الكلمة بين عالم الافتراض وعالم الورق "حديث الخميس" أنموذجًا
2018-08-13 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية
يمكن أن أقول عن فيس بوك حسب فهمي الشخصي أنه مثالٌ لثيمة " الفوضى الخلاقة " من بعدها السياسي الى ابعادها الثقافية والاجتماعية الأخرى ، حيث إنها مرنة ومطاطة وقادرة على استيعاب مفاهيم وتفسيرات جديدة غير التي تطرح . أما فيس بوك وعلى الرغم من أجزائه المشتتة في كل جانب ، وكل جانب منه يعمل كوحدة مستقلة عن الأخرى ، إلا انه يدعم هدفا واحدا ، يحقق المستخدم من خلاله حاجاته . كما وأن هذه الوحدات تنتمي الى دائرة واحدة تجمع هذا الشتات عبر نوافذ رئيسية وأخرى فرعية . لذلك من النادر أن نجد خلال هذا الشتات استثمار حقيقي للفيس بوك غير منشورات مبعثرة ، بل يمكن أن أقول إن آليات عمل فيسبوك وبقية برامج التواصل الإجتماعي تنعكس تماما على مستخدمها وتؤثر عليه وعلى طريقة تفكيره وشعوره ، وتخلق له شخصية جانبية أخرى تلائم هذا الفضاء ، سرعان ما تنمو و تنضج لتعتنق الفضاء وتصدق به ، وتتحول الى شخصية شبه رئيسية عند البعض ورئيسية تماما عند آخرين الذين لا يقاومون أو لايملكون ادواة المقاومة . إن المستَخدِم لهذه البرامج في الحقيقة هو بدوره أيضا مُستَخدَم من قبلها ، وهو هدف الشركات المصنّعة بالدرجة الأساس ، بغرض التحول إلى مستهلك . ما قادني الى الحديث والتفصيل أعلاه ، هو وجود صفحات فيس بوكية استطاعت من خلال التزامها بجدول معين في النشر اضافة الى مادة النشر الثرية ، أن تؤثر على مزاج المتابعين لها ، وأخصُّ بذلك صفحة الكاتب حسّان الحديثي ، حيث تجربته المتفردة مع يوم الخميس ، والتزامه لمدة طويلة بنشر الموضوعات المهمة بلا انقطاع كل خميس، والجهد الواضح في كتابة مادته الأدبية والفكرية وما فيها من تقصي ومصادر وعذوبة في الطرح ، ترك أثرا بالغًا على متابعيه ترسّخ ضمن هذا الفضاء المبعثر ، واستطاع الحديثي أن يخلق خلال ذلك مزاجًا خاصًا يشبه شخصيته المنفتحة في الحوار والمرونة في النقاش ، وبذلك صار المتابع ل " حديث الخميس " ، ميّالا للنقاش والحوار بعد أن وجد أهم خصلتين يحتاجهما لينفق حاجته في إبداء الرأي ، وهما : شخصية المحاور القادرة على " الأخذ والعطا " مع الآخر ، والمادة المنشورة التي تستحق النقاش والتواصل وجهد التعاطي معها وكتابة تعليق . أي أن المتلقي هنا تعرض لعملية تنميط ذكية يقوم بها الكاتب / الناشر ، وهو تنميط ايجابي داخل هذا الفضاء المبعثر ، وأرى بأن بعض الأمور تنجح بما يناقضها ، فمثلا لو كنتَ في مناخٍ متزمت وقوانين حادة ، لكان التمرد على هذه القوانين بكل انواع الفوضى هو الجاذب الأكبر ، لكنْ هنا في فضاء مثل فضاء الفيس بوك ، فأنت تنجح بالالتزام الذكي والمناور والمدهش كما فعل الحديثي حسّان . تتميز الأفكار التي يطرحها "حديث الخميس" / قطوف أدبية ، بكونها أفكار ذات نطاق واسع ، تجتذب إليها الأفكار من كل جهة ولا تقف على "كلٍ " فقط أو "جزء" فقط ، بل تنسحب على كليهما بالتدفق نفسه مدعومةً بالتفحص والأمثلة والمصادر ، وطريقة الطرح العذبة غير المألوفة ، وأقول غير مألوفة ذلك أن أغلب ما يقدمه خميسُ حسّان هو الحديث بالتفصيل عن الشعر الموزون في قديمه وجديده على اختلاف حقبه وهو ما شغل الجزء الأكبر من هذه التجربة مع موضوعات أخرى تخص المدن التي زارها وتجربته معها . وأما مصادره فأغلبها تعود الى حقبٍ ماضية أو الى كتّابٍ سابقين ، وأما أجمل ما في ذلك ، فإنه يعيد إنتاج قراءة التراث بعين الماضي والحاضر ، فنكتشف معه أن هناك أبياتا للمتنبي أو للجواهري أو السياب أو لدرويش أو لغيرهم من الشعراء والمفكرين مقاصدَ ومفاتيح لتفسيرات جديدة تزيد من لذة التلقي ، وهو في الحقيقة مايقوم عليه أسُّ التلقي . وأما مايخصُّ المتابعين وآرائهم ، فإن هناك الكثير من التعليقات العميقة في طرحها والصادقة في حوارها مع الآخر ، صار الكاتب يعتمد بعضًا منها في تضمينها داخل مقالاته ، لسداد الرأي فيها ويشير إلى صاحبها أيضا ، وهو بذلك يشير الى أهمية الرأي الآخر وقبوله ، وأيضا هو من مصلحة الكاتب نفسه ، إذ أن هذه التجربة تحولت الى كتابٍ ورقي ، وهي الآن بصدد العبور الى الجزء الثاني ، وكما نعلم وتعلمون أن الورق أطول أمدًا وأكفأ في تحديه للزمن . الأمر الذي يثير الاهتمام أكثر أن تجربة مثل هذه التجربة ، تتخذ من التراث في أغلب موضوعاتها مادتها الهامش والمتن ، وتثير كل هذا الانتباه والجلبة ، لهو أمر يستحق أن نقفَ عنده ، وننظر إليه بعين المدرك لا بعين المنجذب إلى الضجيج ، وعين المدرك تخبرُ بأن هذا الانجذاب سببه الجمال في الطرح والجمال في كشف الزوايا الميتة التي لم يمر عليها ضوءٌ كاشفٌ من قبل . إنه جمالٌ أخاذٌ جمال الالتقاط والاكتشاف وهو ما تقوم عليه الفنون أجمع وهو مايفهمه حسّانُ جيدًا ويعيه بكل حواسه الحادة ، لذا نراه في كل خميسٍ ، يرتدي عدة الغوص ويُخرِجُ لنا الدرّ الكامنَ في بحر التراث والمدن التي زارها ، ذاك الذي لم يلحظه أحدٌ بعد ، لكنه هو يراه ويعرف كيف يستدرجه من مناطق الظل الوارفة الى الشمس . وهو بذلك أيضا يؤسس داخل عملية التنميط هذه ، لنوعية المتلقي الذي يريده ، ويحتاجه النص من جهة ، ومن جهة أخرى القارئ الذي يتعرض لهذه التجربة سيتخلص قليلا من كونه واقعًا تحت تأثير آليات فيس بوك المشتتَةَ والمشتِتةَ في آن ، وهو ما يجعل الأمر واضحًا تحت الفحص أن هناك ملامح ثقافية واجتماعية مضادة لما هو مشاع وفُرِض على المستخدم لدى المتابع . أخيرًا أهم ما يجب استدراكه أن آلياتِ عمل التواصل الاجتماعي وليس فيس بوك فقط ، وانما حتى بقية البرامج كلها تندرج في إطار السرعة والقفز كما يعلم الجميع ، لا يوجد هناك تأني أو تصبّر ، حتى وصلنا اليوم الى منطقة خطرة جدا ليست على الفنون فقط ، وانما تنسحب إلى كون الحركة السريعة للموضوعات المنشورة داخل وسائل التواصل الاجتماعي وزمن اختفائها واندثارها وابتعادها عن أنظار المتابعين ، يعمل بالدرجة الأساس على تحريك التاريخ اليومي بسرعة أكبر ، مما أدى الى ابتلاع الجميل والرديء معا ، وبنفس الكيفية ، ونرى هناك قضايا وفجائع كبيرة تتلاشى خلال يومين أو ثلاثة بالكثير ، بمعنى أن الزمن داخل الفيس بوك مثلا ، سيكون مختلفًا عن الزمن خارجه ، من حيث التأثير الذي يتركه على المستخدم دون غيره وبذلك نخلص الى أن تدوين الاحداث المختلف والسريع والمتزاحم ، يضعنا أمام تاريخ حافل ومستعجل لكنه يزول بسهولة ولا يترك تأثيرا على المتلقي لفترة طويلة ، هذا غير أن التخمة التي يصاب بها المستخدم جراء ذلك ، عطلت أو قيدت عاطفته الجياشة والطبيعية وجعلتها في حدود متدنية مرهقة ومتعبة ولا تتفاعل بشكل صحيح . أما الذين لا يرون العالم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ، ولم يتأثروا بآلياته ذات النقلات السريعة ، فإنه سيكون تحت تأثير الأحداث بشكل أكبر خاصة إذا تلقاها عبر وسائل أخرى ذات آليات مختلفة مثل القنوات المتلفزة والراديو ، حيث تكون الأحداث أقل وأخف مما نرى في وسائل التواصل الاجتماعي التي يدفعها الزخم الى الاندثار والتلاشي . وهذا بدوره ينعكس على الأدب والشعر وبقية الفنون التي تزول بزوال الفترة المحددة للظهور والتفاعل ولن تبقى سوى في صفحة المستخدم . ويأتي هنا " حديثُ الخميس " ليكسرَ القاعدة ، على الرغم من طول مقالاته التي تُنشر في فيس بوك وعلى الرغم من اهتمام القارئ الافتراضي بالنصوص القصيرة والموضوعات المختصرة ، ليتحول من كلمة تمر بكل هذا الشتات والتزاحم والتقافز والأمزجة المتناقضة الى كتابٍ ورقي . إنها تجربة نادرة ، تبدأ بعالم مفتَرض وتنجح ثم تتحول إلى عالم الورق وتنجح أيضا .