الناصرية... مدينة الشعراء تتحدى بروحها خذلان السياسة
كتبت عنها ذات مرة أنها "مدينة الشعراء والغبار المستحيل"، كان ذلك قبل ربع قرن مضى، وظننت أن معالمها ستتغير لينقشع الغبار عنها وتعود "أرض السواد" لـ"كثرة نخيلها وأراضيها المزروعة"، لكنها ظلت بغبارها وتراجعها!
مدينة القبائل العربية
تلك المدينة، التي ولدتني مرتين، مرة كونها مسقط رأسي الذي يحاصرني بالهوية والمكان، وأخرى بالثقافة المشهودة، فهي باعتراف الجميع "مصنع الثورات والأحزاب التي لم ترضخ يوما لطاغية"!
يوماً كنت أجلس في الصف الأول لمقاعدها، وبمعيتي أكثر من مئتي مبدع من مواليدها قدموا من بغداد وباقي المحافظات، حتى سرت نكتة بأن مبنى الإذاعة والتلفزيون في بغداد قد أقفل لأن جلّ موظفيه في زيارة للناصرية.
حين كنت أتولى رئاسة صحيفتها الأولى والأخيرة "الناصرية"، قدّم محافظها القادم من تكريت منتصف التسعينيات اعترافاً مشهودا أمام جمع من الحضور، حيث استهلّ حديثه قائلاً "سألني السيد الرئيس (صدام حسين) بعد عام من تولي إدارة المحافظة، كيف حال أهل الناصرية؟ قلت من دون تفكير: عرب سيدي. وأردف معلقاً: اسمع طاهر، إذا ما تلقى عرب في ذي قار لا تلقى عرب بكل العراق، فعليك أن تعاملهم باحترام عالٍ وتميز".
مرّت مياه كثيرة تحت جسور العراق وفراته الذي يسير وئيداً، وإذا به يجد أهل الناصرية آخر من يقاتل المحتلين عام 2003 دفاعاً عن مدينتهم، رغم خلافهم العميق مع السلطة آنذاك، وما خلفته من جراح بعد الانتفاضة الشعبانية العام 1991، إلا أنهم دافعوا عن مدينتهم بضراوة.
من جديد، تعود الناصرية اليوم لتتصدى للسلطة والأحزاب الحاكمة التي تؤسس لمجتمع الميليشيات وما تلاه من ظواهر، بدأت بإفساد الدولة وتخريب اقتصادها ونهب ثروات البلاد، وتدوير جل منتجات الدولة إلى إدامة عجلة الماكينة الإيرانية المحاصرة بالعقوبات الأميركية، وتحويل أكثر من نصف إيرادات البلد عبر الاستيرادات والعقود الوهمية وسوق بيع العملة والبنوك التي باتت محطات طرفية لتحويل العملة وغسلها في البنوك.
مسيرات مليونية راجلة
تستعد الناصرية الآن لتسيّر أكبر مسيرة مليونية تنطلق منها إلى بغداد، تجوب جنوب البلاد ووسطه وتلتحق بها مليونيات مشابهة من مدن عراقية أخرى بثلاثة خطوط من الاحتجاجات، الأول من البصرة وميسان والناصرية والكوت وصولا لبغداد، والثاني خط السماوة والديوانية وبابل بغداد، والثالث خط النجف كربلاء بغداد، هذه المسيرة "أم المسيرات الراجلة"، خطط لها محتجو الناصرية وتنسيقيات المحافظات وبغداد، للوصول إلى المنطقة الخضراء وسط العاصمة، حيث سيتم فرض إرادة الاحتجاجات على السلطة الحاكمة، ووقف نزف الدم الذي تمارسه السلطة منذ أربعة أشهر، ضحيته أكثر من ستمئة قتيل وأكثر من خمسة وعشرين ألف جريح ونحو ألفين وخمسمئة مفقود ومختطف!
وأعلن محتجو الناصرية أنهم سيطالبون رئيس الجمهورية ومجلس القضاء الأعلى، لغرض اختيار مرشح مستقل لرئاسة الحكومة، يتولى إجراء انتخابات نزيهة وعادلة، على حدّ وصف الحراك الشعبي في الناصرية.
20 يوما مهلة لإعلان الحكومة
ولكي يتعاملوا بمرونة مع السلطة منحوا السلطات مهلة عشرين يوماً قبل أن تصل المسيرات المليونية إلى بغداد، لتنفذ مطالب المحتجين! وإذا ما فشلت الحكومة فستكون المنطقة الخضراء، حيث مقرات الرئاسات الثلاث، تحت حصار الزاحفين الذين أعلنوا أن مسيرتهم سلمية وتحمل عَلَما واحدا فقط، هو العَلَم العراقي، في مسيرة راجلة تحت عنوان "نريد وطنا".
