المشهد الإعلامي التونسي بلا بوصلة
تزامنا مع إحياء اليوم العالمي لحرية الصحافة تصاعد الجدل في تونس حول المحركات الأساسية للمشهد الإعلامي المتنوع والمضطرب ومدى قدرة الإعلاميين على توسيع مساحة الحرية التي يتمتعون بها وتعزيز استقلالية القطاع وحياده في ظل سطوة مراكز النفوذ السياسي والمالي التي تخشى أن يتحول الإعلاميون إلى قوة ضغط قوية.
ويعترف الفاعلون الإعلاميون والسياسيون ونشطاء المجتمع المدني بأن حرية الإعلام والرأي والتعبير تكاد تكون المكسب الوحيد الذي تحقق للتونسيين بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
وفي سنوات ما بعد الثورة ظهر مشهد إعلامي جديد أكثر تنوعا، لكنه ترافق أيضا مع هواجس الفاعلين في القطاع وسط مخاوف مكسب حرية التعبير في ظل أزمة سياسية وهيكلية طالت تقريبا كل القطاعات.
ويرى مراقبون أن المشهد الإعلامي التونسي الناشئ شهد خلال السنوات السبع الماضية
حالة من الانفلات في مرحلة أولى ثم حالة من الاضطراب في مرحلة ثانية كثيرا ما تغذتا من هشاشة الأوضاع العامة من جهة ومن التجاذبات السياسية ومصاعب مالية من جهة أخرى.
ويؤكد هؤلاء في المقابل أن وسائل الإعلام السمعية والبصرية وأيضا المكتوبة والإلكترونية قامت بدور مهم في إسناد الديمقراطية الناشئة ومثلت رافدا من روافدها من خلال المساهمة في تصويب المسار الانتقالي.
ويقول خليل الرقيق المحلل السياسي "لقد لعبت وسائل الإعلام المختلفة دورا نوعيا بل محوريا في إعادة تشكيل المرحلة الانتقالية وتصويب مسارها من خلال تصديها المعلن للمخطط الإسلاموي بعد انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011 التي أفرزت ائتلافا حكوميا تحت مسمى الترويكا بقيادة حركة النهضة" الاسلامية.
وأضاف الرقيق في تصريح لمراسل ميدل ايست أونلاين "تصدى الإعلام بكل جرأة لحكومة الترويكا بقيادة النهضة وانتصر إلى القوى المدنية والأبعد من ذلك أنه ساهم أيضا في إسناد الحوار الوطني الذي رعاه الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (منظمة الأعراف) والهيئة الوطنية للمحامين (نقابة المحامين) والرابطة التونسية لحقوق الإنسان (حقوقية غير حكومية) وقاد إلى تنحية الإسلاميين من الحكم نهاية العام 2014 بعدما زجوا بالبلاد في أزمة سياسية واستهدفوا مدنية الدولة".
عراقة وتنوع
ويجمع المؤرخون على أن الصحافة التونسية نشأت تزامنا مع نشأة الحركة الإصلاحية التي قادتها نخبة من المثقفين منذ منتصف القرن التاسع عشر إذ صدر في 22 يوليو/تموز 1860 العدد الأول لأول جريدة تحمل عنوان "جريدة التونسي" لتكون أول محمل من محامل عملية الإصلاح الوطني والتحديث الاجتماعي والسياسي.
ومنذ العام 1888 صدرت عدة جرائد أخرى منها " نتائج الأخبار" و"الحاضرة" و"القصبة" ليقفز عدد الجرائد التونسية الناطقة باللغة العربية إلى 11 في العام 1890 ثم إلى 54 مطبوعة ودورية ما بين العامين 1904 و1911 تزامنا مع النسق التصاعدي لنشاط الحركة الوطنية لتمثل صوتها المطالب باستقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي.
ونجحت الصحافة التونسية آنذاك في التعبير عن إرادة الحركة الوطنية والشعب التونسي في إسناد مسارات الإصلاح والتحديث حيث كانت فضاء للتعبير عن مختلف آراء النخبة الفكرية والسياسية وسندا قويا لاستقلال تونس وتركيز العام 1956 الدولة المدنية.
وتعد تلك الجرائد التي خبرت العلاقة مع الدولة الجذور الأولى للمشهد الإعلامي التونسي حيث استلهم منها الانتصار إلى المحامل المدنية حرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف في الراي مع الالتزام بمنظومة قيم ثقافة المجتمع المدني.
