في ايلول العطاء ، تمتزج ذكرى الثورة بكرنفال الاستفتاء
عندما يصل الظلم والاضطهاد والاستبداد ذروته في بقعة جغرافية ما ، ولم يبق امام الشعوب الا خياران اما الرضوخ للهيمنة والعبودية او القيام بثورة للخلاص والحيلولة من دون الفناء ، يكون الخيار الثاني افضل وسيلة للدفاع مهما يكلف من ثمن ، لكن الثورة بذاتها بحاجة الى مقومات و تخطيط دقيق من الجوانب العسكرية والاقتصادية والاجتماعية فضلا على دراسة دقيقة لطبيعة العدو من حيث العدة والعدد والامكانيات المتاحة لديه للوقوف امام الغضب الجماهيري ، عندما تتوفر المقومات الاساسية للثورة ، تبق الحاجة الماسة الى قائد شجاع وكفوء وذكي ذي خبرة عسكرية وسياسية لتسخير الامكانيات والطاقات وتوظيفها ومعالجة مايرافقها من احداث ومنعطفات لايجاد تغيير جذري في النظام السياسي وانتزاع حقوق المظلومين عبر السعي لبناء نظام حكم عادل متوازن يرتكز على حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية.
ومن خلال قراءتنا لتاريخ الشعوب والامم ، تنكشف لنا خفايا وحقائق كثيرة وادلة دامغة عن جرائم وحشية واعمال سياسات تعسفية واستبدادية واستخدام اساليب وحشية ضد الشعوب الضعيفة والمقهورة ، ولو تعمقنا في دراسة وتحليل تلك السياسات والاساليب نرى انها مغايرة تماما للطبيعة البشرية والعالم المتحضر واحيانا يكون قانون الغاب اكثر تحضرا ومدنية منها.
هناك الكثير من الشعوب في الشرق الاوسط كالكورد والارمن والمسيحيين والاقباط في مصر والامازيغ في المغرب العربي واخرى في شبه القارة الهندية حتى في اوربا في القرون الوسطى وامريكا بعد اكتشافها تعرضت الى انتهاكات خطيرة لحقوق الانسان من تهديد وقتل وتدمير من الحكام المستبدين سواء في اطار بلدانها ام من قبل النظم والشعوب المتجاورة معها ، وذلك لأسباب مختلفة منها صراعات سياسية، وصراعات على مناطق نفوذ ستراتيجية او مصالح اقتصادية ومنها ايضا لأسباب ودوافع طائفية وقومية وعنصرية ، وتعرضت تلك الشعوب الى جرائم بشعة وابادة جماعية لا يصدقها بل لا يتخيلها العقل البشري.
ومن هذا المنطلق اعلن الشعب الكوردي في كوردستان العراق انطلاق ثورة ايلول الوطنية ضد النظام العراقي في حينه ولم تكن الثورة للدفاع عن حقوق الكورد وحدهم فحسب بل لجميع مكونات الشعب العراقي ، لذلك حظيت الثورة بتأييد غالبية الشعب العراقي و الشعوب المناضلة والاحزاب والمنظمات السياسية التي كانت تسعى من اجل حرية الانسان وتقرير مصيره ، وما لفت انظار المراقبين السياسيين والامنيين بالنسبة لثورة ايلول ، هو التزام قيادتها وبالاخص القادة الميدانيين بمبادئ الحرب التي نصت عليها المعاهدات والمواثيق الدولية ولم تحدث اية خروقات تذكر خلال سني الكفاح المسلح.
الشعب الكوردي في الشرق الاوسط هو من الشعوب القديمة الذي عاش على ارض موطنه كوردستان ، وهبه الله سبحانه وتعالى كل عناصر الحياة من الطبيعة والزراعة والثروة الحيوانية فضلا عن ثروات طبيعية هائلة من الطاقة المخزونة في جوف الارض.
وبسبب وجود هذه الارض الخصبة والمعطاء ،اضحت عرضة لأطماع الأعداء و حملات القتل والابادة الجماعية في مراحل مختلفة من تاريخه وكل مرحلة بحسب الامكانيات المتاحة من اسلحة القتل والدمار والفتك ، وكان لابد لهذا الشعب ان يقف امام الطامعين بارضه وخيراته ومن يهدد وجوده وكيانه ولهذا وعلى مر الزمن ظل يدافع ويقدم التضحيات والقرابين كي يبقى حيا على ارضه وعدم الرضوخ للظلم والعبودية والاستبداد.
لذلك لم يقف مكتوف الايدي في مسيرة الدفاع عن نفسه ووجوده على ارضه ولو للحظة وبشتى الوسائل ، ولم يبخل بالغالي والنفيس لحفظ كرامته وكبريائه ، لأن قراءته للتأريخ كانت دقيقة وتعلم الدروس والعبر من تاريخه الزاخر بالمفاخر والبطولات ومن تاريخ الشعوب الاخرى التي ناضلت لنيل حقوقها.
