اخبار العراق الان

عن العدالة والاستبداد في واقعنا العربي

عن العدالة والاستبداد في واقعنا العربي
عن العدالة والاستبداد في واقعنا العربي

2019-08-29 00:00:00 - المصدر: الترا عراق


يغدو هذا السؤال محيرًا ومؤلمًا في ذات الوقت بالنسبة للفرد العربي وهو: هل حقًا أن المواطن الغربي يمثل خلاصة الوعي البشري مقارنة بالفرد العربي؟! رغم كمية المد الخرافي في هذا السؤال، لكنه يمثل واقعًا شديد الالتصاق بذهنية الفرد العربي، لأنه يصوم ويفطر على مائدة الاستبداد، وهذه الأخيرة المنبع الأولي لكل أشكال تحقير الذات، ما يجعل هذه الأخيرة تقلب صيغ التساؤلات الإشكالية المهمة وتستبدلها بأسئلة هامشية هروبًا من الواقع البائس، أو كما يقول جورج طرابيشي "تعكس تصميمًا نفسيًا سالبًا أكثر مما تعكس موقفًا معرفيًا، والتي تسعى إلى تظهير نفسها بأي ثمن ولو على حساب التماسك المنطقي"، إنها تحيل الأسئلة إلى تعنيف قاسٍ للذات والتشكيك بقيمتها الإنسانية التي تبدو متشظية في زمن الاستبداد السياسي العربي.

يصوم الفرد العربي ويفطر على مائدة الاستبداد، وهذه الأخيرة المنبع الأولي لكل أشكال تحقير الذات

إن أولى درجات الانكسار وتفشي العدمية، هو الغياب شبه التام للعدالة بشقيها السياسي والاجتماعي؛ فإذا كانت العدالة تأخذ نصيبًا واسعًا من التداول في الديمقراطيات الغربية، ففي منطقتنا العربية نفتقر للعدالة  بشقيها السياسي والاجتماعي. ولنا أن نفهم أهمية السؤال أعلاه رغم خرافيته!.

اقرأ/ي أيضًا: كيف يحدث الطغيان؟ (1 ـ 2) 

 فما هو البديل في ظل غياب العدالة؟ لا نحتاج إلى عبقرية فذة للإجابة عن هذا السؤال: سيكون الفضاء السياسي العربي مفقسًا لأنظمة مستبدة متحجرة. لا أعني هنا استبداد محمد علي وماو تسي تونغ، وإنما أعني الأنظمة العربية الحالية. وبهذه المقارنة لا نعني مغازلة الذاكرة الجمعية للتصفيق للاستبداد على طريقة "ليس في الإمكان أفضل مما كان" ونحيل المستقبل إلى غيب مطلق، وبهذا التبرير نصادق على "شرعية" المستبد المتحجر. غير أن حقائق التاريخ تقول لنا، إن ماو مهندس الدولة الصينية، ومحمد علي مهندس الدولة المصرية. أما مستبدونا فكانوا حقًا "مهندسين" للقتل الجماعي وتخريب الأوطان.

ليس هذا فحسب، بل تجد هذه الأنظمة حظوة وترحيبًا من قبل الاستبداد العالمي، وهي تتفاضل بالدرجات لديه؛ فالسيسي نسخة استبدادية مُستلطفة للمهيمن الغربي، بينما بشار الأسد في قاموس الاستبداد الرجيم. ويسقط صدام حسين من قبل الاحتلال الأمريكي، لأنه مستبد ويحوز أسلحة الدمار الشامل، فيتحطم البلد وبناه التحتية ويغدو أثرًا بعد عين، بينما كان في حرب الثماني سنوات مغفورًا له.

إن الأنظمة العربية التي نددت باجتياح نظام صدام حسين للكويت، هي ذاتها من وقفت مع ابن سلمان وشيخ الأمارات لتحطيم اليمن بسلاح الأنظمة الغربية الديمقراطية التي تكره الاستبداد. إنها معركة العرب ضد العرب لصالح إسرائيل!

على أي حال، إن وجود مثل هذه الأنظمة الكريهة مقدمة غنية وخصبة لتفشي العدمية بين أوساط الشباب، ولكي نساهم في تبيان أسس العدالة، رغم كل التحديات، فعلى الأقل تكون خارطة طريق لمن يتلمس الديمقراطية العربية وهي تكافح للخروج من نفق الاستبداد المظلم. 