ويرى خليل الرقيق أن "المشهد الإعلامي الحالي ورث من التجربة الوطنية عنصرين إثنين أولهما التنوع سواء في ما يتعلق بالكم أو ما يتعلق بالمحامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وثانيهما العمق المدني والتحديثي لتلك المحامل الوطنية".
وفي أعقاب انتفاضة يناير/كانون الثاني 2011 استفاد المشهد الاعلامي من مساحات حرية لم يكن يتوقعها ولم يتهيأ لها بعد أن تم التخفيف من تعقيدات إجراءات تراخيص الصحافة السمعية البصرية والمكتوبة.
ووفق دراسة حديثة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية نشرت في 9 يناير/كانون الثاني 2018 يضم المشهد الإعلامي 11 قناة تلفزيونية و16 إذاعة و40 صحيفة يومية وأسبوعية و8 دوريات شهرية مقابل 4 قنوات تلفزيونية و14 إذاعة و30 صحيفة قبل الانتفاضة.
وتظهر قراءات أن التعدد الهائل يستبطن تنوعا يعكس تعددية المشهد السياسي الفكرية والسياسية إذ تتوزع وسائل الإعلام بين وسائل عمومية وحزبية وخاصة على ملك رجال أعمال متنفذين ماليا وسياسيا.
غير أن هذا التنوع، كما يذهب إلى ذلك أكثرية الإعلاميين التونسيين، يستبطن حالة من الاختلال سواء لجهة الخط التحريري أو لجهة الارتباط بمراكز النفوذ المالي والسياسي.
ويشدد الإعلامي والمدون زياد الهاني على أنه "يخطئ من يتعامل مع الإعلام التونسي ككتلة واحدة، فالمشهد الإعلامي متنوع ومتداخل وأهداف مؤسساته وغاياتها متعددة بتعدد الفاعلين وأصحاب القرار الظاهر والمستتر وأساسا مراكز النفوذ المالي والسياسي التي توجه العملية الإعلامية".
وأضاف الهاني متحدثا لمراسل ميدل ايست أونلاين "هذا الوضع يعتبر طبيعيا في ظل سياق انتقالي مضطرب في توجهاته السياسية والفكرية المتعددة والمختلفة".
غير أن ذلك لا ينفي أن المشهد الإعلامي شهد تحولا نوعيا على هناته عكسته المحامل سواء منها النفاذ النسبي للمعلومة أو مقالات الرأي بالنسبة للصحافة المكتوبة أو البرامج الحوارية والتحقيقات بالنسبة للمؤسسات الإذاعية والتلفزيونية وهي محامل تحاول إبلاغ أصوات التونسيين والتفاعل مع مشاغلهم اليومية من خلال زوايا مختلفة.
وهو ما أكده خليل الرقيق قائلا"لا يمكن انكار أن المشهد الإعلامي عاش ويعيش الآن موجة حرية غير مسبوقة لأن الأمر يستوجب التفريق بين سياقات المراحل: مرحلة أولى في العام 2011 كانت فيها الحرية شبيهة بفوضى الحواس، الكل يتكلم دون ضوابط، ومرحلة ثانية تعتبر قمة نضج التجربة التونسية بدأت من أواخر 2012 لتمتد إلى الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي جرت في ربيع 2014 حيث صارت الحرية الإعلامية تعبر عن السقف الوطني المدني.
وأوضح أن المرحلة الثالثة بدأت منذ الانتخابات إلى العام 2018 ظل فيها فضاء الحرية مفتوحا لكن مع الوقت تبين أن هذه الحرية يتم توجيهها من خلال غرف تحكم طالت المضامين والمحتوى والخط التحريري لبعض القنوات التلفزيونية والإذاعية وهي أيضا بصدد مراودة الصحافة المكتوبة حتى أنه أصبح بالإمكان معرفة ان هذه القناة أو تلك مرتبطة بهذه الجهة الحزبية أو تلك مثل قناة "نسمة" الفضائية المحسوبة على نداء تونس.
الحرية مضمونة دستوريا
وينص الدستور التونسي في فصله 31 على أن "حرية الفكر والرأي والتعبير والإعلام والنشر مضمونة" و"لا يجوز رقابة مسبقة على هذه الحريات" كما ينص الفصل 32 على أن "الدولة تضمن الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة".
وينص المرسوم 115 الصادر في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 في فصله الأول على أن "الحق في حرية التعبير مضمون ويمارس وفقا بنود العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية" ويشمل هذا الحق "حرية تداول ونشر وتلقي الأخبار والآراء والأفكار مهما كان نوعها".
