اخبار العراق الان

حديث الخميس: ليلة شعر ٣

حديث الخميس: ليلة شعر ٣
حديث الخميس: ليلة شعر ٣

2018-03-22 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية


  ثم قلت لهً واين المعنى من كل ذلك؟    قال وما نفع المعنى إن أتى في قول مرتبك اللفظ مهلهل النسج ، فالقول يا صاحبي حجةٌ وإقناعٌ ، ولا دهشة من غير حجة ولا أثر للقول من غير إقناع انظر الى قول الله تعالى:  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ   وانما بهَته وأدهشه نظره في القول وحيَّره تأمّلُه في اللفظ بعد ان أرسل حجته -التي حسبها لا تُرد- فوقعت بين فكي برهان أعم وحجة أعظم فكان الاقناع له اشد واقوى لاشتمال المعنى على قوة اللفظ وتجانسه ومتانته واحكامه فلا خلة فيه تؤدي لقلق ولا فرجة يجوس منها ضعف وارتباك.    قلت: وهل يعلم أهل اللغة من العرب هذا الامر في اشعارهم واقوالهم قبل نزول الكتاب؟  قال: نعم لقد فطن اهل الجاهلية الى ذلك ولكنهم فطنوا له عن سجية وسليقة وقد وجدوا فيه جمالاً وعذوبةً وليس عن علم وتمحيص ودراسة كما فعل اهل اللغة ممن جاء بعدهم كالجاحظ وغيره، انظر الى قول قس بن ساعدة الإيادي كيف ارسل ابياته التي بقيت تردد في الافاق لبيانها وسهولتها:   فـي الـذاهبـين الأولـين من القـرون لنا بصائرْ لـمـا رأيت مـواردا لـلـمـوت ليس لـهـا مصـادرْ ورأيت قومي نحوها يمضي الأصاغر والأكابرْ لا مـن مـضـى يأتي إليك ولا من الباقين غابرْ أيقـنت أنـي لا محالة حيث صـار القوم صائرْ   وهذا من اجود الشعر وان خلا من فنون المبالغة وان زعموا ان اعذب الشعر اكذبه فقد حاز هذا الشعر على الاستحسان وثبت في القلوب لجمالٍ في معناه وحسنٍ في لفظة ثم عفوٍ في طبعه ثم أكتمل وتُوج حسنُه وجمالُه بواقعيتِه وصدقِه، كل ذلك اتى بالحجة والبرهان فكان الاقناع بلا مدى ولا منتهى.   واعلم يا صاحبي ان العين تُسرّ حين يحلو المنظور في النظر، كذلك الاسماع، ان حلا القول فيها ثبت في الذاكرة، والأدب في اصله علم محفوظ غير مكتوب فقد وعته العقول اولاً وحملته صدور الرجال حتى دُوِّنَ وكُتب وإنما وعته وحملته الصدور لحلاوته وان ما وصلنا لا يعدل عشر معشار ما قيل فقد ضاع منه الكثير الكثير ليس لعدم تدوينه وحسب، بل لرداءته فلم تستحسنه الأسماع فعافته الحافظة ولم يثبت في القلوب كثبات جيده، فالشعر الجيد له اثر وبريق يجددانه ويكونان سداً بينه وبين الفتور والنسيان فلا يعتريه الخمول ويبقى اثره متوقدا متجددا وان طال عليه العهد وامتد به الزمن والأمد.    والبحتري وابو تمام والمتنبي اكثر الشعراء اهتماما باللفظ ثم مجانستة مع المعنى فأتت الفاظهم رشيقة أنيقة وكأن قصائدهم سرب من غانيات يختلن بما عليهن من حلي وغلائل ولله در شوقي ضيف حين وصف ابيات القصيدة بقوله: ان لها صوتاً جميلاً كوسوسة الحُلي بل قد يكون لها خشخشة الحصى ولكنه حصى من النوع الذي يقول فيه الشاعر: يروعُ حصَاهُ حاليةَ العذارى ... فتلمسُ جانبَ العِقدِ النظيمِ   اي تتوهم النساء عند سماع خشخشته أن عقدها الذي على صدرها قد انفرط فتتلمسه وتتحسسه لتطمئن عليه، لحسن التجانس والمشاكلة بين اللفظ والمعنى أخذاً بنصائح الشيخ الجاحظ ، ومن اجمل ما يورد في هذا الباب من حسن المشاكلة قول البحتري في رثائه للخليفة المتوكل ووصفه موضع "القاطول" وهو موضع على دجلة فيه قصر المتوكل المسمى "الجعفري"   مَـحَـلٌّ عـلـى الـقَـاطُـولِ أخْلَقَ داثِرُهْ وَعادتْ صُرُوفُ الدّهرِ جَيشاً تُغاوِرُهْ   كـأنّ الصَّـبا تُـوفي نُذُوراً إذا انبَرَتْ تُــرَاوِحُــهُ أذْيَـــالُـــهَـــا ، وَتُــبَـاكِــرُهْ   وَرُبّ زَمَــــانٍ نَـــاعِـــمٍ ثَــمّ عَــهْـــدُهُ تَــرِقُّ حَــوَاشِـيــهِ ، وَيُـونِـقُ نَـاضِـرُهْ   تَـغَـيّـرَ حُـسْـنُ الـجَـعْـفَـرِيّ وأُنْـسُــهُ وَقُـوّضَ بَـادي الـجَعْـفَـرِيّ وَحَاضِرُهْ   تَـحَـمّـلْ عَـنْـهُ سَـاكِـنُـوهُ ، فُــجَــــاءَةً فَــعَــادَتْ سَــوَاءً دُورُهُ ، وَمَــقَــابِــرُهْ   فانك تشعر بوقع الألفاظ وقوتها الى جانب جزالتها وكأنه البس ثورةَ كلام في القصيدة حزناً وهمّاً واكتئابا وكدراً فمزج بين الحزن في فقد الخليفة وبين ثورة القول لاجل انه مات مقتولا فجاءت مدوية ثائرة ولكنها مكسورة حزينة ثم ترك المدى مفتوحاً لصدى قافيته الهائية التي تبدأ مدوية ثم تخفت وتنتهى في اخر كل بيت لينطلق بإثرها بيت ثان على شاكلته حتى تتم القصيدة فكانت قصيدة ثائرة نائحة كما وصفها شوقي ضيف.    وله في الغزل ما يؤكد ان الغرض الشعري لا يكون حاجزاً بين الشاعر وشعره وبين قريحته ومبتغاه حيث يقول:   لي حَبيبٌ قَدْ لَجّ في الهَجْرِ جِدّا ... وأعَادَ الـصّدودَ مِـنْـهُ وأبْدَا ذُو فُـنُـونٍ، يُـرِيـكَ فـي كلّ يَـوْمٍ ... خُـلُقاً من جَفَائِهِ مُسْـتَجدّا يَـتَـأبّـى مُـنْـعـمـاً، ويُـنْعِمُ إسْعَا ... فاً، ويَدْنُو وَصْلاً، وَيَبعَدُ صَدّا   حتى يقول: رِقَّ لي مِنْ مَدَامِعٍ لَيسَ تَرْقَا ... وارْثِ لي منْ جَوَانحٍ ليسَ تَهدَا أتُـرَاني مُـسـتَبْـدِلاً بِكَ مَا عِشْـ ...ــتُ بديلاً، وْوَاجِـداً مـنـكَ نـدّا حَـاشَ لله أنتَ أفْـتَـنُ ألــحــا ... ظاً وأحلى شَكلاً وأحسنُ قَـدّا   وقد ورد عن ابي العلاء المعري قولُه ان المتنبي وابا تمام حكيمان والشاعر هو البحتري وهذا يعني ان البحتري اكثر منهما جودة في صناعة الشعر لعلمه بموافقة لفظه مع معناه مع جزالته وسبكة وبنائه شان الصانع الحاذق الذي يعلم سر صنعته وخافي جماله وان كان المتنبي وابو تمام شاعران جعلا من الحكمة هدفاً عظيما لشعرهما.   وهذا دليل على ذكاء البحتري ايضاً والذي يحلينا الى امر اخر وهو ان  البحتري في رؤيته الشعرية وبعده الفكرى بل وحتى الفلسفي لو قدر له ان يكتب نقدا لكان في مصاف الكتّاب الكبار المؤصِلين لعلم اللغة واصول النقد كالجاحظ وابي الهلال العسكري وغيرهما ولأضاف الى النقد العربي شيئا جديداً.   وهذا هو شأن سامي الشعر ورفيعه من مبتداه حتى منتهاه، لن يكون عالقاً في المسامع مدوياً في الرُوع مؤثراً في القلوب مالم يحوِ كل ما تقدم من توافقات بين مقصده ومبناه ولفظه ومعناه محمولاً على الحسن والجمال آخذاً بكل تلك الاسباب، وخير دليل على ما تقدم هو تاريخ الادب العربي، فقد احسن تأريخنا الادبي الإختيار والاقتناء فأبقي الجيّد مما حفظته صدور الرواة ومما جمعته أقلام الأدباء من كتب الأدب والنقد وما استحسنه أئمة الذوق في ما جمعوه في كتبهم وحماساتهم ، أما رديئه فقد قدم وتهالك ودرس وذرته الرياح مع بقايا منازلهم ومواقد نيرانهم وآثار اطلالهم ثم جرفته سيول الزمن الى حيث لا رجعة، وهذا لا يعني اننا لم نفقد شيئاً من جيده ولكن لا شك ان ذاكرة الانسان تحفظ الجيد المتكرر الذي يحركه كثرة الترديد والانشاد وتتناقله صدور الرجال حتى تتلقفه بطون الكتب فيثبت فيها الى ما شاء الله له ان يثبت. وأما الرديء فيبقى كماء البركة الساكن الذي لا يتحرك بين غدير وغدير ولا تتقاذفه سهولة الارض من مصب الى مصب فلا يتجدد حتى يجف ويتبخر.   "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ"