اخبار العراق الان

عاجل

بغداد... حياة تحت نصب الحرية

بغداد... حياة تحت نصب الحرية
بغداد... حياة تحت نصب الحرية

2020-02-02 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية


لم يكن جوّاد سليم يحلم بأن نُصْبه (الحرية) سيلقى كل ذلك الاهتمام الذي لقاه طيلة العهد الجمهوري في العراق لستين سنة مضت، وجالت بالعراق الأيام والأشهر والسنون وطافت به الدنيا، وتهاوت عروش، وسقط الولاة والطغاة الديموقراطيون والديكتاتوريون وبين بين، وشبعت ستة عقود خلت من سماع صراخ وهتاف الملايين من الشعب الذي توّج رحلته تحت لافتة النُّصْب الأشهر في العراق، واختزنت ذاكرة الأجيال من (زاخو) إلى (الفاو) بصورة (نُصْب الحرية) مغزى ومعنى.

ذاكرة النصب الأشهر في بغداد

من مفارقات التاريخ أن النُّصب الأشهر في العراق الذي وضعه جوّاد سليم وصبّه من مادة البرونز الداكن بطلب من الزعيم عبد الكريم قاسم وقتها، وأنفق بقايا عمره حتى ينجزه في قلب بغداد، لم يتمكّن من رؤيته عندما اكتمل! إذ توفّاه الله قبيل افتتاحه في العام 1962، وبعد عام قُتِل الزعيم قاسم الذي أوعز سابقاً ببنائه ليكون رمزاً لـ(ثورة تموز) 1958.

ثم تظاهر تحت النُّصْب الانقلابيون البعثيون، ولم يتمكّنوا من الحكم إلا ثمانية أشهر ليطاحوا في (انقلاب تشرين)، واستخلفهم حكمٌ قوميٌّ يقوده الزعيم عبد السلام عارف الذي فُجِّرت طائرته في حادث غامض، وهو يعود من البصرة إلى بغداد ليخطب تحت نُصْب الحرية، من ثمَّ تولّى أخوه عبد الرحمن الحكم، وما لبثت عينه بالوصول إلى نُصْب الحرية حتى حدث انقلاب عليه العام 1968، ليتولّى الفريق أحمد حسن البكر الزعامة، ويدشن عهده بتعليق من وصفتهم السلطة بالجواسيس اليهود تحت نُصْب الحرية، ليدشّنوا عهداً دموياً آخر، على الرغم من إعلان البعثيين أن ثورتهم بيضاء، ولم يعدم الرئيس عبد الرحمن الذي نُفِي إلى تركيا بطائرة عسكرية، وسُلِّم على رأسه بصورة لافتة، بعد أن طارت رؤوس حكام العهدين الملكي والجمهوري معاً!

نصب الحرية مسرح لتعليق الخصوم

لقد حوّل النظام الجمهوري الرابع تحت زعامة البعثيين ساحة التحرير ونُصْب الحرية إلى مسرح إعدام الخصوم، بدءاً بحفلة إعدام "الجواسيس" وصولاً إلى آخر مشهد في سقوط النظام عام 2003، حين اختار الأميركان موضع نُصْب الجندي المجهول السابق الذي سمّاه نظام الرئيس صدام حسين بساحة الفردوس المُزينة بأكبر تمثال له في بغداد، بدلاً عن تمثال الجندي المجهول الذي أوعز ببنائه الزعيم عبد الكريم قاسم، وهو من تصميم المعماري رفعت الجادرجي، الذي أزاله البعثيون العام 1980، ليبنوا على أثره نُصْباً ضخماً في جانب الكرخ، بعد أن وضعت الحرب العراقية - الإيرانية أوزارها في الـ8 من أغسطس (آب) العام 1988 .

بؤرة الضوء في خمسة كيلومترات

لقد تكرَّست حياة العراقيين في حيز لا يشكّل أكثر من خمسة كيلومترات مربعة حول نُصْب الحرية وساحته الشهيرة التحرير، فيما يعرف بالباب الشرقي نسبة إلى الباب الثالث للدولة العباسية، التي بناها أبو جعفر المنصور، وامتدت على مرّ الزمان، لتكون هذه الساحة بؤرة إعلان التاريخ العراقي المعاصر بكل ما فيه من تداعيات وأحداث جسام، فمنها شهدت أكبر التظاهرات والمسيرات، وفيها انتهت وتفرّقت بعد خطب رنانة  لتؤرّخ لتاريخ مُضَمَّخ بالدم والثورات والانقلابات والمعارك، وكأننا كبرى ساحات مسرح العبث في الشرق الأوسط.