الأنظمة العربية التي نددت باجتياح نظام صدام حسين للكويت، هي ذاتها من وقفت مع ابن سلمان وشيخ الأمارات لتحطيم اليمن بسلاح الأنظمة الغربية الديمقراطية

وبالاعتماد على بعض ممّا جاء في كتاب الفيلسوف الأمريكي جون رولز "العدالة كإنصاف" نقدم بعض النقاط المهمة، وباختصار، وهي كما يلي:

أولًا، لا يمكن لإرساء قيم العدالة في ظل غياب البنية الأساسية لها، ونعني بالبنية الأساسية: مجموعة المؤسسات الأولية التشريعية والاقتصادية ودستور البلاد والمؤسسة التعليمية. وبالطبع أن غياب عنصر من عناصر هذه البنية سيؤدي إلى نقص فادح في تصور العدالة، وهذا بالضبط ما تعاني منه منطقتنا العربية.

ثانيًا، عدالة اقتصادية تنظم عملية التوزيع على الشرائح الأقل حظًا في المجتمع، ذلك إن نظرة الناس إلى أنفسهم على أنهم متساوون يبعث فيهم حس العدالة. وفي مجتمع تسود فيه طبقة الأمراء والأثرياء على حساب الأغلبية المحرومة لهو مجتمع سهل الاختراق من الخارج ولا يحتاج إلى أجندات عبقرية، ذلك أن أمراض هذا المجتمع هي الممر الرئيسي لكل مؤامرة تحدث!. وهذا ما حصل في سوريا حينما رفع عن الناس الدعم الذي كانوا يتلقوه في زمن حافظ أسد، لينحصر في جيوب الأقلية من الأثرياء.

ثالثًا، إن تداول المواطنين لقضاياهم السياسية والاقتصادية لا يكون بالاعتماد على قيمهم الدينية، فبالتالي سيُحكَم على هذا المشروع بالفشل حتمًا. لأنهم يدركون أنه متعسر عليهم الوصول إلى إتفاق شامل بالاعتماد على مذاهبهم الخاصة في تأسيس العدالة. وهذا النقطة تبرز بجلاء في المشهد السياسي العراقي واللبناني؛ إنها "حرب الكل ضد الكل"، إذ المشهد السياسي عبارة عن غيتوات طائفية مُقَسمَة في السلطات الثلاث، بحجة "مراعات المكونات". ويصعب كذلك الاتفاق في هذين البلدين على مصالح البلد الحيوية، فللمذاهب غايات تتعدى قيم العدالة بكثير. الأمة التي تختلف على أعيادها الدينية، كيف لها أن تبني المؤسسات؟

رابعًا، في ظل هذا التنوع البشري الديني والطائفي والعرقي في منطقتنا العربية، تغدو الديمقراطية هي الجواب الأبلغ للتعبير عن هذا التنوع البشري. ضمن هذا التعايش سنفتح الأفق السياسي على ممكنات هائلة للغاية، لا توفرها عادةً الأنظمة الاستبدادية المتحجرة. ومن هذه الإمكانيات، هو التعايش، بعبارة أخرى، إن التعددية والديمقراطية تجعل التعايش ممكنًا، ولا نضطر في حينها التدرَع بهوياتنا الفرعية للحفاظ على كرامتنا البشرية.

إن التعددية والديمقراطية تجعل التعايش ممكنًا، ولا نضطر في حينها للتدرّع بهوياتنا الفرعية للحفاظ على كرامتنا البشرية

من وجهة نظر بسيطة، إن الانشغال بالإجابة عن هذه النقاط ومناقشتها، أفضل من الاعتماد على الاسئلة الهامشية التي لا تجيب كثيرًا على الواقع بقدر ما تستبعده. فهذه الثقافة، وأسباب أخرى، كبلتنا بسلسلة من الهزائم لا زلنا ندفع ثمنها حتى هذه اللحظة. إن الفوارق الواضحة بين العرب وغيرهم من الأمم هي فوارق مؤسسية، وليست فوارق بيولوجية!، لذا فلنحذر من تصوراتنا الزائفة تجاه ذواتنا.

اقرأ/ي أيضًا: 

كيف يحدث الطغيان؟ (2-2)

هل يمكن بناء دولة في ظل ذاكرة تكره الديمقراطية؟