محركات المشهد
ويرى المتابعون للشأن التونسي أن المشهد الإعلامي ما قبل انتفاضة يناير/كانون الثاني 2011 كان يحركه محرك واحد ممثلا في الدولة التي تشرف عليه وتديره بشكل مباشر أو غير مباشر وتفرض عليه قيودا خاصة على المستوى السياسي بدرجة أولى وعلى المستوى الاجتماعي بدرجة ثانية دون أن ينفي ذلك وجود هامش من الحرية، أما اليوم فقد تعددت المحركات وتنوعت وفي مقدمتها مراكز النفوذ المالي والسياسي وأيضا محرك مهني يتمثل في تسلح الإعلاميين بالجرأة في محاولة لممارسة المهنة بكل حرية واستقلالية.
وبرأي زياد الهاني فإن "الإعلام في تونس قبل العام 2011 كان الطابع الغالب عليه هو الأحادية والتحكم فيه من قبل السلطة رغم التحرر النسبي في القانون المنظم أي قانون الصحافة لا سيما في مجال الحق في الإصدار والنشر".
وتابع "إن شروط المعادلة تغيرت بعد العام 2011 لتقوم على حرية تجاوزت في كثير من الأحيان حدها وتتحول إلى فوضى وإلى سلاح فتك ينهش الأعراض ويزدري الحقيقة بشكل أسوأ مما كان عليه بكثير قبل الانتفاضة".
وتبدو المحركات الأساسية للمشهد الإعلامي اليوم في تونس متعددة إذ هناك من ناحية دافع الحرية الذي يسعى إلى بناء منظومة إعلامية حرة لا تخضع لغير ضوابط المهنة وأخلاقياتها وخدمة الصالح العام غير أن هذا الدافع يبقى محل تجاذبات مرتبطة بمحركات أخرى مصدرها مصالح سياسية ومالية متعارضة ومتباينة.
وهناك الأطراف السياسية والاجتماعية ممثلة في النقابات التي تسعى إلى حيازة مواقع تأثير على القرار الإعلامي بما يمكنها من تمرير أجنداتها وتستعمل في ذلك إما الأطراف المالية المرتبطة بها إلى درجة أن بعض الجهات راهن على احتكار المؤسسة الإعلامية العمومية والهيمنة عليها تحت ضغط التهديد بالفصل من العمل فيها.
وهناك أطراف مالية قوية ترى أن من حقها أن تبعث مؤسسات إعلامية خاصة بها تكون كفيلة بالدفاع عن مصالحها وحمايتها.
ويضم المشهد الإعلامي التونسي بعضا من المؤسسات الإعلامية التي بلغت من قوة التأثير درجة أغرت مالكيها بلعب دور سياسي مباشر مثل قناة "نسمة" التي يملكها نبيل القروي القيادي في حزب نداء تونس.
على أن الأخطر من ذلك هو السطو على الإعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي الذي قاد إلى تركيز سوق جديدة للإعلام "الجماهيري" وهو اعلام لا تحكمه أي ضوابط مهنية أو أخلاقية باستثناء تلك التي يحددها المتدخلون أو الفاعلون الماليون والسياسيون.
ويبدو المشهد الإعلامي التونسي مغريا بالنسبة لمختلف المتنفذين السياسيين والماليين وحتى النقابيين الذين يسعون إلى ترويضه أو احتوائه أو على الأقل تحييده حتى لا يكون عنصر عرقلة لمخططاتهم المرتبطة بالوصول إلى الحكم أو التأثير فيه أو البقاء فيه.
ويرى المحلل مراد علالة أن "هناك ارتباط وثيق في المشهد الإعلامي وبين مراكز النفوذ المالي والسياسي حيث يحرص الجميع على الهيمنة عليه وتوظيفه".
وقال "في نفس الوقت هناك إرادة لدى الإعلاميين في الخروج نهائيا من بيت الطاعة لكن هذه الإرادة تصطدم بمواقف المتنفذين ماليا وسياسيا".
ومما قاد إلى غياب بوصلة المشهد الإعلامي وجود طبقة سياسية تروج في خطابها إلى الدفاع عن حرية التعبير والحريات العامة والحق في الاختلاف، غير أنه بمجرد نقدها من قبل وسائل الإعلام تسعى إلى شيطنة الإعلاميين وتصنيفهم ضمن خانة الأعداء.
