزعيم ورسائله إلى زعماء العالم، وأن من بين زحام الهواتف التي تتصدر مكتبه في الأهرام وسريره في المنزل، خط يتيح للرئيس أن يتصل به في أي وقت.. وأن الرئيس أصدر تعليمات إلى مكتبه بالرئاسة، أن يرسل صورة من كل الرسائل التي تصل إليه أو تصدر عنه، إلى الأستاذ "هيكل".

وكان طبيعياً أن تثير المكانة المتميزة التي اختصه بها عبد الناصر مشاعر المنافسة الشخصية والمهنية لدى كبار الصحفيين الذين لمعت أسماؤهم في المرحلة السابقة على الثورة، وشارك بعضهم في معارك صحفية وسياسية مهَّدت لها، أو ساندتها خلال المرحلة الأولى منها، وكان من بينهم محمد التابعي ومصطفى أمين وعلي أمين وإحسان عبد القدوس وأحمد أبو الفتح، أو الذين ساهموا في إصدار الصحف التي تنطق بلسان الثورة، ومن بينهم جلال الدين الحمامصي وحلمي سلام وحسين فهمي، وأن تتصاعد هذه المشاعر بعد تأميم المؤسسات الصحفية الرئيسية عام 1960، وأن تنتقل هذه المشاعر إلى العاملين في هذه المؤسسات من الصحفيين، إذ كان من رأيهم أن انحياز الرئيس إلى الأهرام وهيكل، ومنحها الحق في احتكار الانفراد بنشر الأخبار المهمة، التي يحظر على الصحف الأخرى نشرها، هو إخلال بقواعد المنافسة المهنية، مما يؤدي إلى ارتفاع مصطنع في توزيعها، ويدفع المعلنين إلى الإقبال على نشر إعلاناتهم بها، فتزيد مواردها المالية وترتفع أجور وامتيازات العاملين بها، وتقل فرص غيرها من الصحف على منافستها استناداً إلى أسس مهنية.

ومن أبرز الشواهد التي استدل بها هؤلاء على ذلك أن الأهرام حين شرعت في بداية الستينات، في بناء مبناها الجديد، حصلت - بقرار خاص استصدره هيكل من الرئيس عبد الناصر - على امتياز انفردت به دون كل مؤسسات الدولة، وهو أن تحتفظ بعوائدها من العملات الأجنبية لنفسها، ومن بينها عائد إعلان ثابت عن إحدى أنواع السجائر الأمريكية، اشترط المعلن أن ينشر داخل المقال الأسبوعي الذي يكتبه هيكل كل يوم جمعة بعنوان بصراحة، ومع أن هذا النوع من السجائر لم يكن مسموحاً باستيراده، إلا أن الشركة التي كانت تنتجه، وظلت تحرص لسنوات على نشر الإعلان كوسيلة لخلق حالة طلب عليها تؤدي إلى فتح السوق المصرية أمامها.

وفي منتصف الستينيات، وفي سياق الصراعات المكتومة التي كانت تحتدم في كواليس السلطة الناصرية، وضعت جريدة الجمهورية تحت إشراف المشير عبد الحكيم عامر الذي اختار حلمي سلام - أحد أوائل الصحفيين الذين تولوا إصدار الصحف الناطقة باسم الثورة - رئيساً لتحريرها، فشجعه استناده إلى نفوذ الرجل الثاني في السلطة، على إعلان العصيان، على ما كان يعتبره إهداراً لحقوق المنافسة بين صحف يفترض أنها تنطق جميعاً باسم الدولة، فأمطر رئاسة الجمهورية بسلسلة من البرقيات، يحتج فيها على كل انفراد للأهرام بنشر أخبار حالت الرقابة دون نشرها في بقية الصحف، كان يعلق صورة منها في لوحة الإعلانات بمقر الجريدة في كل مرة، إلى أن قاده الحظ السيئ إلى الوقوع في مطب أطاح به، ففي جلسة مغلقة لمجلس الأمة، تحدث فيها الرئيس عبد الناصر إلى النواب، تطرق إلى علاقة مصر بإحدى الدول العربية، وطلب من الصحفيين الحاضرين عدم نشرها حرصاً على علاقات مصر بها، ولكن حلمي سلام - الذي حضر الجلسة - خشي أن تنفرد الأهرام كعادتها، بنشر هذه الأجزاء من حديث عبد الناصر، فقرر أن ينشر الحديث كاملاً، ليستيقظ في الصباح الباكر على مكالمة تلفونية من وزير الإعلام محمد عبد القادر حاتم يخطره فيها بألا يذهب إلى مكتبه، لأن التعليمات صدرت بتعيين رئيس تحرير جديد لجريدة الجمهورية.

ومع أن المتاعب التي تعرض لها هيكل بسبب مشاعر المنافسة - المشروعة وغير المشروعة - التي كان يكنها له مجايلوه من الصحفيين كانت أقل بكثير من المتاعب التي تعرض لها من منافسيه داخل كواليس السلطة، الذين كانوا يضيقون بارتفاع مكانته لدى عبد الناصر عنهم، مع أنهم وليس هم الذين شاركوا معه في صنع الثورة، ومع أن الحصانة التي تمتع بها خلال هذه السنوات العشر، قد رفعت عنه جزئياً بعد هزيمة 1967، فأتيح لآخرين أن ينتقدوا آراءه السياسية، وأن يعارضوا اتجاهاته، ثم اختفت هذه الحصانة نهائياً بعد أن رحل عبد الناصر عن الدنيا ورحل هو عن السلطة، فأهدر بعض هؤلاء تاريخه وحرموه من كل ميزة، إلا أن القول إن كل ما حققه من تميز مهني على الآخرين، يعود فقط إلى مكانته من عبد الناصر، وهو ما حرص بعض هؤلاء على إشاعته على نطاق واسع، يفتقد للقدر الكافي من الإنصاف، إذ الحقيقة أنه كان صاحب مدرسة مهنية متميزة في الصحافة العربية، لم تلق حتى الآن حقها من البحث والدراسة، في ظل الاهتمام بالدور السياسي الذى لعبه، وإليه يعود الفضل في التوصل إلى صيغة تجمع بين الرأي والخبر وبين الجاذبية والرصانة وبين الفرجة والفكر.. ولعل ذلك هو الذي يفسر لكثيرين اللغز الذي دفع عبد الناصر ليقرّبه إليه، ويتخذ منه لساناً لحاله، ومعبراً عن ثورته دون غيره من صحفيي وكُتَّاب ذلك الزمان!