نصب الحرية مركز للاحتجاجات

في ساحة التحرير وتحت نُصْب الحرية، يحتج آلاف العراقيين من مشاربٍ شتّى ليطيحوا نظام الحكم الحالي والعملية السياسية برمتها، التي يصفونها بأنها أكبر خُدعة تعرَّض لها العراق دولة وشعباً، أضاعت إمكاناته، وسخرت لخدمة أهداف إيران، وخلَّفت حالة الخضوع لإرادة غير عراقية بدعوى الديموقراطية التي جاء بها الأميركان على ظهر الدبابة العام 2003، التي نصبت نظاماً ودستوراً معطلاً لمسيرة الشعب العراقي وناهباً لثرواته، التي ساقت هذا الشعب إلى الاحتجاجات التي تندلع بين الحين والحين، وقتل إثرها المئات وخطف الناشطين على يد قوى الميليشيات المسلحة.

حتى جاء الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ولأربعة أشهر متواصلة تتواصل التظاهرات بعنفٍ مفرطٍ، وتتمركز في هذه الساحة، وتحت نُصْبها مئات الخيم لمعتصمين شباب يرفعون شعاراً محرجاً للحكومات التي تعتمد المحاصصة الطائفية بـ(نريد وطن) من قلب التحرير، وامتدت حركة الاحتجاجات العراقية باتجاه بناية المطعم التركي القريب من الساحة المذكورة قبالة المنطقة الخضراء من جهة رصافة بغداد بذات المربع الذهبي الممتد من شارع السعدون نحو شارع الرشيد وجسر السنك، تطوقها حراسات من فصائل مختلفة من القوات والميليشيات المسلحة التي دأبت على تفريقهم دون جدوى، وقتلت من المتظاهرين أكثر من ستمئة متظاهر، وأصابت أكثر من خمسة وعشرين ألف جريح، واختطفت المئات، وكل هذا وفق أرقام منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة التي دانت استخدام العنف المُفرط إزاء متظاهري ساحة التحرير، وجعلت المحافظات العراقية الأخرى تطالب برحيل الحكومة وتقديم الجناة إلى المحاكم الدولية.

المتظاهرون... الآمال والهوية

أمَّا مَنْ هم أولئك المتظاهرون الذين يصروّن على مواجهة بطش السلطة ونيرانها وينشرون خيمهم وسط بغداد غير مبالين الدماء التي سالت غزيرة لإخافتهم؟ يقول الناشط والمفكّر والشاعر حميد قاسم إلى "اندبندت عربية"، "إنهم عراقٌ مصغّرٌ، خلاله بدأت الناس بالتحشّد باندفاع ذاتي، ولم يعتمدوا إلا على أنفسهم بنصب الخيم، وسعى الناس إلى دعمهم من خلال تبرّع مثقفي العاصمة من فنانين وإعلاميين وأكاديميين، وبادر الكثيرون بالاتصال بهم: هل تحتاجون إلى دعم مادي؟ لكننا فضّلنا إيصال مواد عينية للشباب في الخيم، التي انتشرت بأسرع مما تتصوّر السلطة، من أجل إدامة زخم وصمود المحتجين، وقد ظنّت السلطة أن ذلك يستمر أياماً معدودات، وراهنوا على تعب وتخويف المتظاهرين، وقد لمسنا تعاطفاً مُشرفاً من كثيرٍ من عامة العراقيين، حين نعلن عبر وسائل التواصل عن حاجتنا إلى بطانيات أو مواد غذائية، تأتي بكميات لا نتوقعها".

