المخيّلة السياسية المصرية .. ونزيف الرهانات الخاطئة
جدل محدود صاحب الإعلان عن اتفاق جهاز المخابرات المصري مع شركتي علاقات عامة أميركية لـ"توضيح " بعض المواقف المصرية للرأي العام الأميركي ، ولدوائر صناعة القرار في واشنطن.
المتحوّل الرئيس في السياسة الخارجية المصرية هو "الضبابية"
محدودية الجدل ربما تعود للاحترام الشعبي الذي يحظي به الجهاز السيادي المرموق، بتاريخه المشهود له من الجميع، الرقم المدفوع للشركات الأميركية كما تردّد لا يمكن اعتباره ضخماً أو باهظاً، لكن القرار يبدو فرصة لمناقشة أحد ثوابت المخيّلة السياسية المصرية، والمتعلّق بالحجم التقديري الذي تضعه هذه المخيّلةــ على اختلاف وتعدّد القائمين على صناعة القرار في القاهرةــ لرضا واشنطن، في حجم منجزها السياسي.لا يثق "المطبخ السياسي" في القاهرة، في قدرته على المناورة مع البيت الأبيض فضلاً عن تبنّي الخيارات المناوئة والممانعة، باستثناء بعض حملات الدعاية الشعبية عبر "اللجان الالكترونية " التي هاجمت بعنف هيلاري كلينتون وباراك أوباما، وقدّمت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي باعتباره سبب فشل مخططهم لإشاعة الفوضى وتدمير المنطقة، من دون أن تقدّم هذه الحملات تفسيراً مقنعاً لإصرار السيسي على تكرار زيارة واشنطن مردّداً بلسان الحال والمقال عبارته الشهيرة "حتى لو أدارت أميركا لنا ظهرها فنحن لن نتخلّى عنها حليفاً استراتيجياً"
الأمر نفسه ينطبق على "الرياض"، التي تعتبرها القاهرة حليفاً استراتيجياً منذ عهد الرئيس الأسبق السادات، وتعتمد علي دعمها المادي ــ ثم السياسي لاحقاً ــ ، الأمر الذي ترسّخ عقب الإطاحة بحكم الأخوان في 30 يونيو، في حراك شعبي/ عسكري دعمه الملك السعودي الراحل عبدالله، مالياً وسياسياً ودبلوماسياً، للدرجة التي جعلت الرئيس السيسي يتعامل مع هذا الدعم باعتباره "جميلاً" طوّق رقبته، وتقاسم معه ملايين المصريين هذا الإحساس بالعرفان، الذي منعهم من الردّ على سلوكيات سعودية افتقرت إلى اللياقة عقب رحيل الملك عبدالله، لعل أبرزها إعلان الحرب على اليمن من دون استشارة القاهرة أو الرجوع إليها.
"السلام "مع الكيان الصهيوني ــوربما العلاقة مع الكيان في نظرة أكثر تطرّفاًــ أحد الرهانات التي يبدو أن القاهرة لا تنوي التراجع عنها، رغم أنه كسابقيه، فالرهانات الثلاثةــ الأميركي والسعودي والإسرائيلي ــ أثبت الوقت والتجارب عدم جدواها، منذ تبنّتها إدارة السادات، وورثها مبارك ومرسي، وفي ما يبدو يواصل الرئيس السيسي اللعب على المسار ذاته، رغم التسريبات المعاكسة، ورغم اعتقاد البعض أنه يضع عيناً على روسيا والمحور الآخر، وهو الأمر الذي عزّزته الزيارات المتبادلة بينه وبين الرئيس الروسي بوتين، ثم شراؤه سلاحاً من روسيا.
الثبات على الرهانات الثلاثة لا زال قائماً فما الذي تغيّر إذن؟
المتحوّل الرئيس في السياسة الخارجية المصرية الذي بات أحد عناوينها في عهد الرئيس السيسي هو تلك "الضبابية" التي عزاها البعض أولاً لطبيعة الجهاز الذي جاء منه الرئيس، ولطبيعة رحلته إلى صدارة المشهد، لكنها سرعان ما تحوّلت من الغموض الواعد، إلى ارتباك وتخبّط يُنذر بانفضاض الجمع من حول النظام الذي أرسل إشارات إيجابية مع صعوده إلى سدّة الحكم، وقبلها بقليل، إلى جهات عدّة، فاستعد كل طرف للاستجابة لتلك الإشارات، وعندما تأخّر تحوّل الإشارات إلى خيارات وانحيازات نفض الكل يده، أو كاد، ليتجه المشهد إلى عزلة وتهميش لا يليقان، لا بمصر ولا نظامها.
فبعد مرور ثلاثة أعوام من إزاحة حكم الإخوان، لازال الموقف المصري من الأزمة السورية غير واضح، فرغم تأكيدات الرئيس السيسي على دعم مصر لـ"الجيوش النظامية" العربية في مواجهة الإرهاب والعصابات المسلّحة، إلاّ أن الأمر لم يتجاوز هذه العبارة المطاطّة بتنويعاتها المختلفة، ولم يصل أبداً إلى حد إعلان موقف واضح، أو انحياز صريح إلى جانب "الاقليم الشمالي" للجمهورية العربية المتحدة.
الموقف "المائع" نفسه التزمته السياسة الخارجية المصرية تجاه استحقاقات أخرى، لعل منها التأكيد الدائم على أن "أمن الخليج خط أحمر" في إشارة غير حاسمة إلى إيران، التي لم يبادرها النظام المصري عداء من أي نوع، وفي الوقت نفسه لم يرد إيجاباً على يدها الممدودة في أكثر من موقف.
ربما لن تمتلك الإدارة المصرية رفاهية الاستمرار في الخيارات المعلّقة، وستجد نفسها في مواجهة رهاناتها، وربما تميل الكفّة في "مطبخ القرار السياسي" إلى الاستمرار في الرهانات القديمة، التي أثبت الوقت والمواقف العديدة عدم جدواها، منذ انحياز السادات لتلك الرهانات، بما يعنيه ذلك من استمرار نزيف الحجم السياسي، وربما المقدّرات الاقتصادية التي طالما استنزفتها المعارك الصعبة، وربما يعيد صانع القرار التفكير في الأمر، ويستمع إلى المثل الشعبي" المتغطي بالأميركان ..عريان".
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً