إبراهيم يلدا بين الحرية والخلاص والموت والميلاد
لم تعد الحرية والخلاص مرتبطة بذات الشاعر أو خارجها فقط بل يعد الأمر أكثر شمولية في الفضاء الإنساني وكأنه غربة داخل الروح توازي غربة خارج الروح وبينهما عوالم الموت والميلاد، وان تغيرت لغة الشاعر وفقا لمتطلبات عصر ما ونكوى بمفردات الانكسار والانحطاط التي مثواها أعماق الشاعر ، وهي تناقضات لا تهمش الحرية والخلاص بل تعكس المستويين الأدبي والإنساني بحيث تتحول من لغة أدبية تعبيرية إلى أداة تأثيرية تعمل بتفاعل الإحساس مع الواقع.
في استهلال قصيدة الشاعر الكبير إبراهيم يلدا " الموت والميلاد " يحاول أن يكون صورة متداخلة من الماضي والحاضر والمستقبل حيث ينتقي عمق التاريخ بصور شعرية " البحر – المركب – الحبيبة والشاب " التي تحاول أن تعاصرها مع "الطوفان – سفينة – نوح وزوجه " وبفكر واع وربط راق يستهل بنص هادئ.
وفي هذا الهدوء تمرد خفي " حبيبان – كلاهما – يتأملان – يقبلان " ومن خلال هذا الجو الرومانسي الذي وضعه القدر فيه يعلن بمعان ضمنية تمرده على الواقع وبصورة إنسانية يبحث عن الحرية والخلاص .
" ظلام دامس يلف المعمورة
حبيبان متشحان بالرعب
في وسط البحر الشاب وحبيبته
جالسان على تخت لقارب الموت
أحدهما يتكئ على الآخر
كلاهما يترنمان معا
مرثية الحزن
بأمل صغير معلق بشجرة
يتأملان اليابسة".
حيث يبدأ هذا الاستهلال النصي بالحلم والرؤيا الحاضرة والمستقبلية " اليابسة " وان كانت الرؤيا مختصة بالأنبياء والأولياء والقديسين ، لكن يمكن أن نضيف الأدباء والمفكرين والعلماء كرؤية تختمر في تجارب عديدة وعمق ماض له أثر على الآخرين لتتجلى رؤيا مستقبلية بإحساس سام ولاشك عوالم الحلم يتعاطاها كل البشر.
الشاعر إبراهيم يلدا يختصر آلامه ووجعه العميق وعذاباته ورؤاه على مركب مع حبيبته ويقتنص اللحظات ليتوغل فيها برؤيا منعشة للحياة على الرغم من حضور الموت ، وهو تركيز عال في جمع التوجهات الفكرية الحسية الروحية ليبث من خلالها تراتيل لزمن آت وتوافق مغاير أساسه الحرية والأمان والخلاص وبرفدها بالحب والأشواق ليدق نواقيس نافذة الروح والإلهام والإبداع .
"اسمعيني أيتها الحبيبة
في قلبي المحروق
مكان يستوعب
شمعة صغيرة دائمة الاشتعال
سترشدنا إلى الطريق
وتدفئ جسدينا"
يا ترى هل الموت هو الحرية والخلاص من متناقضات وجراحات الميلاد، أم الميلاد يلمح الاكتشاف الحقيقي الروحي والفكري للحرية والخلاص، أم كلاهما معين لاكتشاف كل شيء ، لاكتشاف الحقيقة أو جزء منها؟
تتخلل هذه التساؤلات ثنائية الوجود " المرأة والرجل – آدم وحواء – نوح وزوجه " الجميع ينتظر خبر الخلاص ، الحيوانات والنباتات والزواحف " جميعهم نادوا وغنوا – أغنية الميلاد – لنا الحرية ولنا الخلاص " .
هذه الذاكرة الشعرية العميقة توحي برؤيا تاريخية الأثر عميقة الصلة بالإنسان والأرض ، وان تأزم هذا الإرث التاريخي بخطوبه ونكباته ودماره وخرابه وتشتت الإنسان بين الوجود واللا وجود بين الواقع والخيال، بين اللقاء والفراق بين الشمل والتشتت، وهو يعكس الموت والميلاد.
