ليس لدى عادل عبد المهدي من يفاوضه ... هل تلقى رسالة المحتجين؟
يذكرنّي عادل عبد المهدي برواية ماركيز (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه)، فهو مازال يرسل رسائل إلى الشعب حاله حال من يضع يده في الماء البارد والمجتمع كله يمور ويثور على حكومته، التي امتلأت بمتورطين من قتلة المحتجين. يضيفون لسجلاتهم مئات الضحايا الجدد من العراقيين الشباب المنتفضين بأعداد هائلة بلغوا الآلاف ممن يغطون شوارع العاصمة والمحافظات ويكرون كل يوم على مقار الحكومة في قلب بغداد الكرخ.
ويخططون كل لحظة لاقتحام أسوار بنايات العاصمة المحكومة بالحديد والنار على مرأى من مغادرات السادة المسؤولين وهم يتأبطون حقائبهم مغادرين العراق، وتاركين جيوش السلطة في مواجهة غضب الشارع المنتفض الذي يحاول اختراق الحواجز الأمنية والنفاذ إلى مكامن السلطة التي قرر إسقاطها بأي ثمن.
لكن عبد المهدي ببن الفينة والفينة يظهر بمنطق الحكيم الذي يتحدث للآخرين لإقناعهم بألا سلطة بعد حكومته رغم اعترافه بأن "التظاهرات محقة ومشروعة وهي ضرورة حتمية وحصاد لستة عشر عاماً من الأخطاء والخطايا"، ويريد من الجمهور الثائر الذي يشيّع كل يوم العشرات، ألا يعرقلوا دورة انعقاد معرض بغداد الدولي الذي انفضت عنه الشركات، وأودت بسمعة الاقتصاد العراقي كثيراً، وأن الدراسة التي توقفت بدعوى من نقابة المعلمين أكبر نقابات العراق تاريخيا يصفه بأنه إجراء غير صحيح، ويتناقض مع حق التعليم، دون أن يقول لهم إن مستوى التعليم في العراق انخفض إلى أدنى مستوياته، وملايين الأطفال غير مهتمين بالتعليم، لأن ذويهم غير قادرين على إعالتهم، وآلاف المدارس مازالت طينية في بلد تصل موارده إلى 150 مليار دولار، ومئات المدارس هّدمت بدعوى ترميمها وقام مقاولون مراقبون بسرقة حديدها، وكلها ملفات مفتوحة أمام لجان النزاهة العراقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن عبد المهدي يدعو العراقيين المنحدرين من خلفية إقطاعية، يظن أن من يطالبوا بحكومة جديدة وبرلمان جديد عليهم أن يتخلوا عن ذلك لأنه "لا يمكن الذهاب لانتخابات مبكرة دون حلّ البرلمان، وأن تعديل الدستور يمكن أن يغير طبيعة النظام السياسي".
ومازال يعتقد أن لغة سوف وسنقوم تعالج وضعا عراقيا متفجرا وتقلصات اجتماعية هائلة في محافظات أغلقت أبواب دوائرها وقالت لموظفيها اجلسوا في بيوتكم لحين ميسرة.
