اخبار العراق الان

حديث الخميس: مملكةُ جَدّي

حديث الخميس: مملكةُ جَدّي
حديث الخميس: مملكةُ جَدّي

2019-06-27 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية


 حسان الحديثي

المكان غربُ العراق وبعد ان يعبر الفرات حدود سوريا الى بلاد الرافدين ويجتاز السهول منحدراً بمئة وخمسين كيلومتراً وعلى جزيرة صغيرة في وسط النهر يحيط بها الماء الهادر من كل جانب كان بيت جدي.
أما الزمان فمنتصف سبعينات القرن العشرين واما الوصف فكما قال شوقي:
كنا إذا صفَّقْتَ نستبـق الـهوى ... ونَشُـدُّ شَـدَّ العُـصبـةِ الـفُـتَّـاكِ
واليومَ تبعث فيّ حين تَهُزُّني ...ما يبعث الناقوسُ فِي النُّسّاكِ
يا جارةَ الوادي طَرِبْتُ وعادني ... ما يشبهُ الأَحلامَ مـن ذكراكِ

كان جدي مَلِكاً لكنه مختلف عن الملوك، فقد كان مطاعاً مهاباً في ارضه سعيداً راضياً برزقه وعافيته مؤمناً قنوعاً بملكه وذريته فهو ليس كالملوك وقد اكتمل له ما نقص عندهم.
لم يكن لجدي شريك في مملكته تلك، ولم يكن له جار ايضاً لانه ببساطة كان يمتلك -وحده- ارض تلك الجزيرة ولا يوجد بيت عليها غير بيته الطيني المتكون من باحة وسطية كبيرة تحيط بها غرف سقوفها مصنوعة من جذعِ وسعفِ النخل مغطاة بطبقة من الطين المعجون بالتبن وعلى جانب الباحة الايمن من البيت يتمدد سُلَّمٌ بين الارض والسطح يحمل قوامَه جذعان طويلان من جذوع النخل بسلماتٍ طينية مختلفة الارتفاع والشكل.
كان كل شي في تلك الجزيرة آتياً من خيراتها؛ الحليب والخضار والفاكهة والسمك واشياء اخرى كثيرة، ومن يذهب لتلك الممكلة الصغيرة -التي لا يزيد طولها على المئتين من الامتار ولا يزيد عرضها على المئة- لن يرى من البشر غير جدي وعياله ومن الأنعام بعض النعاج السارحات بأمان من الذئب والجوع، وبقرتين وديعتين وحمارٍ ابيض عالي الظهر هادئ الملامح وكثيرٍ من طيور الدجاج والبط المنتشر على ارض المملكة الفاضلة ورفوفٍ من العصافير الحائمة في سمائها مع كثير من السمك المحيط بشواطيها المزدحمة بكثبان الرمل والحصى الملون.

كل شيء في تلك المملكة كان يدعو للسكينة والارتياح وكل شيء خارجها يعادل شيئاً داخلها ولكن بتضاد وتعاكس؛ فوفرة الرزق فيها تعادل الجوع فيما سواها، والاحساس بالأمن في حماها يتماثل مع الخوف فيما حولها، والاطمئنان بجوار جدي يتساوى مع القلق بعيداً عنه، بل وحتى نظرات الثعلب القادحة من زناد المكر والمتربصة بدجاجات جدتي، وأنياب الذئب القادم من وراء النهر والتي يشي بريقها بالتمزيق لافئدة الخراف الصغيرة كانت تعادلها عينا كلب جدي الساهرتان وأذناه المشنفتان عليها وعلى أمهاتها من الشياه الآمنات.