إصرار غير مسبوق في احتجاجات غير مسبوقة في تاريخ العراق، والهدف وقف تمدد الميليشيات ومشروع تصدير الثورة الإيرانية، وفرض استقلال العراق من جديد بإلغاء عهد القتل والعنف وإعادة العراق إلى دوره الطبيعي، بلد مستقل بلا إرادة أجنبية مسيطرة، كما يلخص العديد من المشاركين والمتعاطفين مع الحراك الشعبي، وفي مقدمهم الدكتور علاء الركابي، محرك الاحتجاجات في الناصرية، وهو صيدلاني والده طبيب أطفال يعالج الناس بأجور رمزية، كسب ثقة الناس ومحبتهم بصورة لافتة!
الناصرية جذوة التحدي
أما لماذا تقدمت الناصرية على غيرها في قيادة الحراك الذي تشهده بغداد في ساحة التحرير وباقي المحافظات الوسطى والجنوبية؟ لذلك قصة أخرى تتطلب الخوض في تاريخ هذه المدينة وتوابعها من الأقضية والنواحي التي تعد رابع أكبر محافظات العراق في عدد السكان بنحو مليوني نسمة، تسبقها نينوى والبصرة وبغداد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه المنطقة من العراق تقطنها قبائل عربية شديدة المراس قدمت من الجزيرة العربية وظلت تأبى الخضوع لغيرها من الأقوام الغازية، فالدولة العثمانية مثلاً لم تفلح في إخضاع قبائل "المنتفق" العربية لسلطتها، واضطرت إلى التسليم بوجود إمارتها الممتدة من البصرة جنوباً حتى الكوفة شمالاً، وكان الحاكمون للعراق الحديث يحسبون لها ألف حساب في التعامل مع سكانها، وعلى الدوام يأتي منها رؤساء الحكومات والقيادات، من أول رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون مطلع عشرينيات القرن الماضي، كما كان لهم حصة خمسة مقاعد قيادية من أصل ثمانية عشر في عهد حكم الرئيس صدام حسين حتى مجيء عادل عبد المهدي آخر رئيس وزراء من الناصرية، والذي ثارت عليه محافظته وأجبرته على الاستقالة، بعد أن رأت فيه مسؤولاً خانعاً للميليشيات يمتثل لأوامرها وينخرط في مشروعها الذي يحاكي مشروع الحرس الثوري والسياسة الإيرانية في العراق، وتحويل البلاد من دولة الوطن الشامخ إلى دولة التابع الذي يرضي الماكينة الإيرانية.
اعتراف بفشل حكم عبد المهدي
يقول لنا مستشار عبد المهدي المنشق عليه، الدكتور ليث شبر "كان همنا الوحيد أن نساعده في انتشال العراق من وحل الأحزاب الفاسدة ودجل قادتها، وبعد أربعة شهور تجلت أمامنا حقيقة أن رئيس الحكومة سلمّ الدولة لأشخاص آخرين برضاه، بل ودافع عن ذلك التسليم بشتى الطرق الملتوية، وحينها عرفت أنه سيسقط سريعاً، فالمعادلة التي جاءت به لا تتفق مع ما يفعله ويخطط لعمله، وشيئاً فشيئاً تحول القائد إلى موظف يُؤمر فيطيع، وانكفأت أدواته واجتمع حوله المتملقون والفاسدون فاختار أسوأ الخيارات، ووقع في فخ الأفكار القديمة". ويقصد بأنه عاد "حرسيّاً"، كما في المجلس الإسلامي الأعلى أيام وجوده بإيران.
عبد المهدي خذل أهل الناصرية
ابن الناصرية الذي صار رئيساً للحكومة، يرى العاملون بمعيته أنه تخلى عنهم وصار يتخفى بمن أسماهم "الطرف الثالث"، ليبدّد استبشار أهلها بتوليه رئاسة الحكومة ظناً منهم أنه سيكون منصفاً مع مدينته وسيعمل على إعمارها وإحداث التنمية فيها، لكنهم صدموا وهو يتولى منصب القائد العام للقوات المسلحة أن سلط عليهم أشرس ألوية مكافحة الشغب التي حاولت فك اعتصامات الناصرية بالحديد والنار، وحفزت المدن التي تحيطها أن تفزع لنصرتها وتفك الاشتباك مع قواته، وانسحابها عنوة بعد أن خلفت حصيلة 121 قتيلا و474 جريحا و86 معتقلاً، لغاية لحظة كتابة هذه الكلمات، وحسب معلومات مسربة من لجنة حقوق الإنسان النيابية.
احتجاجات متأصلة
الاحتجاجات لم تكن بمعزل عن ديناميات الصراع المتجذر في العراق عموما، والناصرية على وجه الخصوص، ليس بمحفزات ومثيرات الهيمنة الإيرانية المرفوضة حاليا، بل هي تستمد ديمومتها من مجمل المراحل السياسية التي مرت بها الناصرية، كما يؤكد ذلك الباحث حامد مجيد الشطري، وهو أكاديمي وإعلامي يعمل أستاذاً في جامعة ذي قار.
