جذور 'فن الإنشاد الديني' تعود إلى عهد الفراعنة
القاهرة - يرتبط الإنشاد الديني في أذهان الكثيرين بالغناء والأناشيد المرتبطة بمدح النبي محمد، لكن الكاتبة المصرية مروة البشير تلقي الضوء في دراسة عن تاريخ الإنشاد الديني على جذوره التي تعود إلى عهد الفراعنة.
يرصد كتاب (فن الإنشاد الديني) الصادر عن الدار المصرية اللبنانية تاريخ هذا اللون من الغناء الذي يمزج بين روحانيات العقيدة والغناء.
وفي مقدمة الكتاب تشير الكاتبة إلى أن مصر هي أول دولة في العالم عرفت الإنشاد الديني، وهو الإنشاد المصاحب للطقوس والعبادات وإقامة الشعائر والصلوات داخل المعابد عبر مجموعة من الترانيم تستند لنصوص دينية. وكانت أشهر هذه الأناشيد على الإطلاق للملك الفرعون إخناتون.
وينقسم الكتاب الواقع في 276 صفحة من القطع المتوسط إلى قسمين رئيسيين. القسم الأول يحمل عنوان (نشأة فن الإنشاد الديني وتطوره) ويضم هذا القسم ثمانية فصول تستعرض تاريخ فن الإنشاد منذ عصر الفراعنة حتى العصر الحديث.
وفي الجزء الأول يلقي الكتاب الضوء على تاريخ الأناشيد حيث يجري تعريف معنى الإنشاد الديني عند الفراعنة والإشارة إلى بعض النصوص والتراتيل الجنائزية التي وجدت منقوشة على جدران بعض الأهرامات وتوابيت الموتى. وتوضح الكاتبة أن الباحثين لم يتوصلوا بعد إلى الطريقة التي كانت تؤدى بها تلك التراتيل لكن المرجح أنها كانت تؤدى بطريقة الإلقاء أو التلاوة.
وأشهر هذه الأناشيد على الإطلاق هو نشيد إخناتون الذي ربط بعض الباحثين بينه وبين المزمور 104 من مزامير النبي داود من حيث المضمون وتماثل بعض الجمل.
ويبدأ نشيد إخناتون بمطلع يقول "أنت تطلع ببهاء في أفق السماء يا آتون الحي يا بداية الحياة عندما تبزغ في الأفق الشرقي تملأ كل البلاد بجمالك".
وينتقل الكتاب بعد ذلك إلى الإنشاد القبطي وتاريخه ونشأته وتطوره. وتشير الكاتبة في هذا الفصل إلى أن الإنشاد القبطي انتشر مع ظهور وانتشار الديانة المسيحية وكان يؤدى بشكل فردي أو جماعي.
وبعد انتهاء عصر اضطهاد المسيحيين قام آباء الكنيسة بتأسيس نظام للطقوس الدينية المؤلفة من الأناشيد التي يترنم بها المنشدون في المناسبات المختلفة طوال السنة. وصاغوا كلمات وموسيقى الأناشيد الدينية وتأثروا بالشعر الغنائي في العهد القديم أو المزامير ثم بدأت كل كنيسة في وضع الأناشيد الخاصة بها.
بعد ذلك ظهرت الموسيقى الكنسية القبطية في الكنيسة الأرثوذكسية. ووصف عالم الموسيقى الإنكليزي إرنست نيولاند سميث هذه الموسيقى بأنها إحدى عجائب العالم السبع.
وتقول الكاتبة في هذا الفصل عن تراث الإنشاد الديني الكنسي "تراث الألحان القبطية حفظته الكنيسة على مدى واحد وعشرين قرنا من الزمان، وسلمته جيلا بعد جيل بطريقة التسليم أو التقليد الشفاهي... ويعتبر حفاظ الكنيسة المصرية على الألحان القبطية التي تسلمتها من القرون الأولى للمسيحية معجزة يشهد بها التاريخ".
ويورد الباب مجموعة من أشهر الترانيم التي لا تزال تتردد حتى الآن في الكنيسة القبطية.
ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى عصر ظهور الإسلام وقصائد المديح النبوي التي تعد عماد الإنشاد الديني الإسلامي. ويبدأ هذا الفصل بالإشارة إلى نشيد (طلع البدر علينا) باعتباره أول إنشاد في الإسلام.
لكن دراسات على هذا النشيد شككت في صحته خاصة فيما يتعلق بلغته وكلماته وعدم اتساقها مع اللغة الشائعة في هذا الوقت. ومن النقاط المهمة التي استند لها الدكتور أنيس بن أحمد بن طاهر الإندونيسي عضو هيئة التدريس بكلية الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في تفنيد هذا النشيد أن منطقة ثنيات الوداع تقع ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام.
ويرجح الباحث أن يكون هذا النشيد من أناشيد القرن الثالث الهجري. والرواية الأقرب للصحة عن استقبال الأنصار للنبي هو الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق قال "قدمنا المدينة ليلا فتنازعوا أيهم ينزل عليه رسول الله فقال: أنزل على بني النجار، أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك. فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطريق ينادون: يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله".
ولا يغفل الفصل الإشارة لحسان بن ثابت الذي تصفه الكاتبة بأنه فارس هذا النوع من الشعر وأشهر من نظم أشعار المدح النبوي. وكان شعره في الرسول يمتاز بالصدق والإخلاص حتى عندما سئلت السيدة عائشة عن وصف الرسول قالت "والله كما قال فيه شاعره حسان بن ثابت: متى يبد في الداجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد."