كل ذلك يأتي من تعريفه للخلاص وتحمل الأزمات والمعاناة والصبر على الآهات وتغلبه على كل العذابات .بوجود " الحمامة " الطائر الذي يحمل البشرى عن بيان وظهور اليابسة ، التي تعني الحرية، الخلاص .
" نعم كانت هناك حمامة
تلك التي طارت لتأتي بالبشرى
أضحت صادقة ورحيمة
وعادت إلى عشها
كل ينتظر منها خبرا
وحيث الجميع ينتظرون خبر الخلاص
السيد نوح وزوجته
وكل الحيوانات والنباتات
وكل زاحف جائع
أن كان أليفا أو من طيور البراري
جميعهم نادوا وغنوا أغنية الميلاد
لنا الحرية ولنا الخلاص".
إن توظيف قصة نوح عليه السلام مع مفردات العصر البحر، المركب، الشاب والحبيبة تأتي بعد قدسية الإنسان المغتصبة والمنتهكة حيث لا عدل ولا حقوق حيث الغربة الروحية والوحدة والإحساس بالظلم والألم الذاتي وهي أشكال ومعان مكنونة تعكس الصراع الإنساني الخفي، تبوح ظاهر المفردات بين البحر واليابسة ، الحرب والسلام ، اللقاء والفراق ، البداية والنهاية حيث يعطي الشاعر إبراهيم يلدا مقدمة بيانية قصيرة لقصيدته يقول فيها:
" يقول الشاعر الانكليزي ت .اس. اليوت في مطلع إحدى قصائده – في بدايتي تكمن نهايتي – أما أنا فأقول – في نهايتي تكمن بدايتي – لأنني ما لم انته لن ابدأ فكل نهاية تحمل بين طياتها بذرة البداية ومن القديم تنبعث الحداثة وكل موت يعطي مكانا للميلاد ، ميلاد روح جديدة والحياة هي موت وميلاد " .
يوحى لي بأن الشاعر كان مخنوقا لسنوات ثم وجد نفسه في فضاء واسع فأطلق العنان لرغبته وإحساسه وأفكاره لتتنفس الحرية والخلاص بين الموت والميلاد بأسلوب شعري راق ممزوج بالرومانسية التي تأخذ مداها الجميل لغد أفضل.
"سنصل اليابسة
ونحيى لوحدنا
إلى أن تشرق الشمس
إلى أن تنبع الروح
في الأرض التي نزرعها
إلى أن نرفع الحائط ونبني البيت
إلى أن نبدأ من جديد
ونتأمل في الغد الآتي".
لزم الشاعر إبراهيم يلدا أسلوبا خاصا في التعامل بين توظيف الماضي والحاضر ورؤية المستقبل الآتي وبلغة جميلة نقية حالمة هادئة كأنها أنشودة الخلاص وفي نفس الوقت متمردة في ترتيل عميق الأثر بصياغة العالم الشعري الروحي الخاص بين رؤيا الموت والميلاد، وبين البحث عن الحرية والخلاص برؤيته الخاصة التي مكنته من الإبحار بصورة شعرية سليمة رغم كل التناقضات وعواصف الأمواج الواقعية في محاولة للوصول إلى بر الأمان إلى اليابسة ليبدأ من جديد بغد التوغل وسبر أغوار الذات الجريحة التي تتأجج فيها تفاعلات صراع فكرية مكنته من جمع التمزق والانشطار والشروح الواقعية بتوظيف تاريخي رمزي روحي هذا التوظيف الجميل والربط الخفي أعطى طاقة تعبيرية راقية فسحت له المجال ليعبر بتأن كما يشاء مع ملاحظة القلق والاضطراب والتيه والضياع والرحيل لكن يبقى الصراع الداخلي والخارجي كتوأم يثير سبل البحث عن الحرية والخلاص في الموت والميلاد.