مدينة بجاية.. تاريخ نضير ومورد أمل وتفاؤل
2017-03-12 00:00:00 - المصدر: راي اليوم
علي بن فليس
كم من مرة فتحت لنا بجاية قلبها، وأحاطتنا بعناية هي وحدها من تعرف مكنونات سرها. ومهما حاولنا شكرها، فإن كلماتنا التي نجهد أنفسنا في انتقائها لن تكفيها، ولن تفي بواجب الشكر. ونعترف أمامها أن قلوبنا ليست بدرجة الإحاطة التي تبيح لها احتواء كل الامتنان والعرفان اللذين تستحقهما. نعم، فهذه الأرض الطيبة تعرف كيف تمنح أرقى مكارم الضيافة، وكيف ترفع الكرم إلى أسمى معانيه.
عندما تفهمون اللؤلؤة بجاية، وعندما تبادلكم فهما بفهم أرحب، فإنها تفتح لكم قلبها الذي يمكنكم أن تقرؤوا فيه أروع وألمع صفحات التاريخ الوطني المجيد. فبجاية هي موطن الأصالة الطاهرة وهي مبعث الإشعاع الحضاري. لقد أعطت بجاية في كرم الكثير إلى الجزائر على مدى ألفي سنة ونيّف من دون أن يحد من عطائها السخي حساب ومن غير أن تطمع في نظير مقابل جميلها المتجدد. وبفضل ذلك، صار اسم بجاية يذكر كمرادف لقلعة حصينة من قلاع بناء الأمة الجزائرية الخالدة.
إن بجاية هي من احتضنت قيّم التفتح ومبادئ التسامح والحرية وقوانين العدل والتضامن. وضربت هذة القيم والمبادئ والقوانين جذورها في أعماق تربة بجاية الخصيبة، ولما أزهرت ملأت كؤوس عقول بناتها وأبنائها وشغلت تجاويف قلوبهم.
وارتبط مجد الحاضرة بجاية بنشر العلم والمعرفة، والمساهمة في تطوير العلوم والثقافة والفنون. ومهما كان الاسم الذي حملته عبر العصور، سواء أكان آسلدان، أو سالدا، أو الناصرية، أو بوجي، أو بجاية، أو فقايث، فإن مدينة يمّا قورايا وأوليائها التسعة والتسعين قد بصموا تاريخ الجزائر، وتاريخ المغرب الكبير وتاريخ الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط ببصمات لا تنكر، وتذكر فتشكر. وهي بصمات نواصع تصلح للحسن والزينة لا يمحوها الزمن وإن انقلب، ولا تنساها ذاكرة العباد وإن جحدوا.
أما تألقها السياسي والعسكري عبر العصور فلا يضاهيه سوى إشعاعها المتمدن في اكتساب العلوم ونشر المعرفة. كما أن سمعتها الجهادية كأرض مقاومة وساحة عراك لنساء حرات ورجال أحرار، تقدم زاحفة من القدم البعيد شاقة طريقها في انتصاب من البطل تاكفاريناس إلى الشهيد عبد الرحمان ميرة.
لم تكتف بجاية عاصمة الحماديين الثانية بالفوز بستة أسماء خلدت ذكراها، بل حملت أيضا ألقابا ممجدة وأوصافا مشرفة.
لقد لقبتها روما الأوقيستينية: “لؤلؤة إفريقيا”، و لقبها بنو حماد “مدينة التاريخ”. وهي التي كانت تنافس قرطبة واشبيليا وغرناطة، وتقف في وجوهها الند للند. وكانت ملجأ وملاذا للعارفين والعلماء الأساطين الذين ميزهم القاضي الغبريني عن غيرهم بأنبل الأسماء وهو اسم: “أمراء العلم”.
أما في عيون ابن عربي وابن خلدون، فقد كانت بجاية “مكة الصغيرة” لكبر واتساع مساهماتها الروحية والدينية. وإن هذه الألقاب المباركات تكفي وحدها لإظهار الأثر الثابت والتوقيع الأبدي اللذين تركتهما بجاية في تاريخ البشرية عامة، وفي تاريخ أمتنا وحيزنا الجغرافي خاصة.
إن أردتم محاورة بجاية في حياء ومن وراء الحجب في المعنى الراقي للمقاومة، فهناك أسماء مواقع لوقائع ملأت كتب التاريخ ترفرف عاليا كما ترفرف راية الحرية المنتصبة في مهب الرياح. وحين ننسى فلا يجوز لنا أن ننسى أسماء: إيشريدن وخراطة وإيفري وأوزلاقن. وهناك بطولات رددت صداها في إلهام ذرى وسفوح جبال البابور والبيبان ووادي الصّومام العظيم. وهي بطولات الشريف بوبغلة، والشيخ الحداد والشيخ المقراني والسيدة الشريفة لالة فاطمة نسومر وعبد الرحمان ميرة وعلي تواتي وأحمد منصوري وعمار معوش وأحمد بن عبيد وأحمد أمقران بحنوس ومليكة قايد وحنيفة عليق… وغيرهم من الأبطال العظماء والعمالقة الأفذاذ الذين سقطوا لتقف الجزائر، واستشهدوا ليبعث بلد المليون ونصف المليون شهيد من جديد من تحت رماد الاستعمار.
لم تغب بجاية أبد الدهر عن أية مرحلة من مراحل بناء أمتنا، ولم تتأخر عن الركب في تبوإ مكانتها، وكانت حاضرة في طليعة كل مقاومة من مقاومات شعبنا. ولم يحدث أن انبعثت حركة فكرية في بلدنا من دون أن تسهم بجاية فيها كقطب مشع ونجم منير. فلله درك، يا بجاية، يا مدينة الأنجاد الوعرة والأمجاد الخالدة.
هذه هي بجاية التي نحبها ونعشقها ونرتاح فيها لما نزورها أو ننوخ فيها مقيمين. وهذه هي بجاية العروس التي نحترم تاريخها وأفضالها. وهي بجاية العزيزة على قلوبنا التي نستمد من ذخائرها وجواهرها وفرائدها ضمانات التدرج في طريقنا إلى الأمام مسكونين بالأمل والتفاؤل والاطمئنان والثقة التي تغمرنا من كل جانب.
فالسلام عليك يا بجاية الجوهرة في أمسك، والسلام عليك في يومك، والسلام عليك في غدك، والسلام عليك أبد الدهر.
(*) ـ رئيس حكومة أسبق، ورئيس حزب “طلائع الحريات”، حاليا ـ الجزائر