العراق... من يقرأ المشهد بدقة؟
مشهد اقتحام السفارة الأميركية في بغداد يُعيد إلى الأذهان الواقعة ذاتها بطهران عام 1979، لكن الاختلاف بين المشهدين مكان الاقتحام بين طهران ثورة الملالي، وعراق الأحزاب الدينية التي اقتحمتها بدعوى الثأر لضحايا الحشد الشعبي، الذين سقطوا ليلة التاسع والعشرين من يناير (كانون الثاني) الماضي بُعيد الضربة الأميركية لمواقع حزب الله العراقي بين الحدود العراقية السورية.
أكبر سفارة في العالم
لكن الإشكالية في الاقتحام، الذي ساحته بغداد، أنها وقعت من قِبل فصائل مسلحة تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة المستقيل عادل عبد المهدي، الذي عبّر عن عجزه التام وهو ينادي بالانسحاب من محيط السفارة بُعيد اقتحامها بساعات لقوات لم تسمعه، ولم تعير نداءاته أي أهمية، وهي تحرق بوابة السفارة الأهم في العالم، التي تقع على أكبر مساحة لسفارة أميركية في العالم، إذ تبلغ مساحتها أكبر عشر مرات من أي سفارة أميركية في أي دولة، وتضم عشرات آلاف الموظفين والمتعاقدين الذين سحبوا إلى خارج بغداد وارتحلوا إلى أربيل، قبيل الهجوم على السفارة منذ محاولة ضربها بصواريخ الكاتيوشا خلال الشهرين الماضيين.
قصف الميليشيات رد الفعل
هذا الحدث لم يكن مفاجئا بعد سلسلة التهديدات التي أطلقتها قيادات الحشد الشعبي طيلة الأيام الماضية كردود أفعال على قصف مواقع "حزب الله العراق" الموزعة بين سوريا والعراق، التي تضم عناصر من الحشد الذي ينتمي جلّهم لأبناء المناطق الجنوبية العراقية من الأصول الفقيرة. الجدل الذي أثاره مقتل بعضهم على أكثر من مستوى للحديث عنه، في أبعاد وحقائق معلنة وأخرى خبيئة، في مقدمتها أن وزير الدفاع الأميركي أبلغ رئيس الحكومة المستقيل عادل عبد المهدي رسميا بأنه سيتم مهاجمة مقار كتائب حزب الله قبل الهجوم بساعات، غير أن رئيس الحكومة عبد المهدي المعروف بتردده وبطئه، على حد وصف خصومه العراقيين، لم يتمكن من إنذار القطاعات العسكرية، حسب قوله، وهذا يفسر الخسائر البشرية التي لم تكن الولايات المتحدة تتوقعها. حيث تكبّد قتلى من متطوعي الحشد، بهذا الإنذار بنية ضرب مواقعهم وعُدتهم وتجهيزاتهم من الأسلحة وفق تحليلات المراقبين العراقيين.
بعد خراب البصرة
أما لماذا لم يبلغ أو بلّغ الرئيس عبد المهدي من دون جدوى؟، فإن في هذا الكثير من اللغط عن دوافع عدم نقل تحذيراته التي وصلت متأخرة. وليتها لم تصل بعد خراب البصرة كما يُرجّح العراقيون عند تهكمهم على مواقف كهذه تتكرر في التاريخ العراقي.
وهذا يكشف قطعاً أن القرار السياسي والعسكري آل بيد الأحزاب والتيارات الإسلامية فهي الحاكمة التي تصوغ أجندتها الداخلية والخارجية إيران علناً، ودعت آلاف المتظاهرين من اقتحام المنطقة الخضراء في قلب بغداد، والمحصنة أثناء تشييع جثامين ضحايا الحشد الشعبي، صباح اليوم، وظهرت قياداتها علنا ممثلة في فالح الفياض، رئيس الحشد، ومساعده الميداني أبو مهدي المهندس، وزعيم بدر هادي العامري، وزعيم العصائب قيس الخزعلي، الذين قادوا مسيرة التظاهرات ضد السفارة الأميركية ووصفوها بـ"وكر الشر"، وهذا التحالف العسكري الذي يؤطره القانون حيث تتبع هذه الفصائل القيادة العسكرية المرتبطة برئاسة الوزراء التي تدفع الدولة من ميزانيتها رواتب وتجهيز عدتها العسكرية ومعسكراتها.
دولة داخل دولة
هذه الفصائل باتت دولة داخل الدولة، لها أجنحة عسكرية ومنضوية تحت فكر وأيديولوجية، ترتبط بعقيدة تستلم أوامرها من مُوجِّه ديني معلن أو مستتر، ولها وظيفة محددة هي خدمة مصالح إيران، ولا تأخذ أوامرها ومسوغات وجودها التنظيمية والعقائدية من الدولة العراقية، بل هي في حال مناكف لها ومشاغل لدورها المعطل، منذ 2003 الذي ازداد بعيد الانسحاب الأميركي عام 2011، وتحويل علاقة الرعاية الأميركية إلى اتفاق استراتيجي للتعاون.