كما أنه ذكر في أحد مدائحه بيتين أصبحا مصدر إلهام للشعراء المحبين للذات المحمدية قال فيهما: وأحسن منك لم تر قط عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء
ينتقل الكتاب بعد ذلك إلى الإنشاد الديني بعد عهد النبوة وكيف انتشر وازدهر حيث تحول في العصر الأموي إلى فن له قوالبه وأصوله وقواعده. وخلال هذه الفترة ذاع صيت إبراهيم وإسحق الموصلي أشهر الموسيقيين وقتئذ والفتى زرياب تلميذ إسحق الموصلي الذي كان من أهم من قاموا بغناء وتلحين الأناشيد الدينية. وذاع صيت مدينة حلب السورية في هذا اللون من الإنشاد خلال هذه الحقبة.
ولا يغفل الكتاب الإشارة إلى العصر الفاطمي الذي شهد الإنشاد الديني خلاله تطورا كبيرا وانتشر انتشارا واسعا وكانت مصر ركيزة هذا التطور. وارتبط الإنشاد الديني في العهد الفاطمي بالاحتفالات الدينية خاصة أن الفاطميين كانوا يحرصون على إقامة احتفال عظيم عند تولي الخلافة لإضفاء نوع من القداسة الدينية والمكانة على منصب الخليفة.
ولا تغفل الكاتبة الحديث عن رأي علماء الدين في فن الإنشاد حيث خصصت فصلا كاملا لآراء الأئمة وعلماء الدين في هذا اللون من الإنشاد ومنهم الإمام الشاطبي والإمام الغزالي والإمام ابن عبدالبر والشيخ عبد الغني النابلسي الذي قسم الغناء بشكل عام إلى ثلاثة أقسام: محرم ومباح ومندوب وهذا الأخير هو لمن غلب عليه حب الله تعالى والشوق إليه وهو القسم الذي يندرج تحته "سماع الصوفية وأهل الصدق والإخلاص في كل زمان".
وينتقل الكتاب بعد ذلك بشكل تفصيلي إلى الحضرة والموالد الشعبية باعتبارهما من أهم منافذ الإنشاد الديني في الوقت الحديث وإن اختلفا في أن الحضرة يغلب عليها الطابع الديني البحت والنزعة الصوفية بينما تتجلى في الموالد الشعبية تقاليد وعادات أصيلة ترتبط ارتباطا كبيرا بالمنطقة التي يقام بها المولد الشعبي.
وتنتشر الموالد الشعبية في محافظات وقرى مصر وأشهرها على الإطلاق موالد آل البيت وأولياء الله الصالحين ومنها مولد السيد الحسين والسيدة زينب ومولد أحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي وعبد الرحيم القنائي وأبوالحجاج الأقصري.
ولا يقتصر الأمر على الموالد الشعبية المرتبطة بالدين الإسلامي وإنما توجد أيضا موالد قبطية كثيرة منها مولد السيدة مريم العذراء والقديسة دميانة في الدقهلية ومارمينا بالصحراء الغربية.
ووفقا لإحصاء صادر عن الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية بلغ عدد الموالد الشعبية في مصر 2850 مولدا للمسلمين والأقباط.
وفي القسم الثاني من الكتاب يحمل الذي يحمل عنوان (أشهر المنشدين والمنشدات) تسرد الكاتبة السير الذاتية لأشهر المنشدين وفي صدارتهم المنشد وقارئ القرآن نصر الدين طوبار وأستاذ المداحين الشيخ سيد النقشبندي ومداح النبي محمد الكحلاوي والشيخ طه الفشني ومنشد البردة عبد العظيم العطواني والشيخ أحمد التوني الذي استطاع نقل الغناء الصوفي من المحلية إلى العالمية.
ولم يقتصر هذا القسم على أهم المنشدين الذين تميزوا في أداء الإنشاد الديني الإسلامي وإنما خصص مساحة أيضا للمنشدين الأقباط الذين تصفهم الكاتبة بأنهم من الظواهر المهمة في الإنشاد الديني في مصر حيث تخصص بعضهم في مدح النبي محمد وأهمهم مكرم جبرائيل غالي الشهير بمكرم المنياوي الذي ولد في 1947 بمحافظة المنيا وذاع صيته في صعيد مصر في الستينيات بالمواويل والقصص التاريخية. واتجه منذ عام 1966 لفن المديح النبوي حتى وافته المنية في وقت سابق من هذا الشهر.
كما تتحدث الكاتبة أيضا عن المنشدات وأشهرهن خضرة محمد خضر ونبيلة عطوة والمنشدات من الجيل الأصغر سنا مثل آية الطبلاوي التي بدأت مسيرتها في الإنشاد في سن السابعة ونبوية حسان وغيرهن.
ويلقي هذا القسم أيضا الضوء على أشهر فرق الإنشاد الديني المعاصرة ومنها فرقة الحضرة وفرقة رضوان المرعشلي وعامر التوني والمولوية المصرية.
يحفل الكتاب أيضا بالعديد من القصائد والأناشيد الدينية الإسلامية والقبطية على حد سواء على مر تاريخ الإنشاد.
وهذا الكتاب هو أول أعمال مروة البشير الصحفية ونائبة رئيس قسم الأخبار بجريدة الأهرام والمسؤولة عن متابعة شؤون الأزهر الشريف.