اخبار العراق الان

عامودا في ذاكرة الطفولة.. حريق لا ينطفئ

عامودا في ذاكرة الطفولة.. حريق لا ينطفئ
عامودا في ذاكرة الطفولة.. حريق لا ينطفئ

2018-11-13 00:00:00 - المصدر: رووداو


 تردّدَ اسمُ عامودا في آذاننا منذ باكر الطفولة، حينما كنا صغاراً في أقاصي الريف الذي لم يكن حنوناً ليستوعبَ مداركنا الطفولية، وشغبنا المشروع.

كنتُ أسمع كثيراً في مضافة والدي الطينية، ودخان سجائر العجائز من " السَّهِّيرة تخنق صدورنا الغضَّة.. كنت أسمع مَن يقول للآخر مادحاً إياه بكوجرية مموسقة: إن رجاحة عقلك وفطنتك تخبرنا أنك من عامودا، وقد يتناهى إلى مسامعنا أنك أصبحت معلماً ميكانيكياً، وتشتري حصادة مثل أهل عامودا.

وفيما بعد اجتاحتنا عامودا في عقر دارنا حين كان أقراننا الأكبر سناً يتجاوزون حكايات الآباء عن المراعي الخصبة والكلأ الناعم لقطيع الغنم، وراحوا يتحدثون من أرضية  ثقافة المدينة وحراكها الداهم آنذاك عن حريق سينما عامودا، ويتحدثون عن أطفال تفحمتْ أجسادهم في سينما، وأبواب أغلقت، وجدران تهاوت على رؤوس الصغار، ونار أكلت، والتهمت جيلاً كاملاً من عقول عامودا، وبطولات الدقوري في إنقاذ عدد من أطفالها قبل أنْ يشبَّ الحريق في ثيابه وشبابه.

كنا ننظر إليهم بعيون ذاهلة وجاحظة، فنحن مازلنا نتلقى التعليم البدائي في القرية، وهم شبوا على الطوق، واجتازونا.. اجتازوا ساقية القرية الوحيدة، والأشجار الجرداء، ولعب الأطفال التي من طين كما بيوتنا.. هم نعموا وظفروا بالدراسة في ديريك والقامشلي، ونحن مازلنا نحن تستقبل صدورنا حرائق الدخان المنبعثة من صدور رجال ضيعتنا الصدئة جراء الفقر والتبغ الرديء.

لم يتطوّر حسّي تجاه عامودا التي أغرقتنا بفيض حصاداتها التي كانت تنهب مزارع القمح نهباً إلا في المرحلة الثانوية في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، فبدأتُ أتعرّفُ إلى عامودا الشعر والثقافة والحرائق والأحزان، بدأتُ أتعرّف على عامودا (الشيخ الجليل عفيف الحسيني) وبقية آل الحسيني، وعامودا النحوي الضليع (دحام عبدالفتاح)، وعامودا الموسيقيين والفنانين والملحنين والروائيين والشعراء .. سيل الشعراء .. هل بإمكانك أن تحصيهم؟؟ فقد علمت فيما بعد أن كل أهل عامودا شيباً وشباباً يكتبون الشعر.

وتشاء الظروف أن أزور عامودا أول مرة لكن على موعد مع الحزن والأسى حين اختطفت يد المنون المناضل (عصمت سيدا) تلك الشخصية الدافقة بحب الإنسان إلى أبعد حد في أواخر الثمانينيات، وأعدت الكَرّة من جديد، وأنا صديق أغلب الشعراء في هذه المدينة.

زرتُ الشيخ عفيف الحسيني في منزله الطيني المتواضع، وأول ما أشغل بالي التعرف عليه .. هناك أدخلنا هذا الشيخ الجليل في صوفية الشعر، وحينما علم أنني من قرى الكوجر وصديق أبنائه رحّبَ بي أيما ترحيب، وقرَّب إلى قلوبنا في تلك الليلة التي قضيتها في دارهم مسائل النحو والصرف والبلاغة في سهرة لا أجمل ولا أبدع، وكدت أقول لأصدقائي أن رافقوني إلى دار السينما التي وسمت تاريخ هذه البلدة الـ  مازالت طينية، ومازالت حزينة ومازالت بائسة وفقيرة.

وفيما بعد.. في أواسط التسعينيات سأزور عامودا برفقة الناقد الغالي المرحوم (صبحي الطعان) صديقنا وزميلنا في كلية الآداب، والذي لم يهنأ بشبابه، فقضى هو وزوجته وابنه مهيار في حادث سير أدمت قلوب كل محبيه وأصدقائه الكثر.

رافقني صبحي إلى عامودا لأنه كان بين أيدينا مشروع مجلة ثقافية كنا بصدد إصدارها اسمها (أجراس)، ولم يكن أمامنا مقصد غير منزل الشيخ عفيف، وطلبنا مساعدة وتعاون أصدقائنا الذين لم يوفروا جهداً إلا وسخّروه لنا في سبيل إنجاح مشروعنا، فتعرّفنا إلى بعض شعراء وكتاب عامودا، تعرفنا إلى الشاعر(جميل داري ودحام عبدالفتاح وإسماعيل كوسه، وعبدالرحمن عفيف) وغيرهم من مثقفي عامودا، ودارت بيننا نقاشات لطيفة حول الكتابة، وقصيدة النثر وشرعيتها والقراءات التي يمكن أن تمدنا بفيض معرفة، كما حدّثنا اللغوي (دحام عبدالفتاح) القادم من النحو العربي والتدريس عن اللغة الكردية وضرورة صيانتها والكتابة بها، ورأى ألا نهمل اللغة الكردية لأنها بالتالي لغتنا، وعلينا حمايتها وصيانتها باعتبارنا شباباً نفيض حماسة ونشاطاً – حسب رأيه-

لقد عدنا من عامودا يومئذ وجعبتنا ملآى بمساهمات وكتابات أصدقائنا وأحبتنا العاموديين.

وستتوالى الزيارات إلى عامودا التي كانت أول بلدة شمالية ترسَّخت، وتبلورت معالمها في ذهني منذ الطفولة الغضة التي كانت بالتأكيد أقل حرقاً وحزناً، لكنها لم تكن تشي بالفرح وبراءة الطفولة كما كل أهل ضيعنا هناك حيث الفقر الذي يزيل، ويذهب الضحكات والحبور من وجوه الأطفال الذين تتجول أعينهم في مراثي الزمن رغم أنهم يحاولون أن يسعدوا ، ويسرقوا من الزمن لحظاته الهاربة.

ياإلهي!! منذ زمن سحيق لم أزر عامودا ، هل مازالتْ بيوتها طينية؟ نعم ، هل مازالت حزينة؟ نعم، هل مازالت بائسة؟ نعم، مازالت رائحة أجساد الحرقى تفوح في شوارعها، مازالت تصر على إنجاب الشعراء والمبدعين.

عامودا في ذاكرة طفولتنا حريق لا ينطفئ.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية‬‬‬.