اخبار العراق الان

حديث الخميس: بُـرْدَةُ الـبَـرْغُـوثـي

حديث الخميس: بُـرْدَةُ الـبَـرْغُـوثـي
حديث الخميس: بُـرْدَةُ الـبَـرْغُـوثـي

2018-05-24 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية


  المقدمة: تغيرت النظرة العامة في تقييم الشعراء واصبح تقييم الشاعر على عموم ما يكتب، ولم يكن قياس الشاعرية هكذا في العصور الادبية الأولى بل كان حين يقول احدهم: فلان اشعر من فلان يُسأل على الفور حيث يقول ماذا؟ فيكون فلان اشعر من فلان بمعنى وقصيدة بعينها، وعلى هذا الاساس يكون ابداع الشاعر على النص وليس في عموم ما يكتب اما الان فالنظرة الى الشاعر اصبحت نظرة عامة بل واصبحت نصوصه نصوصاً مقدسة او شبه مقدسة وما ان تشرع في الاعتراض على معنى او قول لشاعر كبير حتى تصطدم بافواج من المعترضين عليك وكأنك اخترقت حدود المعقول.   وقفت اسائل نفسي، هل بقي احد من الشعراء يطيق مدح النبي فيأتي بجديد؟ وحين اقول مدح النبي اعني ان يأتي بمعاني لم يسبقه اليها احد من الشعراء فقد تكررت المعاني في مدحه كثيرا حتى اننا لا نكاد نشرع بقراءة قصيدة في مدحه صلى الله عليه وسلم حتى يشخص امامنا انطفاء نار المجوس وتصدع إيوان كسرى وأنين الجذع والاسراء والمعراج وغيرها من علاماته وايات وما اخذه الشعراء من كتب السيرة حتى وان كان هناك ضعف في بعض رواياتها وسندها.   واذا ما افترضنا ان اللغة فضاء بلا نهايات وان الشعر عالمٌ من المعاني والدالات، وكونٌ عظيم من الاشارات والكنايات لم يُحِطْ ببحورها ذاهب ولن يحيط بها آت، سنعلم عندها ان القوافي خيل وان الشعر حلبة رهان مشرعة في كل حين وأوان، يمتطي فيها الشعراء صهوة معانيهم ويطلق فيها فرسانها خيل اشعارهم والسبق فيها ليس للزمان ولا للمكان بل السبق فقط لصاحب السبق ممن يأتي بجديد ابتكار في مضمار تقطعت فيه ظهور خيل الشعر فمنهم من وصل ومنهم من قصّر ومنهم من تاه ومنهم اعجزة السبق فذهب ادرج غبارهم .... ومنهم من هاله الممدوح فاقعده عن المنافسة.   المتن: ومن المتأخرين الذين دخلوا حلبة المنافسة هو الشاعر تميم البرغوثي والذي عارض البردة و"نهجها" في قصيدة بلغت المئتي بيتاً، وقد كان ذكيا في بناء قصيدته بأمرين: الأول: حين ابقى على بحر البسيط وغيّر الروي في معارضته من قافية الميم الى الدال لينأى بنفسه عن تكرار المعاني، المعاني التي تنطوي عليها كلمات القوافي ، المعاني التي شرب صِرفها الامام البوصيري في بردته ثم اتى على ثمالتها احمد شوقي في قصيدته نهج البردة، وقد اشار البرغوثي الى الشاعرين في القصيدة وسبْقِهِما له في المدح النبوي بقوله: مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ حَاكَ بُرْدَتَهُ ... بِخَيْرِ مَا أَنْشَدَ المَوْلَى وَمَا نَشَدَا وَأَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ جَاءَ مُتَّبِعَاً ... حَتَّى شَفَى غُلَّةً مِنْهَا وَبَلَّ صَدَى   ومحمد ابن سعيد هو اسم الامام البوصيري كما هو معلوم، واحمد