اخبار العراق الان

وفي عامودا كان نزالٌ آخر

وفي عامودا كان نزالٌ آخر
وفي عامودا كان نزالٌ آخر

2018-11-14 00:00:00 - المصدر: رووداو


- حيدرو.. إلزم  حدك؟!، إياك وتجاوز هذا الجسر؟!، إنه لي، لا لا ليس لك، لي، ليس لك ؟!، والتمعت الخناجر ملولحة في الأفق، تناطح الاثنان على طريقتهما، صراع دونكيشوتي مضحك مرهق في سيرك بدا أشبه ما يكون كصراع الديكة، ومن دون سابق إنذار أنهى حيدرو المبارزة وهو يقول: إسماعيلو؟!، أتشم  شيئاً؟!، ما هذا بربك ؟!، أنت فعلاً مجنون حيدرو، قالها إسماعيل، إنها رائحة لحم مشوي، نار هو ودخان، وحركة غير اعتيادية دبت في شوارع وأزقة عامودا، صرخات وأصوات هستيرية، إنها السينما، إنها السينما، هيا يا ناس .. هيا يا عالم .. إلى الأطفال .. إنها السينما التي تحترق وملؤها أطفالنا الأبرياء.

تناسى "إسماعيلي دين" (إسماعيل المجنون) وحيدرو خلافهما على الحدود المصطنعة، إلى السينما هيا، قالها إسماعيلي دين، ... رباه!!، ياللشعاع المتوهج ناراً ولفحاته تعانق فضاءاتك عامودا، وطوق رجالات أمنك بشرطتها يحوطون المكان تمنع المذعورين بجنون على أطفالهم، حيدرو .. حيدرو؟!، لماذا يمنعون الناس من محاولة إنقاذ المحاصرين بالداخل؟!، لا أدري،أجاب حيدرو، هات خنجرك .. هات !، تتمرجل بها فقط علي، قالها إسماعيلي دين!، وأين خنجرك؟، سأله حيدرو !، أيها المجنون: أقسمت ألا يجرح خنجري إنساناً، فقط أعيره في بعض من الأحيان إلى حجي يحيى ليذبح به الدواجن.

أصوات استغاثات.. عويل فظيع تتقطع لها الأبدان.. أزيز.. صفير.. صعيق.. "جقجقة" المحترق المتصدع تتعالى.. تمازجت الأصوات والروائح والألوان.. المشاعر باتت منفلتة فلتان هذا النار الفتاك !.. وفوق كل هذا رائحة اللحم الطفولي وهو يحترق.. ورجال الشرطة يمنعون الناس حتى من مجرد التفكير في إنقاذ المحاصرين!!، تململ الجمع المحتشد وفسحوا الطريق، بدا أن أمراً ما حدث، أو سيحدث، لحظة بدت وكأن الكبرياء البشري قد فقد ذاته وسط ذلك الطوق الأمني غير المبرر !، انتبه الأمن إلى تلك الحركة، تقدمت مجموعة منهم، حاولت منع القادم من التوجه صوب السينما المتقدة  فأشهر مسدسه وأقسم بقبر أبيه بأن الذي سيمنعه  سيلقى حتفه، تراجع الجميع فهم يعرفون من هو -محمد سعيد آغا الدقوري-.

دخل السينما، إنها تلتهب، طفولة بريئة تاهت وسط هيجان نار لا يرحم، ودخان يعمي البصر، انتشل طفلاً بيمناه وآخر بيسراه وانطلق مسرعاً، ذهاب بإياب وإياك بذهاب والنيران تشتد اتقاداً وهو يزداد إصراراً، الردهة الأولى خلت، توجه صوب الردهة الثانية، رائحة الشواء الآدمي تزكم الأنوف والنيران قد هشمت الأسقف التي بدأت تتداعى وقاربت على الأنهيار، أصر على الاستمرار، سكة حديد ملعونة أضحت ككتلة جمر متقدة تتدلى، لعنة الله على الحديد وسككها، قالها الدقوري، لقد فعلت فعلك قبلاً؟، أولم تقسمي أرضي إلى قسمين كما هي قريتي إلى اثنتين ؟!، تناول طفلين آخرين وطفلة صغير بضفائرها الجميلة تحك عينيها بيديها كانت ما لبثت أن تمسكت برقبته، هرع بهم خارجاً، الوهج يزداد والدخان يقطع النفس والعيون كواها الاحتقان فبدا المكان أشبه بحفرة مظلمة، صمم على التحدي، اجتاز الباب، ما اسمك أيتها الصغيرة ؟، نسرين، أجابت الطفلة، إلى بيتك أيتها الحلوة نسرين.
 
عاد مسرعاً إلى الداخل، أحسَّ بإرهاق شديد، تعب لم يألفه قط، انعدام رؤية، غثيان، سائل أخذ يتدفق من رأسه لا يميزه أدمٌ هو أم عرق ؟، بصعوبة فائقة وصل إلى الردهة الثانية مجدداً، انتزع طفلين آخرين وهم بالخروج، إلا أنها سكة الحديد المتجمرة أبت إلا أن تتدلى أكثر، النار توهج، تعالت ألسنته وامتزجت بدخان أسود كثيف وأضحت كدوامات، ممتزجة بدخان أسود كثيف تتشابك كحلقات حلزونية قاتلة، ما أبشعك أيتها النيران !، إزحفي .. هلمي إلي .. دعي الطفولة لبرائتها.
 
