اخبار العراق الان

حديث الخميس: الهوى غلّاب

حديث الخميس: الهوى غلّاب
حديث الخميس: الهوى غلّاب

2018-10-11 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية


  المقدمة: سالته: هل الهوى غلّاب؟ فقال: الهوى غلّاب ولا غالب له - الى اي درجة؟  - الى درجة انه يتساوى في غلبته مع الموت - كيف؟  - اسمع هذه الابيات لعلها تكون جوابا لسؤالك:   افضى بسرّك ما أدارَ الساقي ...  وبدت علـيك ملامحُ العـشاقِ وهفا فؤادُكَ فاستثارَ فؤادها ... رغم النوى إن القلوب سواقي ولـكـلِ داءٍ رقـيـةٌ إلّا الـهـوى ... والموت أعيين الرقى والراقي   كان هذا الحوار بيني وبين الشاعر الطبيب د. حسين الحديثي قبل ما يقارب الثلاثين عاماً.   المتن: في ليلة من ليالي عام 1960 وحين كان الشملُ مجتمعاً سأل احدهم الشاعرَ الرائع بيرم التونسي قائلاً: هوّه صحيح الهوى غلاب؟  فأجابه بيرم: ما اعرفش انا   ولأن الشاعر يسمع ويرى بقلبه لا بأذنه وعينه انتبه بيرم الى ان هذا السؤالَ سؤالٌ مستفزٌ ينطوي على معان كثيرة ولا يمكن ان يمرّ دون وقفة تليق به،  سؤال يصلح لشيء ولا يمكن ان يكون مجردِ حوار جامد او فكرةً عابرة،  لعله يصلح لان يكون مطلع قصيدة ، فغالبا ما تأتي القصائد وتولد من كلمة او لمحة،  مخطئ من يظن ان الشعر، ياتي من العدم.  اكمل بيرم الحوار شعراً وبنى عليه وقال:   هو صحيح الهوى غلاب؟  ثم اجاب نفسه: ما اعرفش انا !!   ثم أردف السؤال بسؤال : والهجر؟ قالوا: مرار ... وعذاب ... واليوم بسنة   شعر فيه من الإنسياب والعفوية ما يبدو واضحاً بيّناً وقد خلا من اي تكلّف، وبالرغم من لغة السرد والمباشرة التي فيه الا انها زانته وجعلته قريباً للنفس، ولعل دفق العاطفة التي اترع بها بيرم كلماتِه زاد من حسنه وقربِه وجمالِه.    هل هذا هو السهل الممتنع؟ الذي لا تكاد تقرأهُ حتى تقول: لو شئتُ لكتبتُ واتيتُ بمثله ثم لا تلبث حتى تؤمنَ انك لو اختليتَ بنفسك ما شئتَ من الزمن ولو انقطعتَ عن الدنيا والناس حينا من الدهر فلن تستطيعَه والسبب بسيط وان غاب عن الكثير؛ لانه شعر والشعر ليس كلاماً ولا يتأتى في كل حال لاجل ذلك قال محمد مهدي الجواهري:   يظُنّونَ أنّ الشِّعْرَ قبسةُ قابسٍ ... متى ما أرادُوه وسِلعةُ بائعِ   أكمل بيرم بقية مقاطع القصيدة فقال: جاني الهوى من غير مواعيد   لا خير في الهوى ان اتى بمواعيد، سرُّ الهوى انه ياتي غفلة كالقدر او كالموت، النوت النافذ بالحي من الحياة الى العدم غير ان فلسفة الهوى انه مؤدٍ من الحياة الى "حياة" حياةٍ اخرى مجهولة بعضهم رآها نعيماً غير ان أبا نواس وعروة ابن حزام والمتنبي رأوها رؤية اخرى تخالف الكثيرين فقال ابو نواس: تعجبين من سقمي؟  ... صحتي هي العجبُ   وقال عروة لعفراء : وإنـي لَتـعـرونـي لـــذكــــراكِ رعـــدةٌ لـهـا بــيـن جـسـمي والعـظـامِ دبـيـبُ   و ما عجبي موتُ المحبين في الهوى و لَـكـن بـقـاء الـعـاشـقـيـن عـجـيـبُ   اما المتنبي فقد تأخر عنهم في القول وتقدمهم في الأثر حين قال: وعذلتُ اهلَ العشقِ حتى ذقته...  فعجبتُ كيف يموت من لا يعشق   ومن عجب الهوى انه يأتي فُجَاءَةً ويزور على غير توقع وانتظار فمن بين ملايين النظرات على غير قصد تأتي نظرة فيظنها الضحية انها نظرة عابرة ولا يعلم بأنها سهم من نار غير انه سهم ينطلق من عين ويستقر في قلب فيكون أول السقم وبداية الحكاية التي تؤدي الى نعيم، نعيم مزعوم غير ان حقيقتها انها تؤدي الى العدم هكذا رأها بيرم حين حسبها سلاماً:   نظره وكنت أحسبها سلام وتمر قوام أتاري فيها وعود وعهود وصدود وآلام   من مميزات المفردة المصرية انها سلسة واضحة عابرة لحدود البلاد ينطقها الجميع ويفهمها الجميع حتى اصبحت جامعة لكل لسان ناطق بالضاد فان تعسر افهامُ اهلِ المغرب اهلَ المشرق تحدثوا بالمفردة المصرية لانها مفهومة للجميع.    لم تكتمل قصيدة بيرم وان كانت من اجمل ما كتب، كانت تحتاج الى فيض آخر من اللطف وفضل وزيادة من رقة وشحنة هديٍ من عاطفة ولين لياخذها الشيخ زكريا احمد بعد قطيعة طويلة مع النغم وليضع لها لحناً من أعمق وأرق ما يصاغ به لحن لقصيدة ليرسلها سيرة اخرى بلحن يتجاوز حدود الموسيقى ليصل حدودَ الرهبنة في الإطراب حين حلّق بها عالياً على جناحي الجمال؛ جناحِ الإيقاع البطيء والنغم الكهنوتي: إيقاع "الوحدة الكبيرة" ، ومقام الحزن والوله مقام "صبا" فجاءت لوحةً هائلة للجمال، لوحةً رسمت بفرشاة الحزن المترف الذي تستزيد منه ما شئت الزيادة وانت تعلم سلفاً انك لن ترتوي منه ابداً.    لم يمهل بيرمَ وزكريا غلابٌ آخرٌ اشار له د.  حسين الحديثي في ابياته مع الهوى فكان الموت غلاباً بعد -الهوى غلاب- لكلا الساحرين وكأنه يقول لهما لا إبداع بعد ذلك الإبداع ولا قمة فوق تلك القمة ولا ذروة أعلى مما انتما عليه.    فاختطف الموت بيرم التونسي في 1961/1/6، ثم لم يلبث بعده الشيخ زكريا طويلا ، وما هي الا بضعة اسابيع حتى لحق صاحبه في 1961/2/14.   كلاهما سكت وبقي الصوت يهدر ويقول ويعيد : جانا الهوى من غير مواعيد...  كلاهما سكت وبقي السؤال يلجُّ في الآذان ويتردد في العقول  ويلحُّ في بال العشاق ويقول : هوّه صحيح الهوى غلاب؟    فيجيب الصدى في ذاكرة الملايين من البشر -رغم معرفتهم الحقيقة- ما اعرفش انا ....