ابن علي هو اسم احمد شوقي والثاني: انه لم يذهب بعيدا عن القصيدة الاصل في اختياره للروي في قافية الدال حين استله من صدر بيت منسوب للبردة والذي يقول:  مولاي صلِّ وسلم دائما ابدا ... على حبيبك خير الخلق كلهمِ   فاستهل مديحه بقوله الجميل  ما ليْ أَحِنُّ لِمَنْ لَمْ أَلْقَهُمْ أَبَدَا ... وَيَمْلِكُونَ عَلَيَّ الرُّوحَ والجَسَدَا إني لأعرِفُهُم مِنْ قَبْلِ رؤيتهم ... والماءُ يَعرِفُهُ الظَامِي وَمَا وَرَدَا   وهذا من اجمل القول، والتشبيه فيه رائع ذلك لسببين: الاول لاننا نَعْرِف النبيَ كمعرفتنا للماء ولا يحتاج الماء تعريفا ولا دلالة ولا وصفاً، والثاني اننا نُعَرِّفُه -اي النبي- بأنه كالماء أيضاً لان الماء حياة ولا حياة بدون الماء والنبي في نبوته ورسالته حياة للناس ، ولا ادري هل قرأ البرغوثي قول الامام ابي عبدالله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام حين سُئل عن طعم الماء فقال: هو طعم الحياة وهل لمعت له الفكرة من هذا القول، حيث ان النبي صلى الله عليه وسلم طعم الحياة في الحياة وطعمها بعد الممات ، ومن ابلغ ما قيل في هذا المعنى انه قيل لأحد الصالحين : صف لي نعيم الجنه، فأجاب باقتضاب: فيها رسول الله.   واني لاجد البرغوثي قد احسن في مستهل قصيدته بهذين البيتين ايما احسان وأجاد أيما اجادة، وقد تنقل البرغوثي في الجزء الاول من القصيدة المتكون من سبعة وعشرين بيتاً -كشأن سالفَيه البوصيري وشوقي- تنقل بين الغزل والحكمة والحنين واللوعة، بين النظم تارة والابداع تارة اخرى بأبيات عالية البناء قوية السبك حتى ختم جزءها الاول بقوله مضمنا صدر البيت الانف الذكر بقوله: عَلَى النَّبِيِّ وَآلِ البَيْتِ والشُّهَدَا ... مَوْلايَ صَلِّ وَسَلِّمْ دَائِمَاً أَبَدَا.   ولكنه عاد بقوة وثبات شعري ملفت للنظر ومستحق للاعجاب ليخبر بكل روعة ان مدح النبي ليس كمدح الاخرين ممن علا شانهم وسار ذكرهم من العظماء والامراء والملوك وهذه تحسب له وتشير الى انه ذَكِيُ الفَهْمِ مُتَوَقِّدُ البَصيرَةِ، وقد يجنح ويزل الشاعر -غير الفطن- الى مدح النبي كمدح الملوك ويُعد ذلك مثلبة على الشاعر ومنقصة في فطنته ونباهته ولله در الأعشى حين فطن الى ذلك بقوله: نبي يرى ما لا ترون وذكرُه ... أغار لعمري في البلادِ وأنجدا   فنزّه النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤية البشرِ كلِ البشرِ ملوكِها وعظمائِها وعباقرتِها بقوله "يرى ما لا ترون" فجعله في مرتبة لا تدانيها مراتبُهم ولعله اشار الى ان النبي مؤيد من الله من حيث انه "لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى" وكذلك فعل البرغوثي حين قال: إِنِّي لأَرْجُو بِمَدْحِي أَنْ أَنَالَ غَدَاً ... مِنْهُ الشَّجَاعَةَ يَوْمَ الخَوْفِ وَالمَدَدَا أَرْجُو الشَّجَاعَةَ مِنْ قَبْلِ الشَّفَاعَةِ إِذْ ... بِهَذِهِ اليَوْمَ أَرْجُو نَيْلَ تِلْكَ غَدَا وَلَسْتُ أَمْـدَحُهُ مَـدْحَ المُلُـوكِ فَقَدْ ... رَاحَ المُلُـوكُ إِذَا قِـيـسُـوا بِـهِ بَـدَدَا   ولكننا يجب ان نعلم بأن الاولين وضعوا قاعدة للكلام للقول وهي قولهم: من كثر كلامه كثر خطؤه، كذلك في القصائد الطويلة فمن العسير والمتعذر جدا ان يبقى الشاعر محافظاً على ابداعه، ولم ينج من هذا الامر حتى كبار الشعراء من الذين عرفوا بالمحافظة على استمرار الادهاش في القصيدة كالمتنبي وابي تمام والبحتري وغيرهم فكان للبرغوثي نصيب من ذلك ، كما كان له نصيب في التحليق ونصيب في الجودة ولكنه -والحق يقال- ناء بنفسه عن مستوى الرداءة في عموم القصيدة وبقي محافظا بين الرائع والجيد دون الرديء ومن الابيات التي لعله لم يوفق فيها قوله: وَلْتَحْمِلِي قُمْقُمَاً في كُلِّ مَمْلَكَةٍ ... تُبَشِّرِينَ بِهِ إِنْ مَارِدٌ مَرَدَا   ولا ادري ما الجأه الى مفردة قمقم وهي مفردة جارحة للاذن صلفة اللفظ سليطة الجرس واني اراها ابعد ما تكون عن رهافة الشعر وموسيقاه وانسيابه.   ثم في وصفه للنبي على اساس المبالغة بقوله: لَمْ يُبْقِ فِي قَلْبِهِ صَبْرَاً وَلا جَلَدَاً *** تَلْقِينُهُ المُؤْمِنِينَ الصَّبْرَ وَالجَلَدَا   وهذا القول لا يصح في صبر النبي وجلده فالنبي في صبره وجلده باق وباقيان، ولعل غاية المبالغة انسته حسن التعبير والوصول اليها ، كذلك قوله: بِمَا اْنْتَحَى لأبي بَكْرٍ يُطَمْئِنُهُ *** وَحَوْلَ غَارِهِمَا حَتَّى الرِّمَالُ عِدَى   وهذا ينافي قول الله تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا   وهذه الابيات كل ما وجدته للبرغوثي مما يؤخذ عليه في القصيدة معنى ومبنى، غير انه احسن في الاكثر والاغلب في ما قال وقد اخترت جملة من الابيات التي أجاد فيها وابدع ابدؤها بقوله: تعلق المَرْءِ بالآمَالِ تَكْذِبُهُ ... بَيْعٌ يَزِيدُ رَوَاجَاً كُلَّمَا كَسَدَا   وفوله: قُلْ للقُدَامَى عُيُونُ الظَّبْيِ تَأْسِرُهُمْ ... مَا زالَ يَفْعَلُ فِينا الظَّبْيُ ما عَهِدَا لَمْ يَصْرَعِ الظَّبْيُ مِنْ حُسْنٍ بِهِ أَسَدَاً ... بَلْ جَاءَهُ حُسْنُهُ مِنْ صَرْعِهِ الأَسَدَا وَرُبَّمَا أَسَدٍ تَبْدُو وَدَاعَتُهُ ... إذا رَأَى في الغَزَالِ العِزَّ والصَّيَدَا لَولا الهَوَى لَمْ نَكُنْ نُهدِي ابْتِسَامَتَنَا ... لِكُلِّ من أَوْرَثُونا الهَمَّ والكَمَدَا   وقوله: بِمَا تَفَرَّسَ مُخْتَارَاً صَحَابَتَهُ ... وَهْوَ الوَكِيلُ عَلَى مَا اْخْتَارَ وَاْنْتَقَدَا يَدْرِي بَأَنْ قُرَيْشَاً لَنْ تُسَامِحَهُ ... وَأَنْ سَتَطْلُبُ مِنْ أَحْفَادِهِ القَوَدَا   والقَوَد هو الثأر وهذه اشارة جميلة عن علم النبي بما سيصير اليه اهله وآله والذي جملها صياغتها وحسن هيأتها واخراجها، ومن جميل معانيه واشاراته ان البرغوثي جعل تكذيب قريش للنبي اكبر عنده واوقع في نفسه من مقاتلتهم له في ثلاثة ابيات جميلة يقول فيها: بِمَا تَحَمَّلَ مِنْهُمْ يَوْمَ قَالَ لَهُمْ ... بِأَنَّهُ للسَّمَاواتِ العُلَى صَعَدَا لَوْ كَانَ يَكْذِبُهُمْ مَا كَانَ أَخْبَرَهُمْ ... أَفْضَى بِمَا كَانَ وَلْيَجْحَدْهُ مَنْ جَحَدَا ظُلْمُ العَشِيرَةِ أَضْنَاهُ وَغَرَّبَهُ ... عِشْرِينَ عَامَاً فَلَمَّا عَادَ مَا حَقَدَا   وقد ترجم البرغوثي فهمه لقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ، ترجمةً تعكس الفهم الجميل لهذا الشاعر بان جعل خوف النبي على امته خوف الام على الولد وزاد على ذلك ان جعله صلى الله عليه وسلم حافظا لاسمائنا واشكالنا لو بعث فينا اليوم: بِمَا خَشِيتَ عَلَيْنَا يَاْ بْنَ آمِنَةٍ ... والأُمُّ تَخْشَى وَإِنْ لَمْ تَتْرُكِ الوَلَدَا وَلَو بُعِثْتَ غَدَاً أَصْبَحْتَ تَحْفَظُنَا ... بِالاسْمِ وَالوَجْهِ أَوْ أَحْصَيْتَنَا عَدَدَا لنا نَبِيٌّ بَنَى بَيْتَاً لِكُلِّ فَتَى ... مِنَّا وَكُلَّ رَضِيعٍ لَفَّهُ بِرِدَا وَكُلَّ عُرْسٍ أَتَاهُ للعَرُوسِ أَبَاً ... يُلْقِي التَّحِيَّةَ للأَضْيافِ وَالوُسُدَا وَكُلَّ حَرْبٍ أَتَاها للوَرَى أَنَسَاً ... وَاْسْتَعْرَضَ الجُنْدَ قَبْلَ الصَّفِّ وَالعُدَدَا   ولقد استوقفني كثيرا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة "شيخ" وقد كررها مرتين في القصيدة ولم اقرأ لشاعر ولا واصف ولا متحدث عن النبي في السير أو الروايات او المدائح بأن احدا وصفه بالـ "شيخ" كما لم اقرأ عن احد من الصحابة او المقربين من آل بيته ممن رآه وممن لم يره مَنْ وصفه بهذا الوصف وبقيت أُقلب فيها النظر كثيرا حتى ايقنت ان البرغوثي هو أول من اطلق هذه التسمية وقد استحسنتها من جانب وكرهتها من جانب اخر فقد استحسنتها لحسن دلالتها عموماً وفي البيت خصوصا وكرهتها لان مَن وُصِف بها كثير، فهو يقول: شَيْخٌ بِيَثْرِبَ يَهْوَانَا وَلَمْ يَرَنَا ... هَذِي هَدَايَاهُ فِينَا لَمْ تَزَلْ جُدُدَا يُحِبُّنَا وَيُحَابِينَا وَيَرْحَمُـنَا ... وَيَمْنَحُ الأَضْعَفِينَ المَنْصِبَ الحَتِدَا   والحتدا اي المنصب الشريف العالي ولكنه قد احسن كل الاحسان في تعريف هذا "الشيخ" في البيت الذي يلي البيتين المذكورين بأنه "النبي" ثم اجاد وحلق تحليقاً عالياً -فكراً وشعراً- حين صور ان النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك في كل فتى من امته "نبياً" ولم يكتف بذلك بل زاد الحسن حسناً والجمال جمالاَ حين جعل الامر محدداً ومشروطاً بالاجتهاد فقال: هُوَ النَّبِيُّ الذي أَفْضَى لِكُلِّ فَتَىً *** بِأَنَّ فِيهِ نَبِيَّاً إِنْ هُوَ اْجْتَهَدَا   ثم عرّج البرغوثي الى معاني جديدة وهي شقاء الملوك به وسعادة العبد برؤيته حلماً ثم وصف حال الناس واتخاذها الملوك اربابا وشبه هؤلاء الارباب بالاصنام التي كانوا يصنعونها ويعبدونها في اشارة ان هولاء الجبابرة والمتسلطين نحن من نصنعهم ونعبدهم كاصنام الامم الأولى: يا دَاعِياً لم تَزَلْ تَشْقَى المُلُوكُ بِهِ ... والعَبْدُ لَوْ زُرْتَهُ فِي حُلْمِهِ سَعِدَا أَنْكَرْتَ أَرْبَابَ قَوْمٍ مِنْ صِنَاعَتِهِمْ ... وَرُبَّمَا صَنَعَ الإنْسَانُ مَا