إقليم كوردستان وحملة التخويف: الاستفتاء للاستقلال لا لنظام الحكم
يقترب بسرعة موعد إجراء الاستفتاء على استقلال إقليم كوردستان، في الخامس والعشرين من أيلول (سبتمبر) المقبل، ويبدو أن اجراءه بات حتمياً لا تراجع عنه في ضوء تمسك قيادة الإقليم به، رافضة حتى الآن ضغوط الأصدقاء والخصوم على السواء، بمن فيهم الولايات المتحدة الأميركية التي يعتبرها الكورد حليفهم الأكبر. الأطراف العراقية في بغداد ترفض إجراء الاستفتاء فيما تؤكد السلطة المركزية أنها لن تلتزم نتائجه. لكن هذا المقال ليس في وارد الخوض في حق الكورد في تقرير المصير، فيما يبدو أن القوى الخارجية المعنية، باستثناء إيران، لا تعترض عليه من حيث المبدأ في ضوء القوانين الدولية. تكفي الإشارة الى وثيقتين فقط لا جدال في أنهما ملزمتان للمجتمع الدولي تشددان على حق تقرير المصير. الأولى تتمثل في ميثاق الأمم المتحدة الملزم للدول الأعضاء البالغ عددهم 193 دولة، والثانية هي العهد الدولي الذي وقعته أكثر من 160 دولة معظمها صادق عليها رسمياً بينها العراق.
في ضوء ما سلف، ما من دولة تحترم التزاماتها، وتحديداً الديموقراطيات الغربية، أبلغت الطرف الكوردي أنها تعترض على مبدأ الحق في تقرير المصير، وإن طالبت فقط بتأجيل الاستفتاء الى موعد غير محدد. في السياق نفسه تجدر الإشارة الى الموقف الأميركي. فالكورد لا يخفون امتنانهم العميق لأميركا لإقدامها على نجدتهم وحمايتهم في 1991 عبر الملاذات الآمنة التي صارت حجر الأساس الذي بنوا عليه الكيان الذي تطور الى ما هو عليه اليوم. لكن منذ 1991 قامت العلاقات بين الطرفين على أساس تحالف تطور ليشمل صعداً عدة، وكان بين أبرز ثمارها التعاون العسكري لاطاحة الظام الصدامي السابق في 2003، وحديثاً الدعم العسكري الأميركي الذي لعب دوراً حاسماً في تمكين الكورد من الصمود أمام هجوم «داعش» على مناطقهم والانتقال الى الهجوم المضاد لدحر التنظيم الإرهابي.
تجدر الإشارة في هذا الخصوص الى أن الطرف الكوردي ينفرد بين الأطراف العراقية بالاعتراف علناً وفي كل مناسبة ممكنة بجميل الولايات المتحدة عليهم وعلى العراق عموماً. وليس سراً أن القيادات الكوردية لم تخذل واشنطن كلما كانت تطلب منها الدعم في إطار مواقف سياسية تعنى بها في عراق ما بعد صدام، لكن ليس في مسألة الاستفتاء الذي يفترض الطرف الأميركي أنه يضعه في موقف حرج لأن واشنطن لا تريد أن تختار بين الكورد وبغداد. والحق أنها ذريعة ضعيفة لأن أميركا، وهي القوة العظمى التي يحتاج العراق الى دعمها ولا يسعه أن يخاصمها، قادرة على أن تقيم علاقات متوازية مع الطرفين.
الحملة المناهضة والرافضة للاستفتاء واسعة عراقياً ليس من الأطراف السياسية فحسب بل ايضاً من كتاب واكاديميين، عن سوء نية أو حسن نية، وهي حملة تتماهى أحياناً مع تنظيرات يسوقها «خبراء» غربيون لا يعرف عنهم تعاطفهم مع الكورد. في جوهرها، تسعى الحملة الى تخويف الشعب الكوردي بعواقب وخيمة في حال أصروا على الاستقلال. ركن رئيسي في هذه الحملة يقوم على محاولة «شيطنة» قيادات كردية مستهدفة خصوصا رئيس الاقليم مسعود بارزاني الذي يقود مبادرة الاستفتاء، وذلك بتوجيه اتهامات له ما أنزل الله بها من سلطان، أقلها أن الاستفتاء هدفه تحويل إقليم كوردستان مملكة تتوارث عرشها عائلة بارزاني، أو في أحسن الأحوال جمهورية ديكتاتورية! لا تستحق طروحات خيالية كهذه الرد سوى بالتذكير بأن الاستفتاء هو على الاستقلال لا على اختيار نظام حكم. يُذكر أن بارزاني أكد قبل أيام في لقاء صحافي انه لن يترشح ولن يرشح أحداً من اقربائه في انتخابات رئاسة الإقليم التي ستحل في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
وبين المبررات التي يسوقها هؤلاء ظواهر من نوع الفساد الإداري والمالي والمحسوبية في أقليم كوردستان، وفشل إدارة الإقليم بسبب ذلك في توفير الخدمات وتحسين مستوى المعيشة لسكانه وإقدامها على خفض رواتب الموظفين وعجزها عن دفعها في مواعيدها، ناهيك عن الفشل في خلق مؤسسات دستورية أساسية وضرورية لتعزيز المجتمع المدني والديموقراطية. المؤكد أن هذه الآفات موجودة في الإقليم وهي خطرة على أوضاعه الآن ومستقبلاً. مع ذلك يستدعي الإنصاف الإشارة الى أن الإقليم نجح في توفير الأمن والاستقرار ومواجهة الصعوبات الاقتصادية والمالية على رغم تحديات هائلة فاقمها إقدام السلطة المركزية على قطع الرواتب، ثم ظهور تطورات كارثية تمثلت في ظهور «داعش» في سورية والعراق واحتلاله ثلثي أراضي العراق بما فيها مناطق كردية، وأسفر ذلك، بين ما أسفر، عن تدفق أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ من البلدين إلى اقليم كوردستان، ما حمّل إدارته تبعات أمنية ومالية أكبر من طاقته. عموماً الظواهر السلبية في الإقليم تقزّمها مثيلاتها في بقية العراق المدار من الحكومة المركزية!
في إطار حملة التخويف يُساق مثال جنوب السودان على أساس أن دولة كوردستان ستواجه حتماً مصيرها كدولة فاشلة عمّتها بسرعة، بعد استقلالها، انهيارات اقتصادية وادارية ناهيك باقتتالات داخلية بين جماعاتها. الغريب في هذه المقارنة أن من يسوقها يجهل او يتجاهل طبيعة المجتمع في جنوب السودان. بداية سلطة الاستقلال هناك تفتقد الى خبرة كافية تؤهلها الحكم بكفاءة كونها انتقلت من قتال الغابات مباشرة تقريباً الى تأسيس دولة مستقلة وإدارتها، تخللت ذلك فترة قصيرة مرتبكة من الحكم الذاتي. قارن ذلك بخبرة الكورد الطويلة في الحكم الذاتي. الى ذلك فالمجتمع في جنوب السودان (12 مليون نسمة) قبلي بحت ويتألف من أكثر من 60 إتنية يتحدثون بـ 80 لغة، الأمر الذي حتم على السلطة فرض الإنكليزية لغة رسمية وحيدة.
قصارى الكلام أنه لا مؤشر حتى الآن الى أن الاستفتاء لن يجرى في موعده المحدد أو أن حملة التخويف ستثني الكورد عن المضي نحو هذا الهدف.