هوشيار عبدالله يكتب: مسيحيو العراق.. حضارة خالدة لا تنطفئ
عندما نؤمن بأن تعدد المكونات في البلد الواحد أمر ايجابي جداً، خصوصاً اذا نظرنا الى هذا التنوع باعتباره تلاقحاً للثقافات وتناغماً في الموروثات بما تحمله من عادات وتقاليد وقيم فكرية وإنسانية، فإن العراق خير نموذج لهذا التعدد الثقافي الذي يستمد ديمومته من التعايش السلمي بين مكوناته منذ مئات السنين. وبطبيعة الحال، فإن تعدد المكونات قد يواجه تحديات من قبل أفراد أو جماعات لا يؤهلهم تفكيرهم الضيق ونظرتهم القاصرة لاستيعاب القيمة الحقيقية للثراء الفكري الناجم عن هذا التعدد، وبالتالي قد يفتقر هؤلاء الى ثقافة التسامح الديني والمذهبي والقومي، وهذا قد ينجم عنه العديد من المشاكل التي تهدد النسيج الاجتماعي في الصميم بسبب هذه النظرة القاصرة المعبأة بالتعصب وعدم تقبل الآخر. وقد دفع المجتمع العراقي بكل أطيافه ضريبة خطاب الكراهية طيلة السنوات الماضية، ولعل المكون المسيحي الأصيل كانت له الحصة الأكبر من الأذى الذي لحق به جراء الانغلاق الفكري لدى أطراف تعمدت إقصاءه وحرمانه من دوره الحقيقي في إدارة البلد (فيما يخص الجانب السياسي) وذلك بالتزامن مع إخفاق الحكومات المتعاقبة في إعطائه المكانة الحقيقية التي يستحقها، كما تعرض للأذى الفعلي (فيما يخص الجانب الأمني) على أيدي المجاميع الإرهابية، سواء قبل اجتياح الموصل من قبل تنظيم داعش الإرهابي (كفاجعة كنيسة سيدة النجاة ببغداد) أو بعد اجتياح الموصل الذي أسفر عن سقوط أقضية وقرى مسيحية في أيدي الدواعش ونزوح أهلها منها. وبقدر ما يتعلق الأمر بالإحصائيات فلعل من بقي من المسيحيين داخل العراق اليوم أقل بكثير من أعدادهم الحقيقية، فالهجرة كانت وماتزال هي الخيار المؤلم الذي يسلكه أبناء هذا المكون الأصيل بحثاً عن الأمن والأمان في بلدان تخلو من التطرف والعنف والإرهاب. وقد يتساءل البعض عن أسباب هذا السيناريو القاتم الذي عاشه مسيحيو العراق، فحتى وقت قريب كان المواطن المسيحي يحظى بفرص مهمة في بناء الدولة من خلال تبوء مناصب رفيعة في الحكومة، كان الطبيب المسيحي والاستاذ الجامعي المسيحي والوزير المسيحي يشار لهم بالبنان، كيف انقلب الحال وما الذي جعل المسيحيين مهمشين؟ ولماذا تم التغاضي عن مظلوميتهم والسكوت عنها؟! بل على العكس بات البعض يحاول الترويج لخطاب مبطن بالكراهية انطلاقاً من التفسير الخاطئ والفهم السطحي للشريعة الإسلامية التي تحث على المودة والتراحم مع المسيحيين. ان جوهر المشكلة يكمن في عدم تجريم خطاب الكراهية بشكل فعلي، فتجريم الخطاب العنصري يتم بقوانين تشرع رسميا ليتم العمل بها بشكل فعلي على أرض الواقع، وهي ليست مجرد شعارات أو بيانات صحفية وكلام مُنمّق، فالقانون هو القانون، ومن يصدر عنه كلام يحرض على الكراهية بين مكونات الشعب العراقي يحاكم ويحاسب وفقاً لقانون تجريم خطاب الكراهية، وهذا القانون سيكون من شأنه أيضاً وضع حد للأصوات النشاز الساعية لخلق الفتنة بين الشيعة والسنة، كما سيستفيد منه المسيحيون والأيزيديون وبقية المكونات. إن أية إساءة للمسيحيين تعد اساءة لتاريخ العراق وحضارته و لحمته الوطنية، وأية محاولة لخلق جوّ أحادي التوجه من حيث الدين او المذهب او السياسية تعد ضربة موجعة للدولة العراقية ومحاولة للنيل منها وإسقاط تجربتها الديمقراطية الناشئة، وأية محاولة لخلق روح التنوع وتهيئة بيئة حاضنة ملائمة لهذا التنوع ستصب في مصلحة العراق بشكل عام وتقوي نسيجه الاجتماعي. ان عراقنا باختصار شديد، بلد متنوع الألوان ولايمكن اختزاله بلون واحد مطلقاً، وهذه الميزة تترتب عليها قيم وثوابت لايمكن أن يحيد عنها أي انسان عراقي، ومن هنا فإن احترام المسيحيين هو واجب وطني وأخلاقي، ويجب ان نؤطر هذا المبدأ في كافة المستويات الثقافية والتربوية والقانونية والشريعية. وبالرغم من كل التحديات التي فرضها الواقع الراهن، سيبقى المكون المسيحي، بثقافته الأصيلة وهويته العريقة التي حافظ عليها طيلة مئات السنين، ولغته وموروثاته الشعبية، مكوناً أساسياً ينتمي الى هذه الأرض التي احتضنت جذوره، سيبقى رمزاً عظيماً للانتماء الحقيقي لهذا الوطن، سيبقى كلحنٍ آشوري عذبٍ يروي قصة حضارة عظيمة خالدة لم ولن تنطفئ. هوشيار عبدالله/ عضو مجلس النواب العراقي/ عضو اللجنة المالية النيابية.