القاضي روائياً.. فؤاد التكرلي أنموذجاً
القاضي ناصر عمران
عندما يتسق معطف العدالة القضائي مع جلباب الثقافة الانساني فان ثمة رؤية جديدة تتشكل تتخذ حيزها الجدلي باعتبارها ذات إنسانية متسقة بالأنا ومتضخمة بها وهي ليست مقترنة بالقاضي الشخص بقدر ما مرتبطة بالمنظومة الاجتماعية التي تجعل من الحالة القضائية حالة وظيفية متخصصة بإصدار القرار وتحقيق الردع والرقابة والفصل في النزاع والتشكيلة الحاضنة للتأهيل القضائي ومن بعده البيئة المؤسسة لسلطة الحكم تجعل من القاضي نسقا اجتماعيا مفصليا يضطلع بمهمة خطيرة جدا وواقعية جداً وموضوعية جدا وهذه المهمة تستشري على حساب الجانب الشخصي التي تشكل المشاعر والعواطف والأحاسيس نسيجها البنائي الشامل كحياة خاصة فحياة القاضي الشخصية ليست بعيدة عن واقع المجتمع وتداعياته فهو كائن اجتماعي يؤثر ويتأثر ولكنه امام صناعة القرار القضائي متجردا موضوعياً مطبقا للنص القانوني بروحه وليس باليته الروتينية الشكلية.
ووجود شخصية تمتلك مقومات التطبيق وممارسة سلطة القرار القضائي وفي ذات اللحظة تعيش حالات السمو الكتابي والذي يعني الخروج من عالم الواقع باتجاه عوالم الافتراض التي تكون محركها وحافزها وسلوكها الرؤى الإنسانية والتي لا تصمد إزاءها حالة او رأي او موضوع فهذه الروح جديرة بالوقوف امامها بتأمل.
لقد قدم القاضي الراحل فؤاد التكرلي نموذجا رائعاً لثنائية العدالة والإنسانية والتعاطي بهما والانتصار للذات الانسانية عبر الكتابة فهو القائل: قد أعطت الكتابة معنىً لحياتي… ولم تأخذ مني شيئاً. كانت حبل نجاة من بحيرة الحياة التافهة، وأنقذتني من طموحات الوظيفة. وجعلتني أؤمن بأنّ حياتي لم تكن عبثاً.
ان منجز القاضي فؤاد التكرلي على المستوى القضائي كان منجز المعالج اما على المستوى الادبي فمنجز المشخص والكاشف وصورة المجتمع ولسان رأيه العام والانجاز الأدبي للتكرلي يشير بوضوح إلى غنى تجربته الروحية وتميز منتجه الروائي والقصصي والذي قدّمه بأسلوبه الأدبي الذي يجمع بين العامية والفصحى مستفيدا من الأشكال السردية المعاصرة مبتعدا عن الاختصار القاصر والإسهاب الفج، حاول جاهداً التعبير عن هموم الإنسان في مجتمع مدني يتأسّس ومظاهر للحياة يعاد تشكيلها، ابتدأ سنة 1948 بكتابة روايته (بصقة في وجه الحياة) الا انه لم ينشرها الا في عام 1980 كان متأنيا في نشر كتاباته فقد استغرقت روايته (الرجع البعيد) مدة عشر سنوات لتظهر بحلتها الجميلة التي أصر فيها على إبراز النزعة والحياة البغدادية المدنية دون أي اتجاه آخر، كان رهانه العالمي على هويته فشخصياته كلها من الواقع العراقي المعاصر الرافض لكل قيد وربما يرجع التأني في النشر والاهتمام بالمنتج وإظهاره في الوقت المناسب الى تأثير العمل القضائي على شخصية التكرلي فلم تذهب السنوات التي قضاها التكرلي قاضياً دون ترجمتها أدبيا فامتزجتا معا ليقدما لنا تجربة حيه فاعلة، فقد سمح له العمل القضائي بأن يتنقّل بين أمكنة شتى ويقترب من تجارب عديدة ومشكلات إنسانيّة مخفيّة في بيئة متزمتة.
وهكذا تكشفت خفايا المجتمع امام بصره وبصيرته، لذلك طرح قضايا خلافية تحتاج إلى حكم قانوني في حينه مثل: زنى بالمحارم، جرائم القتل الغامضة، جرائم الشرف وأعاد إنتاج خلاصتها على الورق.
يقول الكاتب المصري ادوارد الخراط أنني لا أُطيق أن أتحمل في صمت جمال العالم وأهواله.. فلابد أن أقول.. لأنني أريد أيضا أن تظل العدالة حلماً حياً لا يموت وصرخةٍ لا تطفئها قبضة القهر لأنني أتمنى أن يكون في كلمة من تلك التي أكتب أو في مجمل ما أكتب شيء يدفع ولو قارئاً واحداً أن يرفع رأسه وأن يحس معي أن العالم – في النهاية – ليس أرض الخراب واللا معنى. بذات الرؤية كان إحساس التكرلي بقيمة الحياة شغله الشاغل وقد وجد نفسه بحاجة الى ولوج المجتمع من بوابة أخرى فالعمل القضائي الذي منح التكرلي الاطلاع عن كثب على مشاكل المجتمع والأسرة فقد عمل قاضيا للأحوال الشخصية وشخص عبر روايته (خاتم الرمل) طبيعة المشاكل الزوجية في المجتمع العراقي بل ان رؤيته الادبية كانت انعكاساً لتجربته القضائية فالرواية عنده اداة تعريفية ورحلة من التجريد إلى الملموس ووسيلة لفهم أنفسنا وفهم علاقتنا بالآخر.
ربما دفع القدر كما يقول القاص (عبد الامير المجر) فؤاد التكرلي ابن العائلة (القانونية) المعروفة ليركب قطار الحياة بقوة إرادة الأهل أو بالتماهي مع (مجدهم) الاجتماعي ليصل الى محطة (القاضي) التي وسمت اسمه قبل ان يصارع قدره ليكتب له اسماً جديداً ويعكس صورة جديدة لإنسان أديب اسمه (فؤاد التكرلي) لكنه بالمحصلة شكل تاريخا فقد استطاع أن يحصد أوقات نجاحه بحرية وبلا صخب روايات قليلة، إلا أن مساحة تأثيرها كانت أكبر، أنها نموذج للروايات الكلاسيكية الحديثة ببنائها التي أهلت فؤاد التكرلي ليكون رائدا من رواد القصة والرواية العراقية وأسهم في تطور الثقافة العربية وأثرى المكتبة العربية بالكثير من قصصه الأدبية، لقد كان نقده الاجتماعي للسلطة الحاكمة حاضرا لكنه نقد العارف الموضوعي والذي اعتبر نقده طريقة خاصة في التفرد والعرض القصصي والروائي. لقد كانت مهمة التكرلي القاضي والروائي الرائد بعد ذلك مع الإنسان وبمواقعه المتعددة وحين وجد نفسه بحاجة الى ان يكون في خضم الواقع الاجتماعي معبرا عنه ومشخصا لتداعياته ومحاولا نقل كل ذلك من الراهن واليومي الى الثقافي والفكري اتسع افقه فكان مفصلا وحدثاً ثقافيا في تاريخ القصة والرواية العراقية.