تقرير: البصرة.. لم تسرق السماء من فوقها
زيارة خاطفة إلى عاصمة العراق الإقتصادية "البصرة"، تعطي صورة أخرى عن الهموم الاقتصادية للخدمات البلدية خلال فصل الشتاء الأول في عهد حكومة عادل عبد المهدي، في هذه المدينة المطلة على الخليج العربي، والتي يقال إنها مدينة العائلات التجارية والاقتصادية والثقافات المتعددة منذ مئات السنيين، حيث حصلت احتجاجات عنيفة خلال الصيف الماضي وسقط فيها قرابة 22 شهيدا وأكثر من 800 جريحا، وبادر قادة الأحزاب والفصائل المسيطرة على اقتصاد ونفط وقرار البصرة في ذلك الصيف بالظهور التلفزيوني وتوزيع منشورات مطبوعة وملصقات جدارية تحذر من التجاوز على مؤسسات وممتلكات الاحزاب والمقرات الاقتصادية والسياسية للأحزاب والقيادات السياسيّة. وأثار ارتفاع نسب البطالة والفقر وشحة المياه العذبة وتطور أزمة الكهرباء والتدخل الحزبي والعشائري المسلح في شؤون الحياة الخاصة للناس، غضب عدد كبير من المدنيين البصريين. ألتقيت بمعلم مدرسة "48 سنة" والذي يعمل مديرا لمدرسة ابتدائية، وكان احد الذين شاركوا وحرضوا على الأحتجاج، وقال: "لا حاجة بعد اليوم إلى الخوف من السلاح السائب العشائري والفصائلي، وأصبحنا لا يلزمنا فرض عدم الإختلاط بين الجنسين في المدارس الابتدائية، وأما الأشخاص الراغبون في الإستمرار على نمط العيش الذي جاءت به الأحزاب الإسلامية، فما عليهم إلا أن يتوجهوا إلى إصلاح سمعتهم التي أساءت للدين والبصرة، فساد وخروج على القانون وخرق لحقوق الإنسان والتعايش..". وإجمالا، فما فهمناه من جولاتنا السريعة بشوارع البصرة وأسواقها ومقاهيها القريبة من مركز المدينة، والواقعة كلها تحت إشراف وهيمنة القوى السياسيّة، أو تحت إشراف الأغنياء الجدد من أسر غير بصرية انضموا جميعهم إلى البصرة بدوافع اقتصادية، يوحي بأن البصرة الصيف القادم تستعد الى ترتيب احتجاجاتها وتتجنب الوقوع بالأخطاء التي أعطت الاحزاب حق التسلط عليها ولومها. إعلامي بصري"34 سنة"؛ قال: "أتوقع صيف بصري ساخن وكئيب..". ولابد أن نشير هنا إلى أن كل الذين اعتقلوا في الاحتجاجات الأخيرة، وقعوا على تعهد يلتزمون فيه بعدم العودة الى الخروج بالشارع تحت اَي عنوان. مهندس ابو عبدالله "54 سنة عضو في احد الأحزاب الإسلامية المتنفذة" قال: " لدينا إنجازات محافظة وهي تنسجم مع عادات وتقاليد المجتمع البصري، منع الاختلاط بين الجنسين بالمدارس، وغلق بيوت الدعارة وحانات الخمر وألعاب القمار ومنع بيع الكحول واستهلاكها العلني..". الفصائل المسلحة التابعة لهيئة الحشد الشعبي؛ منذ اكثر من شهرين اصبحت لا ترى عجلاتها ومظاهرها المسلحة وسط البصرة وكذلك شعاراتها اصبحت اقل انتشارا ومكاتبها اخذت بالنقصان، وتدخلاتها بالشأن الاقتصادي والديني اخذ بالضعف، وقيادة عمليات البصرة؛ فرضت نفسها ومنعت اَي قوة مسلحة عشائرية او فصائلية من حمل السلاح العلني، وزيادة محاولات منعها ان تتدخل في مؤسسات الدولة، وتشجيع المواطن على تحريك دعاوى قضائية ضد المتجاوزين منهم على حقوقه القانونية، علما بأن كثيرا من هذه المجالات، لا تدخل في نطاق اختصاصاتهم القانونية. وكل أعيان وتجار البصرة الذين تحدثنا إليهم، خلال الزيارة حول هذه المواضيع، كانوا يردون على أجوبتنا بأنهم ما زالوا ينتظرون القرارات القانونية القابلة للتنفيذ أو تفعيل وتطوير " مجلس أعلى لإعمار البصرة" وفق رؤية وإدارة بصرية مهنية ونزيهة، وتنفيذ القرارات التي اتخذها رئيس الوزراء السابق الدكتور حيدر العبادي، وكانوا يبررون «التأخير» بغياب مؤسسات الدولة في البصرة القادرة على القيام بمهامها كما ينبغي بعيدا عن الحزبية. فاطمة " 43 سنة موظفة في وزارة النفط"، قالت: "لسنا ندري إن كانت التعليمات بتطبيق قرارات عادل عبد المهدي سوف تنفذ أم أنها تخضع بحذافيرها الى مزاج الأحزاب المسيطرة على الدوائر والمديريات التنفيذية، ويتريث بها كما حدث مع قرارات حيدر العبادي التي لو نفذت لكنا اليوم قد تجاوزنا