(بالصور) الفنان رياض البرزنجي: المستقبل هو المستهدف الأول في العراق
كل العباقرة الذين قدّموا للحياة مشاريعاً أرادوا من خلالها كسر الجمود وتحقيق مبدأ «اللا مستحيل» فيما يعتبره العاجزون مستحيلاً .
إنهم كانوا مجتهدين في سعيهم.. صادقين مع أنفسهم.. لايبتغون بأعمالهم «فكرة الغنى وهوس الشهرة» ..لأن تلك الأمور ليست أهدافهم بل معطيات لنتائج .
هم «الواثقون» لاتغرهم الكؤوس أو الميداليات التي يمنحونها إياهم ...فهم يعلمون من أين يأتون بمثلها؟!
بكونها منتهية الصلاحية من لحظة استلامها حتى مكانها على الرف أو الدولاب.
ولايلتفتون إلى «فُتات» المدح الذي ينثره البعض «قصداً أو مجاملة».
فالملهمون في الحياة.. يصارحون أنفسهم .. ويعرفون حجمهما... قبل أن يدلس عليهم البعض كلماتهم المستعارة أو تواصيفهم الفضفاضة.
وفي العراق ومن العراق معترك الضجيج .. هناك عش لفنان اسمه رياض البرزنجي، اعتزل فيه الضجيج لأربع سنوات متتالية، يقتنص فيها لحظات الهدوء، ليصنع عواصفاً تناغم ذلك الضجيج المحتقن بالألم، تلك العواصف التي تترجمت بأعمال فنية ضمن لغة بصرية عالية تحمل مضمونا كبيراً، أعطت للشكل قيمة ومعنى، نثرها وسط (بغداد) وأحاطها بعنوان ولقب اسمه (الذاكرة السوداء).
فلِمَ الذاكرة السوداء؟! ومن رياض البرزنجي؟ وماهي طموحاته كل ذلك وغيره، سردناه ضمن حوار (باسنيوز) مع الفنان المبدع:
(باسنيوز): بداية أريد أن أسأل ما الذي دفعك إلى الرسم أول مرة؟
- كان والدي يمتلك ذائقة جمالية.. فخطه جميل.. وله قدرة في الرسم إلى حد ما، وأنا وإخواني الذين يكبرونني كانت عندنا هواية الرسم بشكل عام. لكن المحرك الأول لحب الفن وتحديداً الرسم كان مرتبط بأخي الأكبر، فقد كان متميزاً علينا في الرسم وهو في الرابع الابتدائي، وأذكر أنه كان يجيد رسم الحصان بشكل ملفت قياساً لعمره أو أقرانه يومئذ، وكان أبي يشجعه ويرفده بالألوان ومواد الرسم، بل كنت أشاهد لوحة لأخي قد علقها أبي في غرفته فوق سريره، وأنا يومها كنت لازلت لم أسجل في المدرسة، وكنت أتأمل تلك اللوحة التي كانت عبارة عن منظر صحراء وواحة ونخلات وقافلة جمال تسير نفذها أخي بألوان (الكواش) على لوح خشبي، فأضحى عندي حلم يومها أن أرسم لوحة يعلقها أبي إلى جنب لوحة أخي. وتلك البداية.
(باسنيوز): ماهي ( الذاكرة السوداء)؟
- هي تجربة فنية في مجال الحداثة في الفن عبرت من خلالها عن ما حصل للعراق بشكل عام وشعبه بشكل خاص - من آلام ومآسي جرت بعد 2003، وقد دونت هذا في مطلع البروشور وكتبت (الذاكرة السوداء) رسالة فكرية مصورة ترفض ما فعلته (مجنزرة) الدمار والارهاب بمهد الحضارات (العراق)، والتي أضمرت غايات منها؛ كسر اليراع الذي علم الإنسانية القراءة والكتابة. والمعرض متكون من (20 عمل) في مجالات الرسم وفن التجميع الذي يعرف باسم Assemblage art وفن التركيب Installation Art ، وقد كانت الأعمال مثخنة بالتعبيرية الرمزية، وكذا الأشكال الواقعية التي حولتها إلى أشكال وقوالب تعبيرية رمزية خارج مدلولها وتوظيفها الواقعي.
(باسنيوز): ماهو أهم موضوع في( الذاكرة السوداء)؟
- أنا حرصت على أن يكون معرض (الذاكرة السوداء) متماسكاً من ناحية الموضوعية، لأني بصراحة لم أرغب أن أقدم تجربات فرادية تحمل مواضيع متعددة لاترتبط بالأخرى كما نراه شائعاً، وإنما ضبطت المواضيع إحداها بالأخرى وجميعها تتحدث عن إفرازات ونتائج احتلال العراق، في تعويم الإرهاب بشتى أشكاله سيما والطائفية، فضلاً عن استحداث مظالم عدة لازال شأنها معلقاً...الخ، لكن بصراحة أرى عمل (الإعصار) وهو مشهد بانورامي لإحدى الانفجارات التي طالت شعب العراق، هو من الأعمال التي أحببتها جداً.
