عباس البخاتي يكتب: سرهيد يختصر المشهد
يسكن الحاج سرهيد في إحدى القرى من جنوب العراق، ساقه القدر على يد ابي عروبة _ المسؤول الحزبي على تلك القرية، ليكون ضمن تشكيلات ما يعرف بالجيش الشعبي آنذاك.
كان القتال مريرا ً بين البلدين الجارين، حيث الحدود ملتهبة من الشمال إلى الجنوب، والأطفال تردد ما تبثه إذاعة صوت الجماهير ( ها خوتي عليهم ها عليهم و كرة اعيونك سيدي ) وغيرها من اناشيد الحماس التي صادرت تفكير المتعاطفين مع النظام في حينها سواء من داخل العراق او خارجه.
سرهيد حاله كحال آلاف الذين أُجبروا على الالتحاق بجبهات القتال لكنه أسعد حظاً من غيره حيث كان منسوباً إلى إحدى النقاط الواقعة خلف خط الصد والتي يعبر عنها بالخلفيات ومعه أربعة من الشباب المساقين حديثا إلى الخدمة بحيث كانت أعمارهم لا تتجاوز العشرين سنة.
سرهيد مراقب للأحداث عن كثب ومتابع جيد لاخبار الميدان والسياسة إضافة لمشاهدته الأوضاع على أرض المعركة في عمليات شرق ميسان.
في صبيحة أحد أيام الشتاء الباردة وبينما كان ومجموعته مشغولون بإدامة إحدى الآليات، حضرت لجنة مبعوثة من قبل القيادة من سبعة أشخاص أقل رتبة فيها عميد ركن وجميعهم من سكنة المحافظات التي تدين بولاءها للنظام آنذاك.
تكلم أعلاهم رتبةً مع سرهيد باعتباره الأكبر سناً ضمن مجموعته عن الروح الوطنية وضرورة استحضار الهمة القتالية لردع العدوان وسرهيد يجيب المتحدث بصوت عالٍ ولباقة عسكرية غير معهودة بكلمات تعكس انظباطه العالي والتزامه بالاعراف العسكرية ( نعم سيدي_حاضر سيدي _ صار سيدي _تأمر سيدي).
رغم إعجاب الجميع بوعي سرهيد لكنهم تفاجأوا بعد جوابه عن سؤال الفريق الأول الركن المتعلق بكيفية التصدي للعناصر التي تحاول التسلل إلى عمق الأراضي العراقية حيث قال:
سيدي احنه منتصرين من ..وأشار إلى مؤخرته!
خيمت الصدمة على الحاضرين حيث لا يجرؤ أيٍ كان على مخاطبة ممثل وزارة دفاع النظام بتلك الطريقة مهما كان موقعه ورتبته.
أحد الحضور تدارك الموقف بسواله سرهيد عن أسباب هذا التشاؤم لدى هذا الرجل ؟
فأجابه بعد أن فتح ذراعيه مشيراً إلى جهة الخصم أنها من تلك النقطة إلى تلك وحددهما، تحت سيطرة جيش العدو ونحن ليس لنا سوى هذا الوادي نتخذه مسلكا عند الحاجة الى الهرب.
فرد عليه الآخر وهل جميعكم بتلك الروح ؟
فقال بتهكم : افضلنا حالا هو لولو وأشار إلى شاب ضمن مجموعته ابن اسرة غنية تسكن حياً مترفا من أحياء بغداد وإسمه الصريح لؤي، لكنه يخشى الذهاب لقضاء حاجته ليلًا دون الاستعانة بأحد خشية ظلام الليل الدامس!
بعد سماع رئيس اللجنة لتقرير سرهيد العفوي، أمر باحالته على الفور إلى وحدة الميدان الطبية كونه مصابا بهبوط حاد في المعنويات وهذا ما حدث.
نحن اليوم بحاجة ماسة إلى الشجاعة والواقعية كالتي تحلى بها الحاج سرهيد، لنغادر منهج الإفراط والتفريط في كل شي، لكن ليس بالروح الإنهزامية التي كانت ضمن ثقافة مقصودة كون البعض يشعر انه وقود لبطولات صدام فالشعب لا ناقة له فيها ولا جمل خلاف ما نحن عليه اليوم حيث الحكومة والبرلمان تمثل الإنعكاس الحقيقي لإرادة الشعب.
الوطنية أمر مقدس لكن استغلالها كوسيلة لعرقلة استقرار البلد هذا ما لا يرتضيه العقل.
لا يعتبر تجن على البعض أن قلنا أن مجزرة سبايكر نتاج الشعور غير المنضبط بالوطنية، كذلك مجزرة بادوش وتعطيل أهم فقرة دستورية تتعلق بإلادارة الفيدرالية للبلد وتعطيل قانون التجنيد الإلزامي وغيرها مما اسيء فهمه من مفاهيم كانت بحاجة إلى تفكيك لكن الضوضاء الصادرة عن الغوغاء فوتت فرص ثمينة لو استثمرت لكان حال البلد مختلفا عما هو عليه الآن .