جسور بغداد... حكايات من أزمان الرخاء والمحن
قَدِمَ الشاعرُ العباسيّ علي بن الجهم إلى بغداد، وكانت في أوج مجدها، قادماً من البادية، حيث يصفه المؤرخون بدوياً جافياً، والخليفة المتوكل في قصره المنيف بين حاشيته. وصفه ابن الجهم قائلاً: (أنت كالكلبِ في حفاظـك للـودِ ... وكالتيسِ في قراع الخطوب || أنت كالدلوِ لا عدمنـاك دلـواً من كبار الدلا كثيـر الذنـوب).
وصف علي بن الجهم للمتوكل
دُهِشَ الحاضرون من تجرؤئه في ذم الخليفة! والحاشية تحرّضه بأن في ذلك مسبةً لك يا أمير المؤمنين! ضحك الخليفة، لأنه عرف قوته ورقة مقصده وخشونة لفظه، وقال: وصف كما رأى في بيئته وعدم مخالطته في ملازمة البادية.
بعدها أسكنه في دار على دجلة، ومنحه بستاناً يهب عليه النسيم، والجسر بقربه، فأقام ستة أشهر، ثم استدعاه لينشده فقال :(عيون المها بين الرصافـة والجسـر... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري || خليلـي مـا أحلـى الهـوى وأمـره ... أعرفنـي بالحلـو منـه وبالمـرَّ) لفرط جمال بغداد وجمال جسورها.
العباسيون بناة الجسور فوق دجلة
يقال إن العباسيين هم أوّل من اهتموا ببناء الجسور على دجلة، وسبقهم البابليون في بنائها على الفرات في الضفة الغربية من وادي الرافدين التي يُطلق عليها المؤرخون (ميسوبوتامايا)، وهي بلاد ما بين النهرين.
رُسمت جسور العراق بدماء الشباب وكانت معبرا لآلاف الضحايا (اندبندنت عربية)
وخلال ألف عامٍ من تاريخ إنشاء عاصمتها (بغداد) مرّت مياهُ كثيرة من تحت جسورها، التي وصلت إلى 13 جسراً حديثاً، لكل جسرٍ قصة وحكاية وتاريخ.
الجسور في العراق ضرورة لا بدّ منها على طول مجرى النهرين دجلة والفرات، ولها نكهة وروايات في بغداد العباسية الهوى والتبغدد، فهي توصل كرخها برصافتها على مدار 50 كيلومتراً طولاً من جسر المثنى في الشمال إلى جسر بغداد بالجنوب.
13 جسراً تربط الكرخ بالرصافة
لبغداد تلك الجسور الـ13، وهي قصصٌ تؤرّخ للمدينة العاصمة التي اتّخذها أبو جعفر المنصور العباسيّ في القرن الثاني للهجرة عاصمةً للدولة العربية الإسلامية، وكانت مغامرة بناء الجسور هاجساً يؤرِّق كل خلفاء بني العباس، حين اهتموا بالري، وعملوا على صفّ القوارب، وربطها بالحبال ليعبر عليها الناس، وينتقلوا بماشيتهم ودوابهم بين الرصافة والكرخ.
وكانت الفيضانات المُتلاحقة التي تعرّضت إليها بغداد ومدن العراق الأخرى أكثر مهددات بقاء الجسور، والحاجة إلى تقنيات بنائها لتستمر المدن في ترابطها، ومن هنا اهتمت الحضارة العراقية بالري وبناء الجسور منذ الألف الثالث قبل الميلاد، أي منذ ستة آلاف عام، لكن العصر الحديث قبل مئتي عام زاد الاهتمام ببناء الجسور. فرض ذلك الحاجة العسكرية إلى مسار الجند، ونقل الجنود والسيطرة على الأمصار.
وكان للوالي المُصلح مدحت باشا أولى محاولات ذلك في العصر الحديث في بناء جسر من القوارب لعبور البشر والدواب، أمَّا أوّل جسر لعبور العربات فاُفتتح عام 1902 في بغداد زمن الوالي نامق باشا، ويرتكز على دعامات من القوارب الخشبية! لكن أحرقه الترك، وهم يحاولون منع تقدّم الجيش البريطاني الذي احتلّ بغداد عام 1917.
الاستعمار البريطاني... أوّل من حدّث الجسور
لكنْ، الإنجليز بزعامة الجنرال مود الذي قاد الحملة البريطانية العام 1914، بدأ تفكيك أحد الجسور قرب سلمان باك جنوبي بغداد حين وصلها بعد ثلاث سنوات، ومن ثمّ سحبه شمالاً، وأصبح الجسر صالحاً، لكنه لم يكن يفي بمتطلبات عبور القطعات العسكرية المستمرة بالتدفق على بغداد لإخراج الجيش العثماني منها، فاضطر إلى بناء جسر عائم آخر قرب الأعظمية.
كانت مغامرة بناء الجسور هاجساً يؤرِّق كل خلفاء بني العباس في العراق (اندبندنت عربية)
وصاحب ارتفاع منسوب نهر دجلة بعد نصب الجسر حدوث مشكلات يومية من اصطدامات وقطع الكابلات، وسبب ذلك غرق أحد المهندسين العسكريين، وفقدان بعض المدافع، لذلك جرى في 6 أبريل (نيسان) 1917 نصب جسر جديد بدلاً عنه، طوافاته أكثر متانة مصنوعة من الحديد، نُقِل إلى العراق من مدينة كوتا بالهند، لذلك أطلق عليه الإنجليز بعد نصبه اسم جسر "كوتا"، أو الجسر الشمالي، بينما كان يطلق البغادة عليه اسم "الجسر العتيق"، كما يروي أحد كبار المشتغلين بالري آنذاك.
الثابت، أن بناء الجسور العصرية في بغداد والعراق عموماً بدأ بعد مجيء الإنجليز الدهاة، الذين استقدموا معهم مهندسين أكفاء، في حملتهم على العراق، وبنو جسوراً كثيرة، أولها (جسر مود)، وهو جسرٌ عائمٌ على دجلة، وكان أهم وأول الجسور الحديدية العائمة التي أقامها الجيش الإنجليزي العام 1918 على القوارب العائمة، تخليداً لفاتح بغداد الجنرال مود الذي أشاع فكرة: (جئنا محررين لا فاتحين)، لكنهم ظلوا في العراق للفترة من (1914 - 1958). 44 عاماً يحكمون ويدعمون النظام الملكي الهاشمي، وعملوا مع ثلاثة ملوك أفذاذ، هم فيصل الأول، وغازي، وفيصل الثاني يرحمهم الله.
جسر مود... أعجوبة العراقيين
كان جسر مود أعجوبة العراقيين لجماله وأناقته، وهو يربط بين منطقة الصالحية بجانب الكرخ ومنطقة رأس القرية في الرصافة، في موقع جسر الأحرار الحالي، لكن طغيان فيضان دجلة، وعواصف بغداد اقتلعته حتى جرفه الفيضان. وكانت مشكلة الجسور العراقية آنذاك، أنها جسورٌ عائمة تشيد مباشرة على مياه الأنهر، التي تحرفها عندما تفيض ويطفو ماؤها.
وأصبحت الحاجة ماسة إلى تشييد جسر مكانه من ميزانية الدولة العراقية ونظامها الملكي الذي شرع ببناء جسر الملكة علياء، الذي غيَّر النظام الجمهوري اسمه إلى الأحرار الحالي!
ضرورات السياسة لبناء الجسور
وحين بدأت تتشكّل الدولة العراقية، وجرى إقرار الانتداب البريطاني للعراق، دعت الحاجة إلى السيطرة على العاصمة، وتواصلْ شطريها بكفاءة، وكان لضرورات ونقل الجند والقطعات بين شطريها، حاجة مُلحة لبناء الجسور والاهتمام بها، فقد بدأت الدولة الملكية ببناء الجسور بالتعاون مع المهندسين الإنجليز، وهم أساتذة بناء الجسور.
بناء أول جسر حديث في بغداد
وشهد العام 1939 بناء أول جسر حديث حسب المواصفات العالمية، سُمّي (جسر المأمون)، الذي أبدل بمسمى (جسر الشهداء) الحالي، وهو أول جسر حديدي ثابت حسب المواصفات العالمية في بناء الجسور، افتتحه الوصي على العرش الأمير عبد الإله، وقد تدفق الناس على الجسر الجديد وقتها، بصورة لا مثيل لها في التاريخ العراقي، ليشهدوا عصراً جديداً لمدينتهم، والمباركة بهذا الحدث، على حد وصف المستشار الخبير عدنان أحمد مظلوم. تلاه بناء جسر فيصل الأول (الأحرار) حالياً، ثم نقل جسر (مود) العائم من وسط بغداد إلى الكرادة، ليوفر مرونة لحركة الناس جنوبي بغداد، حتى أضحت العاصمة في بحبوحة في عدد الجسور بعد العهد العثماني المُقتصد في الإنفاق على مثل هذه المشروعات، بالقياس إلى عدد السكان الآخذ بالنمو تدريجياً، فصار لها ثلاثة جسور عائمة، وجسران ثابتان حصيلة الانتداب البريطاني.
حقبة الخمسينيات... عهد بناء الجسور العراقية
وشهدت خمسينيات القرن الماضي افتتاح عدة جسور من موارد الميزانية العراقية الحكومية، وأهمها جسر الصرافية الحديدي، الذي نصبت عليه سكة حديدية، وذلك في أواخر العهد الملكي العام 1957، ليكون أول جسر عراقي مشترك للسيارات والقطارات المشاة، الذي تعرّض فيما بعد إلى تفجيرٍ مجهولٍ أسقط قطعاً منه في النهر بعيد الاحتلال، وأعيد بجهود المهندسين العراقيين فوراً.
بناء الجسور العصرية في بغداد والعراق بدأ بعد مجيء الإنجليز الذين استقدموا مهندسين أكفاء (اندبندنت عربية)
تلاه افتتاح جسر الملكة عالية (جسر الجمهورية) الحالي، وهو أهم جسور بغداد يربط جانبي الكرخ بالرصافة من قلب بغداد قبالة ساحة التحرير في الرصافة والمنطقة الخضراء في جانب الكرخ، ثم (جسر الأئمة) الذي يربط منطقتي الأعظمية جهة الرصافة بالكاظمية جهة الكرخ، ثم نُقِل جسر الأعظمية العائم إلى بلدة النعمانية جنوبي بغداد.
