علي بن مخلوف يشدد على أهمية قراءة الفلاسفة العرب اليوم
سعى المفكر العربي د. علي بن مخلوف أستاذ الفلسفة بجامعة باريس - إيست كريتاي، وبالجامعة الحرة ببروكسل، في كتابه "لماذا نقرأ الفلاسفة العرب؟" الصادر أخيرا عن دار آفاق بترجمة د. أنور مغيث، إلى أن يبين أن الفلسفة العربية ـ كما تجلت في الفترة من القرن الثامن إلى القرن الحامس عشر ـ هي جزء لا يتجزأ من التاريخ الفكري للإنسانية.
ويشهد على نجاح انتقال الفلسفة العربية إلى العالم الأوروبي هذا التجهيل نفسه، مؤكدا أننا نستخدم اليوم حججا من فلسفة العصر الوسيط العربية دون أن نعرف أنه تمت صياغتها من حوالي عشرة قرون مضت في عالم يمتد من قرطبة إلى بغداد، مثال ذلك التمييز بين الجوهر والوجود الذي يسري في الفلسفة الكلاسيكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر والذي صاغه فيلسوف القرن القرن العاشر ابن سينا حينما كان يقرأ ميتافيزيقا أرسطو.
وقال بن مخلوف "الفلسفة العربية مثلها مثل الفلسفة الصينية وفلسفات أخرى، هي واحدة من طرق الولوج إلى تاريخ الحقيقة التي تتقاسمها البشرية. وأن يكون هناك مداخل مختلفة لا يعني أن بينها عدم اتصال. أن نقارن بين الثقافات دون أن نجعلها متكافئة كما يقول الفيلسوف مونتاني، لا يعني اختزالها الواحدة في الأخرى بالتأكيد، وإنما نحن نتواصل فيما بيننا ونعيش على القول المشترك على أساس أن هذا القول نصفه ينتمي إلى من يقوله ونصفه الآخر ينتمي إلى من يتلقاه، حسب تعبير مونتاني أيضا. وقد عرفت الفلسفة في اللغة العربية في العصور الوسطى تطورا غير مسبوق، وأقول "في اللغة العربية" وليس فقط صفة العربية، لأن كثيرا من الفلاسفة كانوا في الواقع من أصل فارسي مثل ابن سينا والرازي أو من آسيا الوسطى مثل الفارابي مثلا، ويمكن لنا أن نقول مع عالم العصر الوسيط جان جوليفيه إن "الفلسفة ولدت مرتين في الإسلام: أولا في صورة اللاهوت الأصلي أو علم الكلام، ثم في صورة التيار الفلسفي الذي يتغذى في أغلبه على المصادر اليونانية". وهذا التيار الأخير اسمه في اللغة العربية "فلسفة" وهو نقل للمصطلح اليوناني "فيلوصوفيا" وقد تحول إلى ممارسة فعلية بواسطة عدد من الفلاسفة الذين عرفهم الغرب بعد ذلك من خلال الترجمة اللاتينية في العصر الوسيط، والذين ناقش المدرسيون أفكارهم باستفاضة. وظلت أسماؤهم معروفة من خلال هذا المرور إلى اللغة اللاتينية: أفيسين "لابن سينا الفارسي" وأفيرويس "لابن رشد العربي الأندلسي، أفيمباس "لابن باجة العربي الأندلسي".
ورأى بن مخلوف أنه مما يدعو إلى الإعجاب أن هذا الميلاد الثاني للفلسفة الناشئة من مصادر يونانية لم يسع إلى الحصول على حماية علم الكلام "اللاهوت"، بل تشكل بصورة صريحة كفلسفة وريثة للتراث الوثني اليوناني، وسعت إلى تبرير وجودها فيما اصطلح على تسميته "الشريعة": جرى تمييز إذن بين علم الكلام والدين. إذا كان الفلاسفة الذين ذكرناهم قد لجأوا بشكل دائم في كتابتهم إلى الآيات القرآنية، فإنهم سرعان ما يتخذون مسافة بينهم وبين الأبنية الكلامية، باستثناء بعضهم مثل الغزالي الذي فضّل في بداية القرن الثاني عشر أن يتخذ مسافة مع الإرث اليوناني لصالح علم الكلام الإسلامي.
وأضاف أن الفلسفة العربية، التي تكونت بوصفها كلاما مبرهنا وليس كلاما موحى به، بحثت لدى أرسطو عن وسائل لإضفاء الصلاحية على حججها الفلسفية. كيف فعلت ذلك؟ كيف شكلت مدخلا إلى الحقيقة؟ يشهد على ذلك ابن رشد في بداية كتابه "فصل المقال": مصدر الفكر هو العقل. الوصول إلى الحقيقة هو استخدام المنطق الأرسطي والقياس، ويقول لنا "وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس، فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي".