كل الاشياء في جزيرة جدي لها خصوصياتها؛ من شمس تموز المصمِمةِ على انضاج التمر في قمم النخيلات رغم نسائم برد الصباح، الى صوت تكسر المياء الضحلة فوق حصى الجرف التي يخترقها عواء الذئاب القادم من خلف التلال البعيدة، متعدياً الى صوت الريح المتخللة غابة القصب والبردي المحيطة باطراف جزيرة جدي والتي يضبط ايقاعها نقيق الضفادع الصغيرة لتكوّن سمفونيةً عجيبة تدعوك للمرح قدر ما تدعوك للوقوف والتأمل.

وكل الاحياء المتآلفة حول بيت جدي لها لسان وخبر ومن يظن أن الخطابة والفصاحة لألسنة البشر فقط فهو مخطيء، ومن يتصور ان الخوف والفرح والدعاء لنا نحن بني الانسان حصراً فهو واهم ، فما نباح الكلب حول شويهات جدتي ليلاً الا ابتهال ودعاء بالسلامة لها من السرحان اللعين، وما ثغاؤها وراءه الا ترديد لقولة: آمين آمين.

ليس ذلك فحسب بل ان هؤلاء الأقوام المسالمين من بني الغنم ينامون كحالنا ويحلمون مثلنا فتراهم يتبسمون -وهم نيام- اذا رأوا سوح الخضرة من حولهم، ويعبسون ويفزون من نومهم مرعوبين اذا زارتهم كوابيس الجزارين تلمع بأيديهم شفرات سكاكينهم الحادة، لست انا من يزعم ذلك انه الجواهري حيث يقول:

او نبــحةٍ من كُلـيـبٍ خِـلـتَ نـبـرتَـهـا
مـن زُخـرفِ الـقـولِ تحريكاً وتسكينا

وخـطـبـةٍ تُسـمع الـرهـطيـن مـُلـفـيـةً
في الذئبِ والحَمَلِ المرعوبِ مُصغينا

عــوى هــزيـعـاً، فـردتْ عـنـه ثاغـيـةٌ
كـانـتُ تـقـول : لـــه آمــيــن آمــيـنـا

تــهــشُ لـلـمـرجِ فـيـنـانـاً ويـرعـدُهــا
ذكــــرى تـمـثـلُ جــزاراً وسـكـــيــنــا

أغْــفــى ونـصـّب خِيشوماً يجسُّ بـه
خُطى اللصوصِ ويسـتافُ السراحينا

الصباح في مملكة جدي هو الآخر مختلف عن الصباحات في غيرها فالحركة في مملكة جدي تبدأ قبيل صياح الديكة بقليل والحياة تُنفخ في جزيرة جدي حين تَنفخُ جدتي بصيص النار المتبقية من موقد الليلة الماضية ليسري اللهب في ناعم القش المتجمع تحت قدر الحليب النحاسي الجاثي فوق اثافيه الثلاث.

تبدأ الحياة في جزيرة جدي حين تغلي جدتي الحليب مبكراً حتى يفور وتعلوه رغوة بيضاء ويتصاعد عبق رائحته فيغطي المكان كسحابة مباركة ليعلن عن العطاء ويوذن بالضياء ثم لتظهر في الافق البعيد خيوط الشمس الاولى، وما ان تتفتق السماء عن نور الصباح حتى تكون قد انتهت جدتي من اعداد فطورها واتت تتهادى به محمولا على رأسها بخصّاف دائري مصنوع من خوص ملون مخصوف على شرائح ناعمة من عراجين النخيل، فتراها وهي تمشي به برأس منتصب انتصابَ رؤوس الملكات حذار سقوط التاج، تمشي مقتبلة مجلس جدي وعلى ذراعها الايمن ارغفة الخبز الطازجة وفي كفها الايسر كوز الماء وقد اصابه برد نسائم السَحَر حتى تضع كل ذلك امام جَدي المفترش حصيراً مجذولاً من سعف النخل يظلله صفٌ من شجر التين الوارف القطوف على كتف الساقية المارة من امام البيت فلا يُخيل لمن يبصر جدي ساعتها الا انه قد بُعث للتو في روضة من رياض جنان الخلد تجري من تحتها الانهار ومن فوقه ظللٌ من فوقها ظللٌ.....

