هدير انتفاضة العراق يتعاظم
عندما قررت حكومة عادل عبد المهدي، تكليف بعض القيادات العسكرية بأن يكونوا أعضاءً في خلايا الأزمة، لتتولى القيادة والسيطرة على الأجهزة الأمنية والعسكرية كافة في المحافظات المنتفضة، من أجل مساعدة المحافظين في أداء عملهم، "وفرض القانون وحماية المؤسسات والمواطنين"، إلاّ أنّ نتائجها الميدانية كانت دموية مرعبة. ففي يوم واحد، سقط عشرات الضحايا ومئات الجرحى، منهم بمجزرتين في محافظتَيْ ذي قار والنجف، وأُجبر عبد المهدي على تقديم استقالته، تحت ذريعة استجابته للمرجعية الدينية، ومن دون الإشارة إلى الأحداث التي جرت والجرائم التي ارتُكبت.
وعقب إعلان عبد المهدي استقالته، سارع عددٌ كبيرٌ من المسؤولين المدنيين والعسكريين إلى تقديم استقالاتهم، منهم قائد شرطة ذي قار محمد زيدان القريشي ومدير مكتب رئيس مجلس الوزراء محمد الهاشم وأمين عام مجلس الوزراء حميد الغزي ومحافظ ذي قار عادل الدخيلي ونائب محافظ النجف طلال بلال، وغيرهم.
ولقد تعاظم هدير الانتفاضة بتهديد العشائر في المحافظات الوسطى والجنوبية بحمل السلاح في مواجهة قوات الأمن لحماية المتظاهرين. ومنذ البدء، كان موقف العشائر مؤيداً للمتظاهرين وللاحتجاجات الشعبية، ورافضاً الإجراءات الحكومية السلبية.
حرق القنصلية الإيرانية في النجف وكربلاء
وسط اللهيب المتصاعد في نفوس الشباب المنتفضين، وما تقوم به إيران وأذرعها من قتل واعتقال واختطاف بحق المحتجين، أحرق متظاهرون القنصلية الإيرانية في محافظة النجف ليلة الأربعاء الموافق 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. وقبلها بنحو ثلاثة أسابيع، حُرقت القنصلية الإيرانية في محافظة كربلاء. وتُعدّ هاتان المحافظتان من الأماكن المقدسة بالنسبة إلى الشيعة، إذ في النجف، ضريح الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وفي كربلاء ضريح الإمام الحسين بن علي والعباس وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين. وإنّ اقتحام قنصلية إيران في النجف مرتين خلال أربعة أيام وإضرام النيران فيها، يعني أن الشباب العراقي قد برهن على ما يلي:
أولاً: مستوى الوعي والإدراك الذي وصل إليه الجيل الصاعد تجاه المخططات الإيرانية في تدمير العراق.
ثانياً: تحررهم من القيود الطائفية وأفكار الأحزاب الدينية السياسية وهيمنة العمامة السياسية.
ثالثاً: قدرتهم السلمية الفذة على التصدي للمجموعات المسلحة، المرتبطة بالنظام الإيراني.
رابعاً: تحطيمهم للمشروع الإيراني المرتكز على تقديم الهوية المذهبية وتأخير الهوية الوطنية، الهادف إلى تفتيت البلاد وتمزيق وحدة نسيجها الاجتماعي.
خامساً: صلابتهم وتماسكهم بتقديم التضحيات الغالية بالأنفس والأرواح بغية استعادة وطنهم من المخالب الإيرانية.
سادساً: تحركهم الوطني الصميم، الذي عجّل وصعّد من الحراك الشعبي والاجتماعي والعشائري.
إنّ انسحاب القوة الأمنية العراقية المكلفة بحماية القنصلية الإيرانية برفقة الهيئة الدبلوماسية، جاء بعد 4 ساعات من المواجهات مع المتظاهرين، الذين أنزلوا العلم الإيراني من مبنى القنصلية في النجف، ورفعوا بدلاً عنه العلم العراقي. ولقد أدت تلك المواجهات إلى إصابة 17 متظاهراً، وبسبب ذلك، ارتكبت سرايا عاشوراء، التابعة لعمار الحكيم الموالي لإيران مجزرة، راح ضحيتها 20 شاباً وعشرات من المصابين.