لقد كانت ثورة الحادي عشر من ايلول الوطنية عام 1961 بقيادة البارزاني الخالد والحزب الديمقراطي الكوردستاني ، من الثورات العظيمة التي اندلعت في كوردستان العراق لتتحدى النظام الحاكم آنذاك ، الذي هيأ العدة والعدد لإجتياح المدن والقصبات والقرى الكوردية واهاليها العزل ، بعد ان تعهد في بداية وصوله لدفة الحكم بمنح شعبنا الكوردي حقوقه المشروعة ، لذلك كانت تلك الثورة العظيمة تلبية لنداء الحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة البارزاني الخالد ، الذي ابهر العدو قبل الصديق بشجاعته وذكائه وحكمته وحنكته في ادارة الثورة ووضع الخطط العسكرية وتحشيد الجماهير لها وكانت ردا قويا وتحديا كبيرا امام الهجمة الشرسة لقوات النظام الذي استخدم فيها جميع ادوات الحرب المدمرة من الطائرات والمدفعية والاسلحة المتوسطة والخفيفة ، في الوقت الذي لم تتوافر لدى قوات البيشمركة في ذلك الوقت سوى انواع من الاسلحة البسيطة والبدائية التي كانت تستخدم في الصيد ومن دون مساعدة ودعم اقليمي ودولي ،متوكلين على الله سبحانه وتعالى والامكانيات الذاتية المتاحة ، وكانت ارادة التحدي وروح المقاومة والصمود للدفاع عن النفس عناصر اساسية جعلت من الثورة بركانا ومن الشعب جبلا صلبا وشامخا كجبال كوردستان ليقف امام الزحف الشرس للعدو نحو مدنه وقصباته وقراه.
اسهمت جميع مكونات المجتمع الكوردستاني من الكورد والعرب والتركمان والمسيحيين و الكاكائيين والايزديين وجميع الاقليات الاخرى من النساء والرجال والعمال والفلاحين والمثقفين والكسبة في تلك الثورة العظيمة كل بحسب موقعه ايمانا منهم بأحقية الثورة في الدفاع عن الوجود ، فالرجال وبالاخص الشباب حملوا السلاح للدفاع عن الارض والعرض واضحوا قلاعا صلبة لا تهتز امام القوات العراقية المتغطرسة ، والنساء كان لهن دور متميز وريادي في اعداد وتهيئة الامور اللوجستية من طعام وشراب للمقاتلين حسب الامكانيات المتاحة فضلا على تمشية امور الاسرة اليومية والجميع وقفوا صفا واحدا خلف قيادتهم الشجاعة و الحكيمة وابلوا بلاء حسنا وقدموا دروسا بليغة و رائعة في التضحية والفداء من اجل الوطن والشعب .
لذلك تعد تلك المرحلة التاريخية من حياة شعبنا الكوردي وثورة ايلول العظيمة المعطاء ثورة جماهيرية بكل معنى الكلمة من خلال وحدة الصف والكلمة والوقوف بحزم وشجاعة خلف قيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني ، ثورة يتفاخر بها الجميع لما حملته من مبادئ انسانية وارادة جماهيرية صلبة في وجه العدوان ومفخرة لذلك الجيل والاجيال المقبلة لشعبنا وايضا ثورة تحمل وباعتزاز اسم البارتي والبارزاني الخالد.
اليوم ونحن نحتفل بالذكرى السادسة والخمسين لثورة ايلول التقدمية ، العراق والمنطقة امام متغيرات جيوسياسية ورسم خارطة جديدة للمنطقة ، مايزال الشعب الكوردي يواجه تحديات كبرى من قوى الارهاب الظلامية و يعاني من حصار اقتصادي مفروض من الحكومة الاتحادية وقطع موازنته ورواتب موظفيه ووصل الى طريق مسدود في معالجة المشاكل والخلافات مع بغداد وبالاخص في حل قضية المناطق المشمولة بالمادة 140 وقانون النفط والغاز ورواتب وتسليح قوات البيشمركة التي عدها الدستور جزءا من المنظومة الدفاعية للعراق ، لذلك لم يبق امامه سبيل اخر سوى اعلان مشروع الاستفتاء على تقرير المصير في الخامس والعشرين من الشهر الجاري لوضع حل جذري للنزاعات والاقتتال والخلافات بين اربيل وبغداد ليعيش الطرفان كجارين متحابين بدلا من استمرار المشاكل والخلافات ، لذلك سينطلق الشعب الكوردي في الوقت المحدد الى صناديق الاستفتاء ليقرر مصيره ويتوج احتفالات ثورة ايلول التقدمية ببهجة الاستفتاء والذي نتمنى ان تكون نتيجته لصالح جميع مكونات الشعب العراقي بعربه وكورده وسائر اقلياته وان يكون عاملا للاستقرار والسلام لجميع دول وشعوب المنطقة.