ضغط وضغط مضاد
ويرى المراقبون أن علاقة الحكومات المتعاقبة طيلة السنوات السبع الماضية بالإعلام تميزت بالضغط والضغط المضاد إذ في الوقت الذي يسعى في الإعلاميون إلى ترويض تلك الحكومات لقبول النقد وحق النفاذ إلى المعلومة وفتح الملفات الحارقة والمزعجة تسعى الحكومات إلى الضغط على الإعلاميين باتجاه استقطابها إلى فضاءات سلطتها.
ويشدد زياد الهاني على أن الإعلام "مثل قوة ضغط على الحكومات المتعاقبة بما دفع بعضها أحيانا إلى التفويت في عدد من مؤسسات القطاع العام وفسح المجال إلى شيطنة الإعلام" غير أنه لاحظ بالمقابل أن هناك "حالة ترويض متبادل".
ويبدو أن الحكومات المتعاقبة لم تستوعب تحرر الإعلام لذلك ما انفكت تحاول ألا يتحول إلى قوة ضغط خاصة وأن البلاد في أزمة هيكلية وتشهد حالة احتقان تعد أرضا خصبة للإعلام وتأليب الراي العام على أصحاب النفوذ السياسي في الحكم.
واعتبر مراد علالة أن الإعلام "نجح إلى حد كبير في أن يتحول إلى نوع من قوة الضغط الإيجابية وخاصة في مجال الدفاع عن مدنية الدولة وقيم الحداثة السياسية والاجتماعية وهو الجهة الأولى التي رفعت شعار "لا حياد مع الإرهاب".
ويبدو أن المخاوف من أن يتحول الإعلام إلى قوة ضغط أقوى من قوة ضغط الحكومة هو ما دفع برئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى إصدار منشور في 16 يناير/كانون الثاني 2017 يحجر على أي مسؤول الإدلاء بتصريحات أو تقديم معطيات أو معلومات إلا بعد الحصول على إذن مسبق من سلطة الإشراف ما رأى فيه الإعلاميون تضييقا على النفاذ إلى المعلومة.
مفارقة
ويرى مراقبون أن المشهد الإعلامي التونسي يستبطن مفارقة عجيبة تتمثل في ارتفاع منسوب الثقة في الإعلام ونسب مشاهدة برامج الفضائيات وخاصة البرامج الحوارية المتنوعة المرتفعة نسبيا والتي تتراوح بين 37 و25 بالمئة وفق عمليات سبر الآراء من جهة ومجاهرة أكثرية التونسيين بالاستياء من أداء الإعلام من جهة أخرى.
ويقول وحيد الشابي وهو سائق سيارة أجرة إن "التونسي يلعن الإعلام باستمرار وكل الفضائيات ولا يرى في برامجها سوى نوعا من الفوضى أو التهريج لكنه رغم ذلك يشاهد البرامج الملعونة ويتابعها باستمرار للتعرف على مختلف الآراء".
واضاف لمراسل ميدل ايست أونلاين "رغم الفوضى الإعلامية لم يفقد التونسي الثقة في الإعلام وهو يتطلع إلى أن يرى صورته فيه ويتابع تغطية الأحداث سواء منها السياسية أو الاجتماعية وهي مفارقة، لكن هذا هو الواقع".
وينسجم هذا الراي مع تحليل الإعلامي زياد الهاني الذي يقول "إن مختلف استطلاعات الرأي العام بعد 2011 تشير إلى أن الإعلام يحتل المرتبة الثانية من حيث الثقة بعد المؤسسة العسكرية ومع ذلك عبرت نسبة 30 بالمئة عن عدم رضاها على أداء الإعلام في ظل حالة الفوضى التي يعيشها والتي تسمم الأوضاع العامة في البلاد بأسرها".
ويقول خليل الرقيق إن "مثل هذا الوضع لا يستقيم فكما أن التونسيين آراؤهم مختلفة فإن الإعلاميين أيضا آراؤهم مختلفة فالتعددية الإعلامية ما هي في نهاية الأمر سوى انعكاس للتعددية الفكرية والسياسية".
ويجمع كل من زياد الهاني ومراد علالة وخليل الرقيق على أن "المشهد الإعلامي الذي هو جزء من المشهد السياسي المتعدد فكريا وسياسيا وغير المتوازن مازال رغم مرور سبع سنوات من الحرية يبحث عن بوصلة وإن كان يمثل حاليا قوة ضغط إيجابية وهم يرون أن تركيز هيئة تعديلية ممثلة للقطاع من شأنها أن تقطع مع الفوضى".
واعتبروا ان تحديد بوصلة المشهد الاعلامي يجب أن يكون من قبل الفاعلين في القطاع بعيدا عن سطوة رجال السياسة والمال واجنداتهما.