عراق مصغر وخليط بشري متعدد

كل الذين تحدّثنا إليهم يتفقون مع رؤية الأديب حميد قاسم، أن المتظاهرين من مختلف المشارب هم "عراقٌ مصغرٌ"، من مختلف الثقافات والديانات والطوائف، لكنهم يلتقون بإيمانهم بأن التظاهرات لا بد أن تستمر، وأن من ثمراتها إسقاط الحكومة وتغيير الأنظمة التي اعتمدها السياسيون عبر المحاصصة، التي لا تمثّل الشعب، التي جاء بها الفاسدون ممن زوّروا الانتخابات، وأنتجوا مجتمع الميليشيات، كما يؤكد ذلك الناشط باسم الشيخ الذي يترأس صحيفة محلية في بغداد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أمَّا التحديات التي واجهت المتظاهرين في ذلك الحيز الصغير نسبياً، فهي كثيرة لا سيما أن السلطة التي ما كانت تظن أن التظاهرات تستمر طيلة هذه المدة، يقول الناشط حميد قاسم، وهو أحد الفاعلين في الاحتجاجات، "كانت النيات مختلفة بين المتظاهرين كاختلاف وعيهم، فأنت إزاء عراقٍ مصغّرٍ من الوافدين إلى ساحات التظاهر وثقافات متباينة أيضاً. يوجد المتعلمون من الفنانين والأكاديميين والإعلاميين، إلى جانب الأميين ومحدودي الثقافة وأصحاب المهن المتواضعة والعاطلين عن العمل، إضافة إلى توافد آلاف من الناس بدافع التأييد الوقتي والفرجة والتقاط الصور، والذهاب ليلاً، فكانت مهمة المثقفين شرح أهداف التظاهرات وآلياتها، لخلق وعي عام لدى الموجودين في الساحة، والأخطر كان هناك مندسون من أحزاب السلطة الذين ينقلون إليها هُوية الموجودين داخل الاحتجاجات، والأفكار التي يتداولونها، فقد قامت قيادات الميليشيات بنصب سرادق وخيم داخل حشود التظاهرات لتنفيذ عمليات الهجوم على المتظاهرين، كما أكد لي أحد الناشطين من قيادات الحراك الشعبي"، ويؤكد أن هذه المجاميع "ظلت خطرة وتستهدف المحتجين، والحقيقة التي بات يعرفها الجميع أنك حين تدخل ساحات الاعتصام تكون حَذراً، وحين تخرج عليك أن تخرج مع مجموعة حتى تحمي نفسك، فأغلب الخطف يحدث عند الساحات القريبة لساحة التحرير، وعلى امتدادها مثل النصر وأبو نواس والوثبة وساحة الطيران".

لماذا ساحة التحرير؟

لماذا التحرير مركزاً للتظاهرات؟ ولماذا هيّ عراقٌ مصغرٌ؟ هذا ما يمكن أن يخرج به المتابع حركة الاحتجاجات في بُعدها الاجتماعي والبيئي، وهذا لن يأتي من فراغ، بل من خصوصية وتركيبة هذا التجمّع البشري الأهم في قلب العاصمة والساحة الجامعة التجمّع البشري الأوسع للعاصمة العراقية، ولكونها قبالة المنطقة الخضراء جهة الكرخ، وهي بقعة الضوء التي تلتقي فيها وسائل الإعلام، وروح بغداد التي تجمع عامة الناس، وعليها تنهمر مواصلات أكبر مدينة جماهيرية هي الثورة أو مدينة الصدر، ويتفاعل العراقيون جميعاً مع نُصْب الحرية، الذي يعد أيقونة بغداد ومركزها الفكري والروحي منذ بداية ستينيات القرن الماضي.

ما مستقبل التظاهرات؟

سؤالٌ يؤرِّق الجميع، وحتى المعنيون في السلطة التي تورّطت بإطلاق النار على الشباب المُحتج، الذي أسقط حكومة عبد المهدي المُرشحة للمحكمة الدولية بإجماع العراقيين، وشباب الاحتجاجات الذين تحمّلوا وزر هذه المهمة، وهم ينتظرون تغييراً شاملاً في أداء الدولة، وتغيير دستورها وقوانينها التي ركبت على مقاسات رفضت من ساحة التحرير كونها نتاج سياسة المحاصصة الطائفية التي تخدم السياسة الإيرانية ومشروعها (المقاوم) الذي يأخذ العراق كله إلى حروبٍ جديدةٍ، لا تخدم حاجته إلى التنمية، وتعويض ما فاته، فهو لا يزال لم يخلص من تراكمات الحروب والعقوبات التي أنهكته ليبني مستقبله من جديد.

بغداد... حياة تحت نصب الحرية