اخبار العراق الان

حديث الخميس: الانطباع الأخير

حديث الخميس: الانطباع الأخير
حديث الخميس: الانطباع الأخير

2019-07-04 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية


حسان الحديثي

أجمل شي في هذا العلم الذي نسميه "النقد" انه علم تنظيري لا تحكمُه معادلةٌ ولا يقسرُه قانون، كما ان أصل النقد نابع من الانطباع الأول والذائقة هي اصل الانطباع.
ولأن الانطباع اصبح له اليوم مكانة عظيمة في نجاح الافكار والاعمال حين يترك الناس احكامهم وانطباعاتهم على الاشياء من خلال تجربتهم معها، تجد الشعب الامريكي يرددون في حياتهم اليومية مَثَلاً جميلاً ومهماً اثناء العمل وخارجه، ولأن كل مكان تزوره اليوم وكل خدمة تتلقاها تترك فيك انطباعاً اما ان يكون سلبياً او ايجابياً اصبح الانطباع مهما للغاية لانه يتحول لاحقا الى حكمٍ يقرأه ويعتمده الناس من بعدك سيؤثر ويساهم في نجاح وفشل ذلك المكان وتلك الخدمة، ولعلنا نستطيع الافادة منها وتطبيقها في سماعنا وقراءاتنا للشعر خاصة والأدب عامة.

اما المَثلُ فهو قولهم:
First Impression is the last impression

أي انطباعك الأول هو انطباعك الأخير، وبمعنى آخر: ان انطباعَك الأولُ هو الذي ستخرج به في نهاية المطاف، وهو صحيح وواقعي الى درجة كبيرة لأجل لذلك انا أولي القراءة الأولى اهتماماً خاصاً وأعوّل عليها كثيراً واعتبرها هي القراءة الأهم من بين عدد القراءات للنص الواحد والعين الواحدة في الشعر والادب.
امس قرأت بيت المجنون الشهير والمعروف والذي حفظناه في سن مبكرة:
تراني إذا صليتُ يمّمتُ نحوَها ... بوجهي، وإن كان المُصلّى ورائيا
البيت فيه عِلّة في المعنى فهو ذكر: المُصّلى ويعنى به "القِبلة" والقبلة اتجاه الصلاة وليس مكانها، قال تعالى في التنزيل الحكيم : وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.
والمقصود بـ "المُصلّى" في الآية هو مكان الصلاة وليس اتجاهها كما زعم قيس العامري في بيته المذكور.
غير ان فهمي للبيت وإعجابي به وحبي له لم يتأثر، وإن اختلف معنى هذه المفردة، والسبب في ذلك هو دلالة المعنى، اي أن انطباعي الأول عن البيت جاء مبنياً على دلالة المفردة وليس على المعنى الحرفي لها ولان الدلالة عندي معلومة -وهي مكان وجود ليلى واتجاه قيس نحوه- بقي جمال البيت عندي على حاله لم يتأثر.
وهذا ياخذنا الى امر جميل وهو ان دلالة المفردة في الشعر اهم من معناها الحرفي ، فربما ذكر الشاعر مفردة وقصد دلالتها ولم يقصد معناها وربما ذكرَ الفؤاد وهو يعني القلب ولا يغير ذلك من اكتمال الصورة قال ابو تمام:
نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى ... مَا الْحُبُّ إِلاَّ لِلْحَبِيبِ الأَوَّل

واراد بقوله نقّل فؤادك؛ اي نقّل قلبك لان الفؤاد عند اهل التفسير حِسّيٌّ كالسمع والبصر لذكر الله له مع الاعضاء الحسّيّة في قوله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا.
كذلك ذكر كلمة "اليوم" والمقصود به النهار لدلالة النهار على الحركة والحياة والليل على السكون والسبات فاعاض النهار عن اليوم والعكس صحيح.
وجاءت في الشعر مفردة الكبد ودلالتها على وسط الشي ومركزِه، قال المتنبي في قصيدة يرثي بها محمد بن إسحاق التنوخي:
والشمسُ في كبدِ السماءِ مريضةٌ ... والأرض واجفةٌ تكادُ تمورُ
اي الشمس في وسط السماء، وقال أيضا يمدح علي بن منصور الحاجب:
كالشمسِ في كَبِدِ السماء وضوؤها ... يغشى البلادَ مشارقاً ومغاربا
والمقصود بها ذات المعنى آنف الذكر، فالدلالة حلّت محلّ المعنى الى درجة انستنا ان الكَبِدَ هو ذلك العضوٌ المرتمي في الجانب الأَيمن للبطن
لاجل ذلك صار غالب جميل الشعر ما يُقرأ بدلالاته لا بمعانيه بل لو أننا قرأنا بعض الشعر بمعانيه لأمسى قولاً ساذجاً بارداً بل ومقرفاً ايضاً.
فلا ننسَ الأصل في تحقيق المعنى والفهم هو الدلالة وانطباعك الأول -غالباً- ما يكون هو الانطباع الأخير.
.