(باسنيوز): ولم سميته «الإعصار»؟
- لأن الانفجار ضمن ( 5 ثوان) هو جزء من أكبر اعصار يفتك بالأرض، غير أن تلك الـ (5 ثوان) تكررت كثيراً على مدى 14 عاماً في العراق، فغدت زمنا أطول من إعصار (تورنادو)، اللونان الأبيض والأسود قد غلبا على أرجاء العمل، فإن كان الفراغ - باللون الأسود - يحيط بالأشكال ويدل على الموت. فالأشكال والشخوص رسمت بالأبيض وهي تعبر عن لحظة الصمت في الحياة. فالعمل في كل لحظاته كان يبكيني، من فرط (ألمٍ ووجعٍ)، وقد أطلق عليه الكثير من الفنانين اسم (جورنيكا العراق) تمثلاً بلوحة بيكاسو «مأساة الجورنيكا».
(باسنيوز): لاحظت في هذه اللوحة حقيبة مدرسية، فما تقصد بها؟
- العمل يعبر عن المستهدفين بالانفجار. الأول: حقيبة المدرسة وحاملها؛ هما أول المستهدفين، وتعبر عن المستقبل. وعليه وضعتهما في وسط اللوحة، وحولهما تدور سائر أحداث المشهد، لأن المستقبل هو المستهدف الأول في العراق. الثاني: فرحة العائلة.. لننظرإلى ذلك المكعب الذي على يمين المشهد يبدو بمغلف جميل، ربما هدية نجاح أو هدية عيد أو هدية لزوجة، أياً كان؛ فإنه حتماً سبب لفرحة تدخل السرور في قلب عائلة، وعليه فإن الفرحة والعائلة مستهدفة. المستهدف الثالث: الحياة والتجدد؛ ذلك الطفل المسجى الذي يفترش حجر أمه الحُبلى، يمسك متشبثاً بلعبته (الحياة) لايفلتها.. رافضاً قرار الإلغاء. المستهدف الرابع: (الأرزاق)، معاق كان على عربته يضرب في الأرض، ليرجع إلى بيته بلقمة كريمة.
(باسنيوز): لكني أجد طغيان اللونين الأسود والأصفر على غالب أعمالك ضمن معرضك الذاكرة السوداء؟
- الأسود هو الحزن الذي يحمله الشعب العراقي، أما اللون الأصفر فهو كثرة التحذيرات والإنذارات التي ولدت القلق وحرمان الأمان ضمن هذه الفترة.
(باسنيوز): من خلال ملخص السيرة الذاتية وجدت لك بصمة في مجال الديكور المسرحي، فما هو أهم ديكور عملته؟
- أنا الأول على دفعتي في الرسم عام 1987، ويومها صدر قرار بأن الأوائل ينسبون إلى مؤسسات وزارة الثقافة والإعلام كل حسب مجاله، فتنسبت إلى دائرة السينما والمسرح بصفة مصمم ديكورمسرحي لما فيه من مقاربة لما أحبه، وخضت أول تجربة احترافية ضمن عمل مميز ضمن مهرجان المسرح العربي الثالث كتبه الأستاذ الدكتور خزعل الماجدي وأخرجه الفنان ناجي عبد الأمير مع نخبة من نجوم المسرح العراقي. هذا العمل أعطاني دافعاً كبيراً في مجال تصميم الديكور، وبذلك كان أول وأهم عمل لي ضمن تصميم الديكور لمسرحية تحمل اسم (هاملت بلا هاملت)
(باسنيوز): عودة إلى الذاكرة السوداء، ماسبب عزلتك طوال أربع سنين؟
- الذاكرة السوداء كانت فكرة تراودني كـ «النذر» وأنا ضمن دراسة الماجستير في القاهرة، فعندما أتممت نيلي للماجستير، أول شيء قمت به عمل معتزل (غرفة) من الخشب في سطح بيتي كما وصفتيه «عش فنان»، ثم جمعت جميع المخططات (الاسكتشات) التي كانت أفكارها تتفتق أثناء فترة البحث للماجستير، وبدأت أصيغها من مخططات إلى مصغرات، ثم بدأت التجريب بخامات لم يعهدها إلا القليل من الفنانين، واستمريت في تلك العزلة نحو تحقيق هدفي، حتى أني كنت أشعر بالتقصير في كل لحظة أكون بها خارج المعتزل، ولم أشعر بالتحرر من تلك العزلة حتى أتممت الأعمال والتصاميم الخاصة في مجال الإعلان والمطبوعات.
(باسنيوز): هل واجهك يأس أو ملل في عملك ضمن هذه الفترة ؟
- اليأس !؟ لاأعتقد.. لأني بطبيعتي أنا أحرص أن أكون شخصاً إيجابياً حتى مع من يعارضني أو أختلف معه، وكل من صاحبني يعرف ذلك، لكن الملل؛ فنعم .. لكن كنت أعالج الموقف بنفسي سريعاً ولا أترك الملل يثنيني، فكنت أتوجه إلى المطالعات الفنية والنقدية أو الاسترخاء على أفضل الأعمال الفنية الموسيقية العالمية، أو أسمع القرآن الكريم بقراءة تحمل طابع الهدوء، أو ألتقي أو أتصل بأحد الأصدقاء كي أحاوره أو أناقشه في الفكرة العامة لأحد أعمال المعرض دون أن أصرح له بالتفاصيل، وكنت دائماً أنتصر على الملل.. والحمد لله.