اصطدم رأسه بالسكة المتدلية بقوة.. لابأس.. لابأس، قذف الطفلين صوب الباب، هيا أنجوا بنفسيكما، ها هو الباب على بعد أمتار، حاول الرجوع من جديد، لم يطاوعه قلبه، انتزع الطفلين من جديد وأوصلهما إلى بر الأمان، رجع مسرعاً ورغم شدة النار وقوته والرؤيا شبه المعدومة والأفكار التي تتواتر إلى ذهنه كسرعة البرق، عجباً !،  لم لا أرى شيئاً؟، لا أميز أي صورة ؟!، سوى صرخات البراءة واستغاثتها، يا لبؤسك أيتها الحكومة، صامتة أنت والبراءة تحترق هنا، رجالك يحرسون النار ويمنعون المساعدة !!، أم لعلها (حتى تكتمل الوليمة) *، ربما !، قالها في نفسه، مد يده لينقذ طفلاً آخر، الله .. ياألله؟ !، يد طفولية بدت كغصن شجرة محروقة وقد انتزعت من جزعها، هل فزعت أيها الدقوري ؟!، لا لا، ولكن أي قلب آدمي يستطيع أن يتحمل هكذا مشهد ؟!، يا للحظة البائسة في عمر البشرية، هلمي، تعالي، جميلة بوحيرد، بن بيلا، حسن آية، وانت بومدين !!، أيها الجزائريون، انظروا، ها هي البراءة الكوردية تحترق، نعم هم قدموا الليلة فرحين على أمل أن يشهدوا عرساً جزائرياً حقيقياً، آه منك أنت فرنسا الاستعمارية، لقد اختبرناك قبلهم كما اختبرتينا أنت قبلاً في - طواشا عامودي -، حينها لم نحزن أبدا كما الآن لأننا كنا حينها رجالاً نواجه رجالاً، ومع هذا هم أعوانك بالأمس سادة اليوم ونحن لم نزل وقود نار وكأني بها اشتعلت لتوها.
 
في لحظة تداخلت فيها كل مشاعر الغضب، النيران تزداد هيجاناً وتعددت ألوانه وحلقاته وأضحت كلوحة لـ- فؤاد كمو- **، وقد تداخلت ألوانها بسريالية حزينة، سوادها بصغارها، برتقالها باحمرارها، أسرع الدقوري لعله ينقذ آخرين وفي انحناءته الأخيرة اختلطت عليه الاتجاهات وتاه منه النظر وتواً بدأ يتحسس رائحة الدخان الحاد والقاتل، ورائحة اللحم البشري المحترق، لمح بصيصاً يقوده إلى النجاة بنفسه، ألا بئس الرجل أنت محمد سعيد آغا الدقوري!، أتفكر بخلاصك الشخصي، لا والله ؟!، لن أخرجنَّ وطفل واحد حي هنا ؟، وكبوصلة أخذ اتجاه الأصوات المرعوبة، المتألمة، المستغيثة، صدم رأسه بعنف، أحس وكأن أحدهم قد ضربه بقوة على رأسه "أيتجرأ أحدهم أن يتطاول علي"، أبى الانحناء، قاوم السقوط، صوت انهيار قوي متتال، ما هذه اللسعة الحارة!!، أبرق هو قد ضرب المكان؟، لا بل لعله الطيران الفرنسي وقد عاود القصف مجدداً، امتزاج السائل المنهمر من جسده مع الدم والجلد المحترق.. يا الله.. أحس أنه سينهار، مد قدمه اليمنى نحو الداخل، (هلم) خاطب نفسه، لعلي أنقذ اثنين آخرين، إلا أنها السكة المشؤومة !، يبدو أنها أصرت أن تحطم رأساً تصدى بأنفةٍ وأبى الانحناء، فانهارت مع توابعها لتغطي الجسد، يا الله ! ما هذا ؟، أزلزال هد ما حولنا ؟، اختلط الجسد مع الحديد المذاب والرماد الأسود المتفحم.
 
حيدرو.. حيدروا !!، هل أحصيت عدد الأطفال الذين أنقذهم الدقوري ؟، نعم نعم إسماعيلو !، لقد أحصيتهم: عشر مرات ستة وأربع مرات أربعة وثلاثة، قاطعه إسماعيلو: وكيف ذلك حيدرو ؟، والله إنك مجنون، أنا مجنون ؟، نعم !، لا والله أنت.. لا أنت.. وبدأت المبارزة من جديد.
 
امرأة تولول وتصرخ !!، أولادي.. أطفالي.. وآخر يروح ويجيء، لي ثلاثة أطفال في الداخل، اللهم الرأفة ربي !، وآخر يتكلم بهستيريا مبهمة، وها هما حيدرو وإسماعيلي دين يتناطحان، حقاً إنكما مجنونان !، ألا يكفي الناس ما هم عليه؟!، آه "كويزي من.. كويزي من" (جوزي .. جوزي)، لقد نسيت الجوز مفروشاً على الرصيف، هيا حيدرو.. هيا !، قبل أن يتلقفها أطفال عامودا !، وهل بقيت في عامودا طفولة إسماعيلو ؟!، نعم صدقت وحق الله أفرغت عامودا من زهورها وأي حياة ستكون هي من دون أطفالك عامودا الحزينة !، سيقولون قضى ثلاثة أطفال في السينما، ولكن، ما أن تسمع منهم ذلك عليك أن تعلم بأن هناك مجزرة للكورد قد حدثت، قالوا الجزائر قالوا ؟!، وماذا ستفيدنا الجزائر أو أفادتنا قبل غيرها.
* عبارة تكتمل الوليمة مقتبسة من الشاعر الراحل محمود درويش 
** الفنان التشكيلي فؤاد كمو وهو أحد الناجين من تلك المحرقة 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية‬‬‬.