يرى البعض أن النظام الإيراني يقف وراء هذا المخطط، إذ يهدف من هذه الواقعة إلى تهيئة الأجواء لتنفيذ عمل أكثر خطورة، قد يفضي إلى إنهاء التظاهرات والاحتجاجات، خصوصاً أن الأصوات الغاضبة تتعالى وإلحاح التساؤلات تتوالى عن عدم ظهور المرجع الأعلى علي السيستاني للتعليق على سيل الدماء وزهق الأرواح، واكتفائه فقط بخطبة الجمعة على أيدي ممثلَيْ المرجعية الدينية العليا عبد المهدي الكربلائي وأحمد الصافي.
كما أن رؤوس الحشد الطائفي المدعومين من إيران، أمثال أبو مهدي المهندس وهادي العامري وقيس الخزعلي وآخرين غيرهم، هددوا المتظاهرين بالويل والثبور إذا وصلوا إلى بيت السيستاني، إذ هناك قناعة في الشارع العراقي بأن السيستاني ميت، وفيه مَنْ يستغل مرجعيته للتغطية عما يجري من جرائم ومجازر، ومثلما حُرقت القنصليتان الإيرانيتان، سيُحرق أو يُفجّر بيت السيستاني، وسيُتّهم المتظاهرون، بخاصة أن إيران كانت وراء تفجير مرقدَيْ الإمامَيْن علي الهادي وحسن العسكري في سامراء بتاريخ 22 فبراير (شباط) 2006، لإشعال فتنة طائفية، أدّت إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا وتشريد مئات الألوف.
أقول إن النظام الإيراني لا يقامر بأي خطورة في هذه المرحلة بالذات، فأوضاعه الداخلية حادة ومتأججة، وقد تندلع ضده احتجاجات شعبية أخرى وفجائية أيضاً. كما أن المشروع الإيراني في البلدان العربية يتعرض لانكسارات تراجعية، فإذا أرادت إيران أن تنفّذ عملاً خطيراً داخل العراق، تحسبه يقضي أو يساعد في القضاء على الاحتجاجات الشعبية، فربما يأتي رد الفعل فوق التوقعات وخارج الحسابات الإيرانية، خصوصاً أن خطة قاسم سليماني القمعية باءت بالفشل تجاه شباب العراق الثائر.
والأمر ذاته يمتد إلى ما يجري في لبنان منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول)، من ثبات وتواصل شعبي لكل البلاد. وكذلك الدور الناجح الذي تلعبه السعودية في اليمن، ومنها "اتفاقية الرياض"، والمتغيرات المقبلة في سوريا. فكل ذلك لا يشجع طهران على المجازفة بارتكاب عمل خطير، لا في العراق ولا في المنطقة العربية.
إن لم نُشر إلى أن إيران إذا أقدمت على تنفيذ عمل إجرامي خطير في النجف، تظنه يسعفها عمّا تمر به من مرحلة حرجة، فإن الشباب الثائر، كما ذكرنا آنفاً، أثبت وعيه وإدراكه تجاه مشروعها الطائفي في العراق وفي البلدان العربية، إذ لا تنطلي عليه ألاعيب الطبقة الدينية الحاكمة في إيران.
لذلك، فإن إحراق القنصليتَيْن في النجف وكربلاء وتهديد العشائر بحمل السلاح، خصوصاً عشائر النجف وذي قار التي بدأت بحمل سلاحها ضد قتلة أبنائها المتظاهرين، بالقدر الذي يظهر تعاظم هدير الانتفاضة الشعبية، فإنه يعكس مدى الغضب والثوران العراقي ضد الوجود الإيراني، الذي تجاوز من الهيمنة على الدولة ومؤسساتها وإفسادها، إلى القتل العلني للشباب المنتفضين. إنّ استعادة الوطن المسلوب والمنهوب وبناء الدولة بالشكل الصحيح، يُعدُّ من أهم أهداف العراقيين المنتفضين. وإنّ غداً لناظره قريب.