بهذا النمط من التفكير تصبح الفلسفة مفسرا للنصوص المقدسة، ومن هنا تستمد شرعيتها بالإشارة إلى بعض الآيات. وليو شتراوس، بين مفكرينا المعاصرين، لقد لفت انتباهنا إلى هذا التفرد في الفلسفتين العربية واليهودية التي تضع دائما الحقيقة أمام محكمة القانون الإلهي: "بالنسبة لليهودي والمسلم، الدين، ليس كما هو الحال بالنسبة للمسيحي عبارة عن إيمان صيغ في عقائد، لكنه قانون، ومدونة قانونية في أصل إلهي. والعلم الديني أو المذهب المقدس ليس هو اللاهوت العقائدي، ولكن علم القانون، الهالاكا أو الفقه"... وهكذا سوف نشهد جهدا مزدوجا في التوفيق من جانب بين الشريعة والفلسفات الوثنية لأرسطو وأفلاطون، ومن جانب آخر توفيق بين هذه الفلسفة الوثنية وبعضها، وهذا نجده لدى فيلسوف مسلم مثل ابن رشد وفيلسوف يهودي مثل ابن ميمون، والاثنان كتبا بالعربية.
وأكد بن مخلوف أن الحق لا يتعدد، ولكن طرق الوصول إليه هي التي تتعدد. وأن الفلاسفة العرب على مدى أربعة قرون من الكندي في القرن التاسع إلى ابن رشد في نهاية القرن الثاني عشر، كان يحركهم دائما الهم في جعل حقائق الفلاسفة القدماء متماسكة فيما بينها، منجزين بذلك جهد التوفيق بين أفلاطون وأرسطو الذي تجده في فقرات كثيرة من تاسوعيات أفلوطين.
إن شعار ابن رشد في القرن الثاني عشر هو الآتي: لا يمكن لأحد أن يمتلك كل الحق، إنه تتابع أجيال واستمرار مؤكد بين ثقافات مختلفة. تقدم صورة له: "وإذا كان الأمر هكذا، وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك". إنها فكرة الحق ذي المسار الممتد عبر الأجيال والثقافات التي عبّر عنها الكندي بكل قوة.
وخلص بن مخلوف إلى أن التزام الفلاسفة العرب بموضوع الحقيقة لا يقدم نفسه بطريقة واحدة. إذا كان الجميع يلح على القول بأن الحق واحد وهو ذاته، فإنهم يقرون مع ذلك بأن المداخل إلى تلك الحقيقة متعددة واستراتيجية. بهذا المعنى، فإن هذا الالتزام هو "إرادة للحقيقة". وهذا الالتزام يندرج في تاريخ مشترك لجميع البشر: ليس تاريخ العرب أو المسلمين وحدهم، ولكن تاريخ يشمل القدماء، الوثنيين، غير العرب، غير المسلمين. جمعت اللغة العربية خلال سبعة قرون إنتاجا فلسفيا، لم يدمجه"تراث الإنسانية"، أي نقل الإرث المشترك للإنسانية، بوصفه كذلك.. ومن جانب، ذابت الفلسفة العربية في فلسفة العصر الوسيط اللاتينية، ثم في فلسفة عصر النهضة وفي الفلسفة الكلاسيكية، وكان عدم ذكرها هو علامة نجاحها الكبير إلى حد ما، على غرار ما حدث مع الفلسفة الرواقية. من جانب آخر كانت في الغالب موضوعا للإخفاء، سواء في إعداد الإنسان الشريف الذي انبثق في عصر النهضة، أو في إعداد الإنسان الحديث.
عدم ذكر، إخفاء، ولكن أيضا تاريخ ملئ بالعثرات كان فيه وزن الظروف العارضة، بل تقول حتى وزن العابر، كبيرا للدرجة التي تجعلنا نشهد إدراج هذه الفلسفة في عصر يفترض أن الزمان عفا عليه، العصر الوسيط، والذي نجح الانحياز الذاتوي للنزعة الديكارتية في إجراء قطعية جذرية معه. لكننا اليوم في عصر ما بعد ديكارتي.
وأوضح "أردت جزئيا أن أؤكد هذه القطعية مع العصر الديكارتي، وأبين أنه بين فلسفة العصر الوسيط والفلسفة المعاصرة هناك في المقابل توافقات وصلات قرابة، والمنطق خير شاهد عليها. ولكن أؤكد جزءًا فقط من هذه القطيعة، لأن هذه القطيعة، التي دشنتها الديكارتية، تقترن أيضا بمصادفات تاريخية (الاستعمار، الاشتباه في فلسفة الدين .. إلخ)، التي دفنت في عصور مظلمة جانبا كبيرا من التاريخ العقلي للإنسانية.. نمتلك اليوم ترجمات محلا للثقة بما يكفي، وكثيرة بما يكفي كي لا يكون لدينا ذريعة حاجز اللغة، ونمنع أنفسنا من دراسة هذا التاريخ الطويل.