(باسنيوز): لكل فنان مبدع رؤيته الخاصة للعالم والواقع، فماهي رؤيتك؟
- الحياة والتجارب أنبأتني أنني مهما كنت متميزاً فلن أستطيع تغييرشيء في الحياة لوحدي، بل لابد من إيجاد شركاء يؤمنون بالتغيير، ولا بد من وجود مشروع، فإن لم أجد فلابد أن أصنعهم.
(باسنيوز): هل ترى أنك مهمش بعيداً عن الأضواء، بالرغم من أنك تمتلك صمود الأبطال؟
- طبعاً أنا لا أشعر بذلك، وإذا كان هناك «تهميش» فسببه أنا وليس الآخرين، بكوني أؤمن أن الأضواء والشهرة نتيجة وليست غاية، وكل من يظن أن بالشهرة والأضواء هو النجاح فقد أخطأ، والدليل أننا نجد كثيراً من المشهورين بعدما نالوا الأوسمة والتقديرات والأموال، كل ذلك لم يمنحهم السعادة والرضا، فالكثير منهم لجأ إلى الانتحار وآخرون إلى الإدمان على المخدرات، والبعض بدأ يعطي ظهره لتلك الشهرة ويتصل بالبعيدين عنه (الفقراء والأيتام) لأنهم أيقنوا أن الأوسمة والميداليات والشهادات التقديرية التي توشحت فاترينة قصورهم سوف تكون بلا قيمة عند وداعهم لها، ولن تكن أنفع من طقم الصحون في فاترينة غرفة الطعام.
(باسنيوز): نقرأ ونسمع كثيراً أن الفنون التشكيلية في العراق في أزمة، فماهي سٌبل العلاج؟
- حياة العراقيين محفوفة بالأزمات بشكل عام، والأزمات هي نتائج لمسببات وليست وليدة فترة، وكل مشكلة تراكمية أو أزمة أخذت شوطاً من الزمن لايمكن علاجها ضمن (روشيتة) بخطوات ضمن زمن وجيز بغية إزالة أي من تلك الأزمات ومنها أزمة الفن التشكيلي في العراق، فلربما العلاج يطول أكثر من عمر المشكلة، لكن تشخيص المسببات هو بداية الحل في مشكلة الثقافة العراقية والفنون بشكل خاص ومنها الفن التشكيلي، والمسببات بشكل عام ضمن شقين؛ الأول تتحمله الحكومات والثاني تتحمله المؤسسات التي تهتم بمخرجات الفن، فأما مايتعلق بالحكومات فالعلّة في إخضاع الفن ليكون خادم السلطة والفنانون سدنتها، وعليه يتم دعم الفن من خلال «مجموعة السدنة» ضمن هذه الدائرة الضيقة، ويوم أن تنتهي الحاجة من الفن سيهمل ويهملون، أو يتحول لأمر ثانوي خارج الأولويات. وأما مايتعلق بالمؤسسات التي تهتم بمخرجات الفن ضمن الدراسات أو البحوث؛ عليها أن تجتاز شوط الاهتمام بتدريس الفن المتعلق ضمن ما مضى، وأن تجعل اهتماماتها في الدراسات المستقبلية، ولا تنيط أو تعتمد البحوث وفق الاجتهادات الشخصية، ألا يكفي أن تقدم رسائل ماجستير وأطاريح دكتوراة لاتصلح سوى أن تشغل حيزاً على الرفوف!.. أو حتى يقال أن فلان اجتاز مرحلة ونال لقبا علمياً ضمن بحوث «لاتسمن ولاتغني من جوع»، هذا في الجانب الأكاديمي، أما في الجانب الفني والمهاراتي، فيحتاج إعادة نظر في الدراسات الفنية الأولية والقائمين على تدريسها، لاسيما وأساليب التشجيع للفنانين والفن بشكل عام. نحتاج إلى ثورة ثقافية تبدأ من أعلى الدولة وتتفرع لتصل إلى طلبة المدارس الابتدائية، حتى ينشأ المجتمع على تذوق الفن والجمال.
(باسنيوز): ماهو حلمك القصير؟ وحلمك البعيد ؟
- أولاً أنا لا أحلم!؛ ولكن أخطط وأسعى، وسعيي أن ينتقل معرضي الذاكرة السوداء إلى أوروبا وأمريكا، لتطلع عليه الشعوب الحيّة. هذا على المدى القصير، وهلى المدى البعيد؛ أن أتمم مشروع موسوعة النموذج المعرفي للفن التشكيلي، وهي موسوعة كبرى ستغني طلاب الفن والباحثين والفنانين ونقاد الفن.
(باسنيوز): ماهي مشاريعك المستقبلية؟
- أُهيئ لمعرضي «الذاكرة البيضاء» وقد بدأت به، لكن لا أعرف متى أنتهي منه.