عَبَدَا   لينهي المعنى بقول رائع: مِنَ المُطِيعِينَ حُكَّامَاً لَهُمْ ظَلَمُوا ... وَالطَّالِبِينَ مِنَ القَوْمِ اللئامِ جَدَا   والجدا هو العطاء، ومن صوره الجميلة التي تدل على سعة خيال البرغوثي وخصوبتِه وبعدِه انه رسم صورة لحشد الانبياء واصفاً عمائمهم بانها بيضاء كاللؤلؤ بقوله: والرُّسْلُ فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى عَمَائِمُهُمْ ... بِيضٌ كَأَنَّ المَدَى مِنْ لُؤْلُؤٍ مُهِدَا   وقد حاول البرغوثي ان يصل الى روعة شوقي في نهج البردة حين وصف النبي بأنه مفتاح باب الله بقوله: يَا مَنْ وَصَلْتَ إلى بَابِ الإلهِ لِكَي *** تَقُولَ للخَلْقِ هَذَا البَابُ مَا وُصِدَا   ولكنه قصّر عن شوقي كثيراً وبان تقصيره في وصفه، كما بان سبق شوقي وعظمته في وصفه حيث ان الوصول الى باب الله ليس كمن جعله هو -اي النبي- باب الله حيث يقول شوقي: لزمتُ بابَ أميرِ الأنبياءِ ومن ... يمسكْ بمفتاحِ بابِ اللِه يغتنمِ   والبرغوثي شاعر مثقف وقاريء جيد للتاريخ العربي عموما وللتاريخ الاسلامي خصوصا وهو في شعره يحاول ان يفصح عن ميوله وهواه وحبه لآل بيت النبي وحنقه على بني أمية في اكثر من موضع فهو يذكر ذلك في بيتين منفصلين اولهما في وصفه للامام علي رضي الله عنه وأرضاه بقوله: بِخَوْفِهِ عن قَليلٍ حِينَ أَبْصَرَهُ ... فَتَىً يَذُوقُ الرَّدَى مِنْ رَاحَتَيْهِ رَدَى يُدِيرُ فِي بَدْرٍ الكُبْرَى الحُسَامَ عَلَى ... بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى مُزِّقُوا قِدَدَا   ثم بوصفه الجميل لكساء النبي الذي حوى نفرا من آل بيته وتشبيهه الطيب بقميص يوسف بقوله: أَفْدِي كِسَاءَكَ لَفَّ الأَرْضَ قَاطِبَةً *** قَمِيصَ يُوسُفَ دَاوَى جَفْنَها الرَّمِدَا   وقوله "لف الارض" فيه جمال ينطوي على كثير من الاحسان بان هولاء النفر من ال البيت الشريف هم خير اسوة وقدوة لمن في الارض كذلك تشبيه الكساء بقميص يوسف فيه روعة وجمال وان حبهم نور للعيون وبصيرة للقلوب وهذا التعبير الرائع والوصف السامي انفرد فيه البرغوثي عمن جاء قبله من المادحين واحسب انه بقوله هذا نال منزلة طيبة في التصوير الشعري لم يسبقه اليه احد. اما في وصفه للصحابة الكرام فقد والله ابدع وبلغ فيه الغاية التي ترتجى والهدف النبيل الذي يرام فقد بدأ بوصفهم رضوان الله عليهم بأنهم اقماراً للهدياة جلدين يوم الزحف بقوله: أَكْرِمْ بِأَقْمَارِ تِمٍّ فِي الحَدِيدِ عَلَى *** خَيْلٍ حَوَتْ فِي الأَدِيمِ البَرْقَ وَالرَّعَدَا   ولعله استقى معناه هذا من "حديث ضعيف" يروى عن النبي يقول فيه : اصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم، ثم لينطلق لسانه باربعة ابيات طيبات رائقات بلغة شاعرة وصناعة عالية ومعاني لائقة في وصف اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قوةً وجلادةً من جانب ورقةً وعذوبةً من جانب اخر فهو ما ان شرع بوصف شدتهم حتى مال الى عفوهم وسماحتهم ونور هديهم