إن التخفيف من إطلاقية النظرة الديكارتية منذ قرن ونصف بفضل فلسفة العلوم، والفلسفة التحليلية وفلسفة المنطق، منح عالم العصر الوسيط - وليس العصر الوسيط العربي فقط - بعض الألوان. في هذا الإطار أريد أن أعود إلى تناول هذا التراث الكبير للإنسانية، لكي أبين اتساقه، وأيضا الأشكال المتنوعة للتعبير، وأحيانا القطائع.
ولفت بن مخلوف إلى أن ما استبقاه بشكل ملحوظ نموذجان إرشاديان متقاطعان: النموذج البرهاني والذي رفع إلى مكانة عالية في شروحات العرب على أرسطو، والنموذج الإرشادي الطبي والذي يعكس معرفة إنسانية قريبة من ممارسة حكم الذات وحكم الآخرين. مصائر متقاطعة، لأن النموذجين يتقاطعان في التوجه الأساسي، وهو تمنى الحياة طبقا للعقل.
وقال "الحكمة - كلمة لا نزال حتى اليوم لا ندرك قيمتها الاستراتيجية حينما كانت مستخدمة في سياق العصر الوسيط - قد ساعدت كلا من الفقهاء والفلاسفة على بناء حجج موجهة لحماية الفلسفة أو بناء مدونة قانونية مستمدة من "الشريعة".
كلمة الحكمة هذه توضح المداخل المتعددة للحقيقة: حكمة في البرهان الذي يصاحب التصديق الذي يجبر على الاعتقاد في نظرية، حكمة أو حصافة في استخدام المرجح في المناهج الجدلية والخطابية أو في تلك التي تواظب على حياة في الاعتدال، حكمة في الحذر الذي تدرج به الشعرية الصورة في أشكال قياسية تجعلنا نقول عند قراءة أو الاستمتاع إلى مجاز: "هو ذلك". بعبارة أخرى، شكل من الرضا سجله الفلاسفة العرب في مجال المنطق نفسه.
وأوضح أن المعنى أو الذكر من جانب، والاستخدام من جانب آخر: هذا تمييز وضعه الفلاسفة المعاصرون مثل كواين في الصدارة. سرني أن أعود لأجده لدى ابن رشد وابن خلدون اللذين استطاعا أن يجعلا من تحليل الحدود شكلا من الوصف الأنطولوجي واللاهوتي، خلق العالم؟ أمير المؤمنين؟ مجرد تحليل للياقة اللغوية يذهب ببعض التقلصات الذهنية التي تودعها فينا بعض المشكلات الميتافيزيقية أو السياسية المطروحة بصورة خاطئة أو ترفية. ولنذهب إلى القول بأن منهج الانكماش الحساس، ليس لما يقال هنا أو هناك، في هذا النص المقدس أو غيره، لكنه بالأحرى حساس لما لم يقل، والذي هو غالبا إما مسقطا، وإما مموها.
وحينما نضع الأطروحات المقدمة في السياق، نشهد شكلا لمرور العلامات من المهم أن نبين النحو الخاص به. نحو السياسي الذي يعزو للسماء ما يقال على الأرض، أخيرا نحو الجسد الذي، في إفراطاته ونواقصه، يلعب مع قدراته واستعداداته من أجل وجود أفضل يكون للنفس فيه نصيبها، الحاسم أحيانا.
وختم بن مخلوف "تحدث ميشيل فوكو عن "إرادة للحقيقة" فيما يخص كل هذه الضروب من النحو. هذا التعبير يمكن أن يؤدي إلى صور من سوء الفهم. إنه لا يعني نزعة نسبية، ولكنه وضع في السياق لشرح الاختيارات الاستراتيجية لمصطلح ما - مثل مصطلح الحكمة - من أجل تبرير ممارسة إما فلسفية وإما فقهية. وضع الحق في السياق ليس معناه وضعه في حالة تأرجح، ولكن طريقة واضحة وملموسة لأن نحيل الدلالات إلى استخدامها من أجل تفادي الحديث بطريقة تعويذية عن الحقيقة بوجه عام.. اللعبة المنطقية في تعارض القضايا بحسب ما إذا كان هذا التعارض في حده الأقصى "يكون لدينا إذن تناقض" أو لا يسمح ضمنا ببناء تداخل واقعي: تداخل بين الفلاسفة القدماء والنص المقدس، لأنه في كل هذه الحالات، فإن التعارضات بعيدة عن أن تكون في حدها الأقصى، بل إنها أحيانا ليست سوى متقاربة. وإذا كان المعنى المضاد يفرض نفسه في هذا النقل أو ذاك، وفي هذا الشرح أو ذاك، فهو ليس نتيجة عدم قدرة على الفهم، بقدر ما هو علامة على سوء تفاهم يمكن لسهولة الاتصال أن تجعله ينقشع، إرادة للحقيقة مرة أخرى.
محمد الحمامصي