الخوف والترقب من احتجاجات غاضبة محتملة..". محمد "50 سنة استاذ في جامعة البصرة"، قال:" أننا لم نستطع أن نفهم حقيقة ودوافع صمت بغداد عن الدرجات 10 آلاف التي واعدت بها الحكومة السابقة، إن الحديث عن عدم تطبيق القرارات السابقة، بل مجرد التلويح بذلك، أمر يضع مشروعية رئاسة الوزراء، محط تساؤل وتشكيك.." والمراقبون في البصرة يتساءلون عما إذا كان هناك اتفاق ضمني، تترك البصرة لغير أهلها، وتتصرف الحكومة الإتحادية وفقا لما تعتقده «برامجها الحزبية»، مقابل سكوت الأحزاب عن محاسبة عثرات الحكومة..!. غيث"68 سنة مهندس ميكانيك متقاعد"، قال:" بضرورة التعجيل بتفعيل المجلس الأعلى لإعمار البصرة، وإنجاز مشاريع البصرة الجديدة، وتدريب وتطوير ابنائها ليحلوا محل العمالة الأجنبية الوافدة، و«بصروة» قطاع العمل البصري...". مصطفى "31 سنة خريج كلية الادارة والاقتصاد ويعمل سائق تكسي"، قال؛ "بغداد تراهن مرة أخرى على ردود فعل الشباب العاطل عن العمل في البصرة، وتفضل أن تترك الأحزاب يرتكبون الخطأ تلو الخطأ، لإثارة الرأي العام البصري ضدها، ثم قطف ثمار هذا السخط في احتجاجات الصيف الآتية..". وهناك طائفة من البصريين، ترى أن مقاطعة انتخابات 2018 لم تعدل من موقف القوى المدنية والليبرالية، بل ان موازين القوى اختلت لصالح الأحزاب والقوى الإسلامية من جديد، وأن الحكومة المحلية وإدارات المؤسسات الحكومية لا تملك قدرا منطقيا من المصداقية، ولا حتى مقدارا كافيا من المسؤولية يسمحان لها بتهدئة الشارع البصري اذا ما عادت الاحتجاجات. وفي ضوء هذا التصور يجب أن نحاول فهم سلسلة من الوقائع التي عاشتها البصرة، بعد الاحتجاجات الأخيرة، وهي معطيات تترك انطباعا قويا بأن نخب البصرة بدأت بالفعل تمارس عملها كما لو كانت بالفعل المرجعية الوحيدة لتصحيح مسار العمران والخدمات في البصرة. مقابل غياب ملحوظ للحكومة الإتحادية. لقد أصبحت وسائل الإعلام الشبه رسمية نفسها تتحدث عن خطورة الحالة السائدة في البصرة، خاصة انتشار الأمراض السرطانية وتدهور الخدمات الطبية وانتشار المخدرات تجارة وتعاطياً، بنبرة جريئة متشائمة. عبدالله "52 سنة عقيد في الشرطة"، قال؛ " شباب الاحتجاجات يتشتتون، وهم حين يتحاورون ترتفع اصواتهم ويتهم بعضهم بعضا، وهذا التناقض في التعبير يلخص عدم وجود مطالب موحدة، ويجعل تشكيل تنسيقية قيادية للاحتجاجات أمراً معقدا ". إنها تساؤلات كثيرة لا تسمح في الوقت الراهن بالحكم على أداء وفعالية شباب الاحتجاجات، ولا توحي بأنها قادرة على الفوز بمعركة تحقيق أهدافها المشتركة، سيما وأن مؤسسات الدولة تصرفت حتى الآن بكثير من الحذر الملحوظ تجاه التحديات الأمنية والقضائية وأطلق سراح كل الموقفين والمعتقلين بسبب الغضب الاحتجاجي. أهم القرارات التي اتخذها عادل عبد المهدي في فترة 100 يوما الماضية، كانت ذات طابع خدمي ترقيعي واقتصادي طموح تجاه البصرة. من واجب الشباب البصري أن يؤكدوا إصرارهم على حماية مؤسسات الدولة، رغم إننا نلاحظ أن مؤسسات الدولة يجري تدميرها بانتظام من طرف أطماع الفساد السياسي والمالي والإداري.. النخبة البصرية منقسمة بطبيعة الحال، بشأن الموقف من الحكومة الجديدة، وظاهرة استحواذ الأحزاب الإسلامية على ملفات إعمار البصرة. ولقد رأينا ما حصل لمكاتب ومقرات الأحزاب الصيف الماضي وما حصل لمبنى المحافظة، ومن النادر أن تولد تظاهرات سلمية واسعة، أو يهب نسيم الحرية أو تنشأ فكرة لها صلة بالحقوق، من دون أن ترفع أصوات الجماعات المسلحة أو القيادات الأمنية المماثلة لها، عقيرتها بالتنكيل بالاحتجاج، فما هو الطريق الأسلم لإنقاذ البصرة من هذا الوضع الذي تعيشه وهو ليس على كل حال انهيارا كاملا، لكن يخشى أن يصبح كذلك؟ إن خلاص البصرة يكمن في تطوير الإدارات المحلية ودعم ملف "بصروة العمالة البصرية"، وإعادة الاعتبار والمهنية لمؤسسات الدولة وزرع التعايش في قلب البصريين من خلال تلبية مطالب شبابها... هشام الهاشمي