ويلوح رئيس الوزراء بأنه مازال يلتزم بمعايير عدم قمع المتظاهرين وأن (قواتنا حتى الآن في وضع دفاعي، ولا تستخدم الرصاص)، وكأن القتلى الـ(320)، مجرد صرعى الزلزال الذي يضرب بغداد ويشل حركتها حالياً؟
الحقيقة الماثلة أمامنا، حين لا تعرف السلطة مطالب شعبها الحقيقية، وتظن أن خدمات مثل السكن اللائق وتوفير الماء والمجاري والكهرباء والطرق الحديثة، والوظائف العامة بشروط الكفاءة لا الولاءات الحزبية، والضمان الصحي والتربية والتعليم في مدارس وجامعات لائقة، كلها غير مهمة وليس في أجنداتها الملحة وأولوياتها الأكثر أهمية، فان تلك السلطة لابد أن تصل إلى طريق المواجهة مع الشعب ويحل في أروقتها الشغب،
والذي يزيد الطين بلة خطاب رئيس الحكومة الذي أكد أنه قوة واحدة تتعامل مع المتظاهرين تعرف كيف تستخدم القوة الناعمة التي تحترم تظاهرهم الذي يكفله الدستور سمّاها (قوة حفظ النظام)، لكن سرعان ما برز مئات الملثمين الذين استخدموا القنص وضرب قنابل دخانية مدببة محرمة تخرق جماجم المتظاهرين ليس بهدف تفريقهم بل قتلهم بمشاهد، لم يسبق لها مثيل أدانت استخدامها المنظمات الدولية ولجنة حقوق الإنسان العراقية ودعت لتحريمها، لكن قوات ما يسمى مكافحة الشغب "سوات"، التابعة لوزارة الداخلية، أصرت على تفريق المتظاهرين بأقصى أنواع القمع، مع تعاطف من البعض من العراقيين العرب الأقحاح مع المتظاهرين السلميين، وامتناع الجيش من الزج بقواته لضربهم، وهو ما خفف من أعداد الضحايا.
من ناحية أخرى وبضغط السلطة التنفيذية ومحركيها فإن مجلس القضاء قد دخل على خط الأزمة بقيام مجلس القضاء الأعلى بتعطيل العمل في بعض مواد الدستور العراقي حيث منح المجلس السلطة التنفيذية صلاحيات استخدام الأحكام العرفية وعدت من قانونيين التفافا على الفقرة التاسعة من المادة 61 من الدستور العراقي، التي كيفت قانونا بطريقة غير موفقة، حيث يؤكد قانونيون أن القضاء خوّل السلطات الأمنية باعتقال المشاركين في التظاهرات ممن وصفتهن بـ"المشاركين بقطع الطرق، وتعطيل الدوام الرسمي" دون أوامر قبض قضائية، في وقت عدت عمليات الاعتصام التي يقرها الدستور بأنها "جرائم إرهابية"، واستند المشرع إلى نص قانوني هو المادة "102" من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تجيز القبض على متهمين ارتكبوا جريمة مشهودة بدون أمر من السلطات القضائية، وهذه القرارات وضعت القضاء إزاء إحراج مكشوف لأنها لم تصدر أوامر قبض على من قتل المئات من المدنيين العزل من المتظاهرين، دون وازع وعلى مرأى الكاميرات.
ويلقي الناشطون اللوم الشديد على عدم استقلالية القضاء وخضوعه للسلطة التنفيذية كما يؤكد ذلك العديد من القانونيين الذين قاموا بتسجيل الاعتراضات، على تخلي السلطة القضائية عن استقلالها كما يشاع.
إن ضمان استمرار الاحتجاجات العراقية ونجاح مطالبها تكمن وفق الناشطين الذين سمعنا أصواتهم في استمرار سلميتها، وكما قال لي أحدهم (علينا سلوك طريق غاندي في مواجهة الاحتلال)، أمام سلطة غاشمة مدعومة إيرانيا، حتى إبطال العملية السياسية والشروع بخيار مستقل لتأسيسها من جديد.
في حين يرى المحتجون من داخل ساحة التحرير أن على الحكومة أن تنفّذ المطالب التي يريدها الشعب، وأهمها محاكمة كل الفاسدين من سراق الشعب، واللجوء إلى حكومة انتقالية تشمل وجوها من غير الفاسدين، لحين استكمال المطالب الأخرى وأهمها محاكمة قتلة المتظاهرين وتقديم كشوفات بأسمائهم.
السلطة الحالية تظن أن المتظاهرين يبحثون عن مكاسب مادية أو مناصب سياسية في حين أن مطالب الناس واضحة ومعلنة تتلخص بأنها قضية وطن يجب استرداده لمحيطه الطبيعي، بعيدا عن الحلم الإيراني الذي حوّل العراق إلى محمية لنفوذه تحكمه ميليشياتها، وهذه بالتأكيد مهمة كبيرة ومحاولة فيها تضحيات جسيمة أعلن الشعب بأنه أهلٌ لها.