بين الناس وكانهم اطباء قلوب الناس بعد النبي ولله دره في روعة محسناته البديعية حين جعلهم خالدين في خَلَدِ الشاعر وجِنانه ثم في خُلْدِ وجنان الله : لو أَمْسَكُوا بِقَمِيصِ الرِّيحِ ما بَرِحَتْ ... أو أَظْهَرُوا بَرَمَاً بالتَّل ما وَطَدَا وَهُمْ أَرَقُّ مِنَ الأَنْسَامِ لَوْ عَبَرُوا ... مَشْيَاً عَلَى المَاءِ لَمْ تُبْصِر بِهِ جَعَدَا وَلَو يَمَسُّونَ مَحْمُومَاً أَبَلَّ بِهِمْ ... والحُزْنُ جَمْرٌ إذا مَرُّوا بِهِ بَرَدَا قَدْ خُلِّدُوا في جِنَانِي والجِنَانِ مَعَاً ... أَكْرِمْ بِهِمْ يَعْمُرُونَ الخُلْدَ والخَلَدَا   ثم بعد ذلك ياتي الى وصف عجيب للنبي متخذا من اسمه الشريف مبتَدأً للاستفتاح به ثم من ياء النداء مركباً لغوياً للتحليق بالدلالة عليه ثم منطَلَقاً سامياً للوصول اليه ثم تشريفا بجعله منادى لكل من نادى بـ "يا محمد" بوصفه نبياً وسندا فجمع الجمال من جوانبه وامسك به من عراه ونال به ما ارادوهذه ابيات تزداد جمالا في عين قارئها كلما زاد التأمل والتبصر فيها:   قَالُوا مُحَمَّدُ قُلْنَا الاسْمُ مُشْتَهِرٌ ... فَرُبَّما كانَ غَيْرُ المُصْطَفَى قُصِدَا فَحِينَ نَادَى المُنادِي يا "مُحَمَّدُ" لم ... يَزِدْ عَلَيْهَا تَجَلَّى الاسمُ وَاتَّقَدَا حَرْفُ النِّدَاءِ اْسْمُكَ الأَصْلِيُّ يَا سَنَدَاً ... للمُسْتَغِيثِينَ لَمْ يَخْذِلْهُمُو أَبَدَا وَالظَّنُّ أَنَّا لِتَكْرَارِ اْسْتِغَاثَتِنَا ... بِهِ تَكَرَّرَ فِينَا الاسْمُ وَاْطَّرَدَا أَنْتَ المُنَادَى عَلَى الإطْلاقِ والسَّنَدُ الـ...مَقْصُودُ مَهْمَا دَعَوْنَا غَيْرَهُ سَنَدَا   ثم ينادي فينا صوت العاطفة الكامنة في حبنا للنبي وافتتاننا به ولهفتنا عليه واشتياقنا اليه، ينادي فينا ارواحاً تهفو لذكره وتهفو لمنزله ومدينته فيجعل من الارواح طيوراً محلقة في حبه وهواه تجوب اودية الارض قاصدة مكانا واحدا ودارا واحدا ومنزلا واحدا اختزل كل امكنة وديار ومنازل الارض حين ضم قبر النبي الاشرف وجسده الاطهر واسمه الأحب: يَا سَيِّدِي يَا رَسُولَ اللهِ يَا سَنَدِي ... أَقَمْتُ بِاسْمِكَ ليْ فيْ غُرْبَتِي بَلَدَا رُوحِي إذا أَرِّجَتْ رِيحُ الحِجَازِ رَجَتْ ... لَو أَنَّها دَرَجَتْ فِي الرِّيحِ طَيْرَ صَدَى يَجُوبُ أَوْدِيَةً بِالطَّيْرِ مُودِيَةً ... وَلا يَرَى دِيَةً مِمَّنْ عَدَا فَوَدَى لا يَلْقُطُ الحَبَّ إلا فِي مَنَازِلِكُمْ ... ولا يُقِيمُ سِوَى مِنْ شَوْقِهِ الأَوَدَا   والصدى هو طير يعيش في الاودية والبطاح والأوَد اي الاعوجاج، ويعرج على حال الامة الان في عدة ابيات بالأخص ما اصاب العراق والشام من مصائب قد اوهنت العظم وأضعفت الكاهل واتت على الخير فيهما فيقول فيهما: يا سَيِّدِي يَا رَسُولَ الله يَا سَنَدِي ... هذا العِرَاقُ وهذا الشَّامُ قَدْ فُقِدَا لَوْ كانَ ليْ كَتَدٌ حَمَّلْتُهُ ثِقَلِي ... لكن بِذَيْنِ فَقَدْتُ الظَّهْرَ والكَتَدَا   والكتد هو مجتَمَعُ الكتفين في الرجل أو ما يسمى بالكاهل، ومن جميل بكائياته لحال الامة اليوم وهم كثير في العدد لكنهم خاملون مستضغفون يروا بام اعينهم ما يصير وما يدور في حال الامة ولا فعل يستطيعون القيام به سوى النظر والسكوت وانه تمنى احدهم لو يُوأد ويُدس في التراب لفرط ما به من هم وغم وسوء حال:  وإنَّ مَوْؤُدَةً أَنْقَذْتَهَا وَلَدَتْ ... وُلْدَانَ يَعْيَى بَها المُحْصِي وَإِنْ جَهِدَا صارُوا كَثِيرَاً كَمَا تَهْوَى فَبَاهِ بِهِمْ ... وَاْسْتَصْلِحِ الجَمْعَ وَاْطْرَحْ مِنْهُ مَا فَسَدَا أَقُولُ بَاهِ لأَنَّ الدَّهْرَ عَذَّبَهُمْ ... حَتَّى تَمَنَّى الفَتَى لَوْ أَنَّهُ وُئِدَا   حتى يصل الى نهاية القصيدة ليتمها المئتين بالتمام والكمال ثم ليختمها بخير ما يختم مادح قصيدة مدح نبوية ليضمنها دعاءً شريفاً وآية شريفة  وَصَلِّ يَا رَبِّ مَا غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ ... تُعَلِّمُ الغُصْنَ مِنْ إِطْرَابِهَا المَيَدَا عَلَى مُحَمَّدٍ الهَادِي مُحَمَّدِنَا ... نَبِيِّنَا شَيْخِنَا مَهْمَا الزَّمَانُ عَدَا وَهَذِهِ بُرْدَةٌ أُخْرَى قَدِ اْخْتُتِمَتْ ... أَبْيَاتُها مِائتَانِ اْسْتُكْمِلَتْ عَدَدَا يَارَبِّ وَاْجْعَلْ مِنَ الخَتْمِ البِدَايَةَ وَاْنْـ ..صُرْنَا وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا   الخاتمة: وقد كتب الشاعر البرغوثي في مفتتح قصيدته التي نحن بصددها، كتب نثرا جميلا اتخذت منه خاتمة لحديثي حيث يقول: هذا وبقى أن يعتذر المرء من الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه. إن مادحك يا أبا القاسم لا يمدحك وحده: فإن كتب يقول: رِيمٌ عَلَى القَاعِ بَيْنَ البَانِ وَالعَلَمِ ... أَحَلَّ سَفْكَ دَمِى فِى الأَشْهُرِ الحُرُمِ أو قال : أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِى سَلَمِ ... مَزَجْتَ دَمْعَاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ أو قال: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِى اليَوْمَ مَتْبُولُ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ   فإنما كتب المطلع، ولو بلغ عدد أبياته المِئِين، فإن الشعر يكمن أيضاً فيما أضافه الناس لكلامنا، هم قالوا إن البردة لو وضعت على عينى كفيف أبصر، وعلى عينى أرمد شفى، وعلى رأس محموم أبل، وعلى بطن حبلى وضعت ولداً صحيحاً يعيش، وهم جعلوا هذه القصائد أحجبة وأحرازاً، ونقشوها على أسبلة المساجد وأسيجة البيوت، وهذا شعر كتبوه هم لا نحن. إن سامِعَكَ يشارك فى مدحك، ويكمل القصيدة. إنك يا أبا القاسم حين تُمدح فإن الشعر لا ينتهى بانتهاء الإنشاد. وذلك لأنك "من أنفسنا" ولأنه كان "عزيزاً عليك ما عَنِتْنَا" ولأنك كنت "حَرِيصَاً علينا" ولأنك كنت فَأْلَ هذه الأمة الحَسَن، فكنت متعباً مثلنا، ومظلوماً مثلنا، ومنفياً مثلناً، ومُكَذَّباً ومكذوباً عليك مثلنا، ثم انتصرت.   فلله در البرغوثي شاعراً ولله در البرغوثي ناثراً....والسلام