وباقتحام السفارة اليوم، فإن كل شيء اتضح أكثر بأن الميليشيات المتنمرة تسعى لدخول مرحلة جديدة في فرض أجندتها علنا، بكونها حرساً ثورياً جديداً في العراق يقطع الطريق على كل المطالبين بنظام مدني تأتي به المحاصصة السياسية الحالية، بل يتعدى ذلك لمحاصرة سفارات الدول الصديقة للولايات المتحدة أيضاً كما يصرح من يطلقون على قوات الحشد بـ"الشعب الحشدي"، دون القول قوات الحرس الثوري المتمثلة فيه، أو أنها التفاف على عدم الاستعداد للرد العسكري، لأن إيران ليست على جاهزية كافية للدخول في مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة. وما حرق السفارة واقتحامها إلا رسائل سياسية بأدوات عسكرية، ورداً على احتفاء ترمب بحرق القنصليات الإيرانية في العراق، كما يقول أحد المراقبين في بغداد.
العراقيون باتوا رهينة
هذه المحاولة التي يقوم بها أعوان إيران ترهن المجتمع العراقي وقواه المدنية في مواجهة مع الغرب قد تضعه في الوصاية الدولية، التي قد تُفرض من جديد وفق عقوبات الفصل السابع التي تسلبه الأهلية السياسية ويخشاها الكثير من المراقبين والسياسيين العراقيين، ويرون في اقتحام السفارة الأكبر في العالم عملاً غير مسؤول وغير محسوب النتائج، لا سيما أن الولايات المتحدة صاحبة اليد الطولى بتغيير النظام عام 2003، هي التي فتحت أبواب العراق للقوى الشيعية لمزاولة الحكم، وقدّمت العراق على طبق من ذهب لإيران، ولن ننسى مطالبات الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد عشية انسحاب الولايات المتحدة من العراق بأن تقوم بلاده بما سمّاه بسياسة "ملء الفراغ"، التي رفضها العراقيون والأمريكان معاً. لكن إيران استخدمت حصان طروادة للتسلل داخل العراق والسيطرة عليه عبر ميليشياتها التي تغطت بالحشد الشعبي المنخرط فيه فقراء الشيعة بدافعين: الأول تحرير بلادهم من داعش ووقف جرائمها، والثاني إيجاد فرصة عمل بعد أن امتلأت البلاد بالعاطلين.
المتظاهرون هم الضحية
المتضرر الأكبر من محاولة الميليشيات اقتحام السفارة الأميركية هم المتظاهرون السلميون الذين أمضوا شهرين على اعتصامهم بساحة التحرير في بغداد، والمحافظات الوسطى الجنوبية، الذين يرجحون أن ما يجري هو مسرحية محبكة لإجهاض احتجاجاتهم كما أعلنوا اليوم، بل جعلها حالة ثانوية أمام مشهد غير مبرر بصورة كافية للمنطق الذي تشكله الأحداث التي سبقت اقتحام السفارة. ورغم التضحيات التي تكبّدها المحتجون والخسائر الهائلة بالأرواح، قتلى وجرحى، فإن القوات الحكومية التي حالت دون وصولهم إلى المنطقة الخضراء فتحت أبوابها فجأة لمتظاهري الحشد، بل أوصلوهم إلى أروقة السفارة الأميركية بلا عناء يذكر، كما يؤكد الكثيرون.
العراقيون وكوة الأمل
لعل السنة الجديدة 2020 ينبلج فيها عهد جديد للعراقيين وللمنطقة عموما الذين يرددون دوما "أزمة اشتدي تنفرجي"، على الرغم من تنمر الميليشيات برئيس وزراء استقال نتيجة رفضهم ظل لآخر لحظة في حكمه منقاداً لها وهي التي أتت به، ورفض الشعب المتكرر لخيارات الأحزاب الدينية للمرشحين الذين يشطبون كل يوم على صورهم في ساحة التحرير ويعلنون رفضهم، فإن المجابهة ستكون حاسمة بين الشعب المستميت من أجل التغيير وإرجاع العراق لعمقه الطبيعي، وقوى تدين بالولاء لإيران، وتريد أن تجعل من العراق ظلاً سياسياً منفذا لمشروع "المقاومة"، الذي يحوّل العراق إلى بنك لإنهاك ميزانيته ونهب ثرواته، مع دخول متغير للطرف الأميركي الذي رعى مشروع الحكم في العراق، واكتشف أنه معادٍ له ويحرق سفارته علناً، ويسعى لإحراج رئيس الولايات المتحدة الذي حمّل حكومة بغداد الدفاع عن سفارة بلاده، ولن يُتوقَّع أن يكتفي بهذا الطلب.