الاجندات الحزبية في تونس تهدد الوحدة الوطنية
على الرغم من أن الوحدة الوطنية بمفهومها المدني تمثل ثابتا من ثوابت دولة الاستقلال وخاصية من خصوصيات المجتمع التونسي إلا أنها تحولت منذ انتفاضة يناير/كانون الثاني 2011 إلى مسألة تخضع لأجندات الأحزاب وفشلت الحكومات المتعاقبة في تحويلها إلى قوة تساعدها في إدارة مختلف الأزمات التي شهدتها وتشهدها البلاد.
ويرى مراقبون أن الحكومات المتعاقبة لم تحافظ فقط على الحد الأدنى من الثوابت السياسية والاجتماعية التي تقوم على أساها الوحدة الوطنية وإنما فشلت حتى نسج الخيوط الضرورية التي من شأنها أن تنأى بتونس عن تجاذبات الأحزاب.
وخلال ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي قاد الزعيم الحبيب بورقيبة مشروعا وطنيا حداثيا متسلحا بمفهوم الوحدة الوطنية التي صهرت غالبية القوى مهما كانت المؤاخذات على جهود وطنية وشعبية للتحديث الاجتماعي والسياسي.
ووفق مؤرخين بدا مفهوم الوحدة الوطنية آنذاك مفهوما مستحدثا في مجتمع يحتكم لنسيج من القبائل في الأرياف ولنسيج من العائلات الأرستقراطية في المدن غير أن الدولة تولت تثبيته سياسيا واجتماعيا وثقافيا لتنتهج البلاد تجربة تحديث متفردة.
وحين نعود إلى السنوات السبع الماضية نكتشف أن حكومة الترويكا بقيادة حركة النهضة الاسلامية كانت أول من استهدف مفهوم الوحدة الوطنية من خلال استئثارها بالحكم ومواقع القرار السياسي والإداري منتهجة سياسة تهميش مختلف القوى السياسية والمدنية الديمقراطية بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل الذي شنت عليه حربا شرسة.
ولم تكن الثقافة السياسية التي تتبناها الحركة الإسلامية تؤمن أصلا بالمفهوم المدني للوحدة بقدر ما كانت تؤمن بأبجديات الإسلام السياسي الذي يسعى إلى تجفيف منابع ثوابت الثقافة السياسية المدنية ويستحضر التونسيون هنا العبارة التي أطلقها حمادي الجبالي حين تحدث عن "الخلافة السادسة".
وإزاء الاستخفاف بالمفهوم المدني للوحدة بين التونسيين حشد جزء هام من القوى الوطنية في العام 2012 لتأسيس حزب نداء تونس برئاسة الباجي قائد السبسي وعيا بأن تونس الحديثة لا يمكن أن تنحت ملامحها بأنامل الإسلاميين وإنما هي في أمس الحاجة إلى صياغة مشروع يستلهم مفرداتها من التاريخ الوطني ومن الثقافة السياسية المدنية.
وخلال الفترة الأولى من تأسيسه استقطب النداء القوى المؤمنة بالوحدة الوطنية ونجح إلى حد ما في فتح الآمال أمام التونسيين المتوجسين من أجندة الإسلامين، لكن على إثر انتخابات 2014 غرق حزب نداء تونس في أزمات داخلية انتهت بحدوث انشقاقات واستقالة عدد من كبار أعضائه منهم محسن مرزوق الذي أسس لاحقا حركة مشروع تونس.
ويرى مراقبون أن الاتحاد العام التونسي للشغل لعب دورا وطنيا تاريخيا للمحافظة على الوحدة الوطنية لما تولى رعاية الحوار الوطني في أعقاب الأزمة التي زجت النهضة تونس فيها ونجح في النهاية مع أطراف أخرى هي اتحاد الصناعة والتجارة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والهيئة الوطنية للمحامين في دفع الترويكا للتنحي لصالح حكومة كفاءات برئاسة مهدي جمعة.
وفي أعقاب انتخابات 2014 كان التونسيون يتطلعون إلى أن تتجسد الوحدة الوطنية في حكومة تكون منفتحة أكثر ما يكون على القوى السياسية والمدنية غير أن النداء خيب آمالهم من خلال إشراك النهضة واستبعاد عددا من القوى ليعمق الخلافات.
ومنذ حكومة الحبيب الصيد الأولى التي تركزت بناء على التوازنات الانتخابية لا بناء على مفهوم الوحدة الوطنية، بدت تونس وكأنها تتأرجح بين أجندات أحزاب خطابها المعلن مع الوحدة وأهدافها تسعى لانتزاع أكثر ما يمكن من مواقع القرار السياسي.
ويشدد المتابعون للشأن التونسي على أن الحكومات الائتلافية التي ما انفكت تقدم نفسها مرة تحت عنوان "الإنقاذ" وأخرى تحت عنوان "الوطنية" لم تكن سوى حكومات "حزبية" ذات أجندات مختلفة إلى حد التناقض مرجعيا وبرامجيا.
وزاد التحالف الهش بين النداء والنهضة من اضعاف مفهوم الوحدة الوطنية وتهميش القوى الديمقراطية اللبرالية والعلمانية ولم يتوصل إلى إخماد خلافاته الداخلية التي كانت لها تداعيات سلبية سواء على أداء الحكومة أو على نداء تونس.
وبرأي مراقبين لم يكن الحكم الائتلافي مبنيا على أي شكل من أشكال الثوابت الوطنية بقدر ما كان مبنيا على توازنات هشة مستحضرين حالة اضعاف الأحزاب الصغرى وفي مقدمتها آفاق تونس والحزب الجمهوري من قبل النداء والنهضة ما دفع بها إلى الانسحاب من الحكومة والالتحاق بالمعارضة.
ويبدو أن اثارة مسألة الوحدة الوطنية خلال هذه الفترة التي تستعد فيها تونس للانتخابات البلدية لم يكن صدفة إذ كشفت أن الأحزاب ألقت بها على هامش العملية السياسية لتقود منافسة لا تخل من منافسة على التموقع ضمن مؤسسات الحكم المحلي لتفرض تاليا "قوتها الاستعراضية" على تركيبة الحكومة المنتظرة.
ويعد اجتماع قائد السبسي السبت الماضي بكل من يوسف الشاهد رئيس الحكومة ومحمد الناصر رئيس البرلمان ونورالدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل دون حضور قادة الأحزاب الأخرى الفاعلة في المشهد السياسي، مؤشرا على أن الأحزاب تحولت إلى معضلة أمام بناء وحدة وطنية مدنية في تناقض مع التزام سابق باتفاق وثيقة قرطاج.
ويتوقع المراقبون أن تعمق نتائج الانتخابات البلدية الخلافات بشأن تركيز حكومة وطنية جامعة لكل القوى السياسية على الرغم من أن قائد السبسي تعهد بالقطع مع الوضع الحالي خاصة وأن البلاد التي تعاني أزمة هيكلية قادمة على إصلاحات قاسية.
ويضيف هؤلاء أنه طالما لم يتم رسم خارطة طريق اقتصادية وسياسية واجتماعية واضحة وعملية تلتزم بها القوى السياسية والقوى المدنية وفي مقدمتها اتحاد الشغل فإن مفهوم الوحدة الوطنية سيبقى في مهب أجندات الأحزاب وقد يلقي بتداعياته السلبية على التجربة الديمقراطية الناشئة والمتعثرة.