اخبار العراق الان

الاغتراب الثقافي

الاغتراب الثقافي
الاغتراب الثقافي

2018-07-16 00:00:00 - المصدر: الصباح


الكاتب:د.كــريــم شــغــيــدل

16/7/2018 12:00 صباحا

إنَّ خطاب "النهضة" قد لا يشكل في الوقت الحالي مصدر جذب وتفاعل للكثير منّا، إذ ما الذي نتعلمه اليوم من أطروحات الرواد التي تحوّلت مع مرور الزمن، سواء بتفنيد الواقع أو تفنيد المعقبين عليها، إلى مصادر أقرب للأدب منها إلى المعرفة، لكن ما يشدنا إليهم – كما يذهب عبد الله العروي- اليوم "هو موقفهم من التقاليد ومن التاريخ، من الماضي ومن المستقبل" ذلك أننا لا نعدُّ – على سبيل المثال- وصف (معروف الرصافي) للاستشراق، اكتشافاً باهراً، بل ننجذب لموقفه الواعي، على الرغم من أنه لم ينجُ من إسقاطات رؤى الاستشراق، لا سيما في كتابه الشهير "الشخصية المحمدية" يقول الرصافي: "لم أقف للمستشرقين من علماء الغرب على كلام يدل على أنهم مخلصون للعلم في المباحث الشرقية لا سيما الإسلامية، بل إني أشم رائحة الكره والبغض" فعلى الرغم من أنَّ الرصافي تعرّض للكثير من المشاكل والمواقف العدائية بسبب مواقفه من الدين وجرأته على حدود المقدس، إلا أنه لم يتبنَ خطاب الاستشراق الذي قد ينسجم مع الكثير من رؤاه ومواقفه، بل وقف متشككا بموضوعيته، ليس بدافع العاطفة الدينية، ولكن قد يكون موقفه جزءاً من الدفاع عن الهوية التي يعدّها (علي حرب) واحدة من المسائل التي تثيرها دائماً دعوات الإصلاح، بالمقابل لم يتردد (طه حسين) في تبنيه لمنهج غربي من دون أن يشكل ذلك مثلبة على مشروعه النهضوي الذي وصف بأنه "مشروع تنويري جذري وشامل يتضمن عناصر عقلانية تنويرية كونه نقل النظرة إلى التراث من الحيّز اللاهوتي الذي يقدّس الماضي ويسمو به عن النقد إلى الحيز التاريخي الذي يرى الماضي صيرورة موضوعية ينبغي أن تخضع لمناهج التحليل والنقد" كما يقول عبد الله إبراهيم، وعلى الرغم مما لاقته طروحات (جميل صدقي الزهاوي- الفيلسوف) من نقد لاذع بلغ حد السخرية أحياناً والطعن بعلميته أحيأناً أخرى، إلا أنه يحسب له التماحك مع كبرى النظريات التي سادت عصره، فراحت كتاباته تميل إلى أفكار من مثل: فكرة (الدور والتسلسل) التي تقابل فكرة (العود الأبدي للمثيل) عند نيتشه، كذلك فكرة الإنسان (السوبرمان). فإذا كان شراح نيتشه الغربيون يتفقون على عدم وضوح "فكرة العود الأبدي للمثيل" عنده فإنَّ مقدمتها النظرية تعتمد على فكرة "لا تناهي الزمن" وهي المقدمة النظرية ذاتها التي اعتمدها الزهاوي لبلورة فكرة "الدور والتسلسل" كما يرى سعيد الغانمي، وليس غريباً أن تحيلنا كتابات الزهاوي/ الفيلسوف إلى مفاهيم الجاذبية والروح الثقيل والنشوء والتطور، وتحيلنا إلى نيوتن ودارون وأنشتاين، ولم يخفِ الزهاوي نزعة الشك الوجودي التي اعتملت في عقله، فجسدها في ديوانه الذي طبع في العام 1963 م" نزعات ابليس" ممّوهاً شكّه بنسب هذا الشعر لجماعة من الفلاسفة هم (ابن سينا وابن رشد وابن كمونة)، نريد القول إنَّ مسارات النهضة وتشكلاتها وسياقاتها ومرجعياتها قد تباينت من بلد عربي إلى آخر، فإذا كانت النهضة في مصر قد نمت في ظل الحملة الفرنسية وإصلاحات محمد علي فإنَّ النهضة في العراق قد تأخرت عوامل نشوئها حتى قيام الانقلاب الدستوري، وإذا كان رواد النهضة في مصر قد تلقوا اتصالهم بحضارة الغرب عن طريق البعثات والاطّلاع على نتاجاته بلغاتها مباشرة، فإنَّ العراقيين كانوا ينتظرون الترجمات أمّا للعربية أو للتركية في أحسن الأحوال، وما ينطبق على المصريين ينطبق على الشاميين والمغاربة نوعاً ما، فضلاً عن الفرق الأساسي لاحقا بين نمط الثقافة الإنجليزية المحافظة و نمط الثقافة الفرنسية المنفتحة، وفي مجمل المسارات كان على الثقافات الوطنية والمجتمعات أن تمايز بين النواة الصلبة للحداثة بوصفها عقلانية وحرية وبين استعمال قوى الحداثة ضد الحداثة من لدن ملاكّها الأوائل عن طريق الاستعمار للسيطرة على الشعوب ونهب ثرواتها وتدمير ثقافاتها، فالحداثة على وفق المنظور الغربي هي العقل الذي تسلّط على الإنسان، وهي العقلانية الصارمة المفزعة التي قامت على إثرها النظم والمذاهب التي تبرر سلطة العقل ومن ثمَّ تسلط الدولة وإرهابها، كما ذهب (مايكل .هـ.ليفنسن) و"بموازاة الحداثة في الغرب كان الشرق يعيش بقايا حضارة تشظت وتفتتت، وكان الإنسان الشرقي يحاول لملمة بقايا عبقرية غابرة ليرمم بها ما تداعى وما سقط من حضارته السالفة"، لذلك نجد أنَّ خطاب النهضة كان ينأى عن الصراع مع الواقع وقراءة تشابكاته، أو الاشتباك معه معرفياً، كان ثمة خوف من الواقع وعدم ثقة بالمصير، ومع غياب رؤية النهوض بالواقع كما هو بتناقضاته وإشكالياته كانت "النهضة" تتجلى بالتسارع إلى البحث عن حلول سريعة جاهزة مرة باللجوء للماضي ومرة باللجوء للمستعمر، و"كلاهما رد فعل مذعور احدهما إزاء التخلف وثانيهما إزاء المستعمر المسلح بحضارته المادية" كما يرى نعيم اليافي، وكلاهما يشكّل اغتراباً حضارياً وثقافياً عن الزمان والمكان، وهذا الاغتراب لم يبعد خطاب النهضة عن الواقع فحسب وإنما حال دون تبلور خطاب حول الآخر، بينما أدرك الغرب أهمية الخطاب حول الآخر، فوفّر فضاءً ملائماً لذلك "ولذا كان الآخر- الشرقي على الدوام خاضعاً بانتظام إلى نوع من التقيد البلاغي الصارم في الاستشراق الغربي الذي تخطى ببصره العالم الجغرافي إلى الثقافي، وحصر المعنى الكلي والحقيقة الكلية في مركزه"، كما ذهبت الدكتورة (مي عبد الكريم محمود) في مقدمتها لكتاب "الشرق الخيالي ورؤية الآخر".