اخبار العراق الان

رائحة اللحظات المنسية

رائحة اللحظات المنسية
رائحة اللحظات المنسية

2018-07-16 00:00:00 - المصدر: الصباح


ابتهال بليبل 

من تغطية إلى تعرية، أو العكس، المناديل رائحة باتجاه الآخر،المخفي، البعيد في نفس الوقت، فبدون رائحتك لن نتبه لظهورك.

فالكتابة بشأن الاختفاء مقترنة غالباً بالروائح، التي لا تلبث، أحيانا، أنّ تأخذنا عبر زمن لا وجود لنا فيه الآن. تحضر تفاصيل اللحظات المنسية وتتوزع في المكان الذي لا تنتمي له.. وبصورة مخفية أنحلُ عن وجودي الآني وارتبط بعدمك، وكأنّ الرائحة قد استحضرت كل ما يُدس داخل المناديل.
ما الذي يجعل المناديل التي ابتعدت عن حياتنا تصبح رائحة للحظات منسية؟، هكذا ينطّ السؤال من رأس أنثى كانت المناديل تقودها دوماً لاقتراف يحتويها بنفس القدر الذي تحتويه العقّد المثيرة بطلاسمها من إشارات للمجهول والمقدس والمنفتح على شتى الاحتمالات التي يبدا أساسها المتمثل بجسدها ومن ثم بذاكرتها، لذلك كان لمقتنياتها منذ الازل وفي جميع الثقافات علاقات انفعالية وتأويلية وغريزية حساسة ومتشابكة مع دوافع اجتماعية وتاريخية 
ونفسية. 
تماماً كرؤيا المنام التي تعيدنا تفسيراتها إلى مدى حاجتنا في الحياة اليومية لوجود الأشياء التي بداخل تلك المنامات ليس باعتبارها إشارات مخفية فقط، بل لأنها تمثل شيئاً مهماً اعتدنا على عدم قدرتنا في الاستغناء عنه أيضا، ولذلك فهي تُسقطنا في الشيئية، وتؤكد أن لكل حاجة لنا علاقة وكل علاقة تحتوينا وتعبر عنا، وتقودنا بشكل دائري في ذواتنا، ثم تتسع الدائرة لتخرج نحو الأشياء من حولنا. 
في "رائحة المناديل"الصادرة عن منشورات احمد المالكي، يريد الشاعر هاني أبو مصطفى عند الوقوف على عنوان المجموعة الشعرية المتكونة من (١١٤) صفحة من القطع المتوسط، أن يقول بإن الرائحة تعبث بذاكرتنا وتعيد للأشياء 
مكانتها. 
المجموعة التي كانت بعضا من عناوين قصائدها تحمل تسميات مثل (شهوة، هل أنا وقح، تصوف، كوني مذكرا، توقف، القميص، يا رحلتي، بيدك كأسي)، تحمل في داخلها من اشارات للمخفي المنسي والمنتظر الذي سنستعد لظهوره المتخيل وفق 
المنطق.
 ولكي يمهد لنا كل من الغياب والموت الطريق لتذكر المنسي من المناديل أو إيجاد المخفي منها أو ربمّا التجهيز لاقتنائها أو الحصول عليها طبقاً للمرحلة التي تسكن ذواتنا، فإن الاهداء في المجموعة كان المحرك الأساس لسطوة هذه المناديل وربمّا قدسيتها أو لقدرة ذكرياتها على الاختفاء، كما يقول الشاعر في بعض من ابيات قصيدته التي عنونها بذات عنوان المجموعة، (إن لم يكن بدأ الغرام طفولة/ قدر الغرام مشيئة الافلاك/ قدري الرحيل وحين عدتُ توافقت/ روحي وروحكِ هكذا
 ألقاكِ). 
مع تجربة المناديل ثمّة بالضرورة تجربة مع السجن ومع عالم آخر قد لا نبصره، فعندما يتوقف تاريخ الإنسان عند واقعة أو حدث وربما زنزانة، فإنه يتلاشى وكائن ما يفتش عن نفسه في الوراء.
ففي قصيدة "القميص" إشارات واضحة تبين دور الزنزانة في حياة رجل ما، تتوقف من صورها في وعي الذاكرة الدينية. 
لقد حلت الأنثى هنا محل الفخ بعدم ذكرها، وبخفيّة تغلغلت عوالم الخطيئة والعقاب، وغدت تجسد شبحها بمواقف يؤكدها التاريخ، فالقميص يأخذني،عادة أنا المرأة، لأسباب الاختفاء المشكل وفق منظور
 ذكوري. 
لكن، العالم الآخر الذي لا نبصره أو أبصره، هو أيضا عالمي الحالي، كما يختم الشاعر غلاف المجموعة بعبارة- وعندما كان أجدادنا يأكلون الآلهة المصنوعة من التمر بعد أن ارهقوها في المعابد، إذ لم يكونوا مشركين بالله عندما أكلوها، ولأننا لم نعبد الله كما ينبغي سلط علينا نفس تلك الآلهة لتأكلنا بمنتهى الحرية، فتباً للأصابع والصناديق والمناديل المشوهة باللون الأزرق-كيف استطيع التواصل مع العالم الاخر "الاجداد، آلهة، التمر، المعابد" فذاك العالم يشرخ الذات ويفتحها على الهذيان، أنه تواصل يزوّدني بوجودية بعيدة الغور، لها علاقة بالمسيرة الروحية، التي تعود بنا إلى الروائح، قد استخدم عبارتها الشاعر في العنوان، ولأن الروائح من طقوس المعابدوتنتقل عبر الهواء بوصفه حسب المصادر عنصر سماوي، ويشترك في الفراغ مع الزمن، باعتباره ذكوري يعمل ثقله على دفع نفسه للنزول إلى الأرض في الأسفل، التي تعد نسوية
 وشريرة. 
لقد كانت عبارات الشاعر وقصائده تستجيب إلى الكثير من التفسيرات التي ارتكبت، على ما اعتقد، في إشاراتها اللاشعورية صفة الذكورية لتعبر جيداً عن أنثى مغمورة في أيامنا هذه كما كانت عليه
 بالأمس. 
أيضا، الذي يغيب عن بال كثيرين في أن اللون الأزرق غالباً ما يرتبط باللون الاحمر وخاصة عندالديانات القديمة وكذلك عند الأرثوذكس والكاثوليك. وأن الأصابع ليست الذروة، بل هي المناديل، مرة
أخرى.
من المؤكد أنّ الشاعر.. الرجل، لم يقصد هنا الأنثى بهذه المنادل المشوهة باللون الأزرق، ولكنه يسبح في جوّها الديني أو التاريخي الذي تدور حوله المسائل السياسية والمصيرية
 الكبرى. 
فغالباً ما كانت العذراء ترتدي اللون الأزرق مع مشد أحمر كتعبير للون وتعطي نفسها للحياة في الديانات. لهذا فمن السهولة أن ابحث في ذات الرجل عن تواجدي دون أن أقول لنفسي إن رائحة المناديل ترتاب في أفكاره، عباراته، قصائده التي تحس بها وقد توقفت عندما قال الشاعر (استنكروا حتى القميص/فأبدلوا وجهي النزيه وقرروا استبعادي/ ذاك الانا المقتول يسمع صرختي/ في الجب لكن لا يحبذ زادي/ ويقول أبعد لا نريد لمريم حملاً/ فعيسى غير ذي الأولاد).