يقول الشطري لـ"اندبندت عربية" إن "الفترات السياسية التي توالت على العراق والناصرية على وجه الخصوص خلال القرن الماضي أنتجت أنظمة الإقطاع وممثليهم (السراكيل)، إضافة لشيوخ العشائر الذين فرضوا جبروت السلطات التي انعكست في نفوس الناس، وولّدت حالة الرفض لكل أشكال القمع، وساعدت الحركات الاحتجاجية على تواصل الانتفاضات في عموم ذي قار ومركزها الناصرية".
ويذهب الشطري بعيداً بالقول "ساعدت حالة الفقر العام الشائع في مدن الناصرية إلى انخراط أبنائها في الجيش والشرطة برتب صغيرة وأعداد كبيرة ظلوا يشعرون بالانسحاق أمام أوامر تتناقض وتوجهاتهم الخاصة كقرويين، ولدت حالة من التراكمات الانفعالية التي ترافق سلوكهم السياسي، كما أن الألم المستمر دفع الناس إلى الإبداع، فانعكست على حالات تميزهم في الغناء والمسرح والتشكيل لدى شبابهم المتعلم الذي يخرج اليوم محتجاً ليواجه رصاص السلطة".
حالة التحدي التي ترافق سلوك أبناء الناصرية الذين تعرضوا أخيرا لحرق خيم الاعتصامات من ميليشيات مساندة لإيران، ردوا عليها في اليوم التالي ببناء قاعات في قلب المدينة بالطابوق من تبرعات المدنيين بأسرع مما تخيلته السلطة.
تأسيس الأحزاب الرئيسة في العراق
تاريخ مميز ولافت للناصرية في إشاعة الحياة السياسية المنظمة من خلال احتكارها لتأسيس الأحزاب الأولى في العراق، فمنها انطلق الحزب الشيوعي العراقي الذي تأسس نهاية عشرينيات القرن الماضي، وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي أسسه الدكتور فؤاد الركابي أواخر الأربعينيات، والذي كان يدرس في الجامعة الأميركية في بيروت، بالإضافة إلى قيادات الدعوة التي تمثلت بمحمد حسين الشحتور الخزاعي، وطالب الرفاعي، مطلع الخمسينيات تأثرا بحركة الإخوان المسلمين، وخصوصاً بأفكار سيد قطب وكتبه التي يتلقفونها من مصر، كما شهدت المدينة انبثاق حركة القوميين العرب مطلع الستينيات.
بيئة تعكس التعبير عن الرفض الدائم للدكتاتوريات وأجواء سيطرة الإقطاع وطبيعة المنطقة ذات الملاذات المفتوحة للاختباء من أعين السلطات المتعاقبة التي أخطأت كثيرا في نفي أصحاب الأفكار اليسارية إلى الناصرية وتخوم مدن ذي قار، لا سيما المعلمين الذين كانت سلطات بغداد تعمد إلى نفيهم في قصبات ذي قار- الناصرية، ظنا منها بأنها تبعدهم عن تجمعات المدن الكبيرة لكنهم يعودون إليها بمشاريع الأحزاب التي تعمل في أوساطها من خلال الطلبة الدارسين في العاصمة والمدن الكبرى.
تاريخ موغل في الاحتجاجات
ويذهب باحثون كثر إلى إرجاع تاريخ الاحتجاجات في الناصرية إلى أبعد من ذلك في تاريخ بلاد ما بين النهرين، إلى كونها أولى الحضارات الإنسانية في بلاد السومريين الذين أسسوا حضارة طينية كشف رقمها الطيني عن أولى الثورات في حضارة مدينة لكش وأسقطوا حكومتها ونصبوا "أور كاجينا" من عامة الشعب أميرا عليها، فقام بأول الإصلاحات السياسية، وكتب أول دستور عرفه التاريخ الإنساني المكتوب في الألف الثاني قبل الميلاد، كما تثبت المدونات السومرية في المتحف العراقي (طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة- صفحة 355- 357).
الناصرية نشأت وتكونت على أنقاض الحضارات الخمس الأولى للعراق جعلت من هذه المدينة مثار جدل لم ولن يتوقف، لا سيما وأنها إرث السومرين ومنجزاتهم الفكرية والأساطير التي تشربها أبناؤها وغرقوا في قوارب النجاة التي تجعلهم شعراء ومفكرين وثوارا يحتجون اليوم في شوارع العاصمة بغداد، وفي ميدان "الحبوبي"، شاعر ثورة العشرين، يرفضون التبعية ويقارعون السلطة ويمدون الناس بالقصائد والأغاني التي لا تنتهي.