ثم لا تلبث جدتي حتى تاخذ مكانها بجانبه وتلوذ بحماه كحمامة تستظل بظل قديس ، وما ان تستوي بجلستها حتى تشرع في عطاياها فتناوله رغيف الخبز القادم من تنورها القابع في ناحية البيت والمسجور بنار العطاء المقدسة وتقرب له آنية اللبن الرائب وقد علتها طبقة سميكة من القشطة البيضاء مع ما عَمَرَتْ به سُفرتُها من خيرات ارضها المعطاء. فإذا انتهى من فطوره دفعت اليه كأس الشاي المحلى بكثير من السكر ليرتشف منه رشفة او رشفتين ثم ليسحب بإثرهما كيس التبغ ويلفّ بابهاميه الخشنين لفافة التبغ الناعمة فيحاكي بما ينفث من دخانه ما حوله من الزهور والفراشات ويرسل بصره بعيداً الى ما حوله من الخضرة والمياه.

كان جدي يختلف عن اقرانه الاميين من الرجال فقد كان يقرأ ويكتب وكان قد تعلّم القرآن واصولَه واحكامَه في حلقات الكتاتيب في صباه، كان صوته جميلاً وهادئاً حين يتلو آيات الكتاب ولكنه كان خافتاً اذا تحدث وكأنه يقدّر ان لا يسمعه احدٌ غير جليسه ومحدثه، كان جدي قليل الكلام كثير الاستماع قليل الضحك كثير التبسم يُرى حياؤه في خمول عينيه وجديته في جفاف شفتيه كان طويل القامة مرفوع الهامة واضح السمات مقروء القسمات ابيض الوجه يميل الى الحمرة وكانت لحيته البيضاء متوسطة الطول ناعمة الملمس حريرية الانسياب مضيئةً كأنها نورٌ سماوي يتحدر من شمس وجهه الملائكي.

عاش جدي على ارض مملكته الطيبة آمناً هانئا عمراً طويلاً وكنا نحن عياله وفي كنفه نقضي ايام الصيف حوله بين الماء والخضرة والخضرة والماء، ولولا انّ وَصْفَ جنة الله بـ "ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطرت على قلب بشر" لحسبناها ارض جدي ومملكته تلك، حتى رحل عنها مجبراً أسيفاً حزيناً حين قررت الدولة بناء سدٍ على الفرات ثم ليختار مصممو السد ومهندسوه جزيرةَ جدي مكاناً لقواعده واساساته من دون ارض الله الواسعة والممتدة بامتداد النهر فأتوا بحفاراتهم التي بدات تأكل بمملكة جدي وتنخر بها من كل جانب ونحن نراها تتآكل وتذوي يوما بعد يوم آمام آلاتٍ آكلة ومكائن شرسة شرهة لم تُبق من تلك الارض الطيبة شيئا فتهاوت كثبانها وتفتت رمالها واطيانُها وغدت خبراً من الاخبار وصورةً في البال ليس لها وجود في ارض الواقع، وجدي وجدتي يعيشان اسوأ ايام عمريهما لا يصدقان ما يريان يقاسيان الصبر والوجد على جنتهما الذاوية.

لم تمض بضع سنين حتى غارت مملكة جدي وذابت في امواه الفرات ولم يبق منها شيء، ثم رحلت بعدها جدتي ثم لحقها جدي فتبدل كل شيء وتغير حال كل شيء وامست الدنيا غير الدنيا والحياة غير الحياة ، أما انا فما زلت اراني طفلاً في احلامي راكضا بين الجرف والمرج مبترداً تحت فيء اشجار التين مغتسلا في شطآنها الجميلة فاذا افقت من منامي افقت وعلى خدّيَّ قطرات من الندى فأسأل نفسي:

أتلك بقايا اغتسالي بماء الفرات؟
ام انها دموع الحزن والشكوى على ما مضى وفات؟
.
.