جسور العهد الجمهوري
وكانت حقبة الستينيات وما تلاها انقلاباً في حياة العاصمة، بعد زيادة موارد الدولة من عائدات النفط، فاهتمت بإعادة مجسرات بغداد وجسورها الثابتة، فقد شهد مطلع الستينيات الشروع ببناء أعظم الجسور العراقية، وهو (جسر 14 تموز) المعلق، الذي صممه المهندس الألماني الشهير (شتاينمن)، ونفّذته شركة ألمانية بالاشتراك مع شركة نمساوية بأمر من الزعيم عبد الكريم قاسم، وهو جزءٌ من تنفيذ مشروعات مجلس الإعمار العراقي، الذي أقرّه في العهد الملكي، وهو أوّل الجسور المُعلقة في منطقة الشرق الأوسط.
شيّد على نظام السحب من الأعلى، لا الدعامات الأرضية، واستغرق تشييده أربع سنوات ليؤمّن الربط بين الرصافة من جهة الكرادة الشرقية، والكرخ جهة القصر الجمهوري، التي أطلق عليها المنطقة الخضراء الحالية بطول 168 متراً، وعرض 83 متراً.
ويعد هذا الجسر بنظر العراقيين عروس الجسور وأجملها، وافتتحه العهد الجمهوري العام 1964، وأسقطه طيران التحالف في حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) في فبراير (شباط) من العام 1991، ثم أصرّ النظام العراقي على إعادته إلى الخدمة في العام 1996 خلال فترة الحصار الاقتصادي والسياسي على العراق بتقنية محلية وجهود مضنية، وبناء جسر آخر قبالته بطابقين، أنجز بفترة قياسية نهاية التسعينيات.
وللجسر المعلق حكاية طويلة، لا سيما بعد غلقه على المارة أكثر من 15 عاماً، بحجة وجود أكبر سفارة أميركية بالمنطقة، ومبانٍ حكومية شغلها النظام الجديد الذي جاء بعيد الاحتلال 2003، لتأمين حمايتها.
توقف بناء الجسور العراقية
شهدت الفترة من 1964 - 1977، أي مدة 13 سنة، توقّف غير مسّوغ في بناء الجسور بالعراق، ويعلق الباحث عدنان أحمد مظلوم من اتحاد المقاولين العراقيين، بأن "ما إن بلغ عدد الجسور ستة، سرت أسطورة وهي خرافة (السبعة جسور) بسبب طول مدة التوقف عن تنفيذ جسور جديدة، التي تحذر من فيضانات عارمة في بغداد حين ينصب الجسر السابع".
شهد العام 1939 بناء أول جسر حديث حسب المواصفات العالمية وسُمّي جسر المأمون (اندبندنت عربية)
في عام 1977 افتتح الجسر السابع، وهو جسر باب المعظم (سُمّي جسر 17 تموز) نفّذته الشركة العامة للمقاولات الإنشائية العراقية بالاشتراك مع شركة يابانية، ثم شهد عام 1979 افتتاح الجسر الثامن، وهو جسر شمالي بغداد المُسمى حالياً (جسر المثنى).
جسور عهد صدام
اللافت أن من بين الـ13 جسراً فوق دجلة على طول بغداد، تمكّن النظام السابق من بناء ثمانية منها، وهي على التوالي: (المثنى) جهة التاجي، و(الأئمة) بين الكاظمية والأعظمية، و(السابع عشر من تموز) المُعلق الذي يربط ببن كورنيش الأعظمية في الرصافة، و(علي الصالح) في الكرخ، و(باب المعظم) قرب مدينة الطلب قبالة شارع حيفا، و(السنك) في قلب شارع الرشيد مع حي الصالحية، و(ذو الطابقين) بين الكرادة والسيدية، و(بغداد) في الجادرية والسيدية، إضافة إلى أكبر مجسر دائري يربط بغداد جنوبي بغداد بشمالها، وهو جسر (محمد القاسم السريع)، الذي يبلغ نحو 40 كيلومتراً.
توقف بناء الجسور بعد 2003
ويؤخذ على النظام الذي جاء بعد حقبة الاحتلال 2003 خلال الـ17 سنة التي خلت عجزه عن بناء أي جسر يذكر في بغداد، رغم الميزانيات الانفجارية نتيجة زيادة تصدير النفط التي بلغت أكثر من أربعة ملايين برميل يومياً بزيادة أسعار لافتة، يرافقها رفع الحصار الاقتصادي عن العراق ودعم ورعاية غربية غير مسبوقة، ومساعدات بلغت تريليونات، قدّمتها الولايات المتحدة والدول المانحة، وفق تصريحات المسؤولين العراقيين والأميركيين والاتحاد الأوروبي، تُمكِّن من بناء مجسرات وجسور جديدة تواكب النمو السكاني كما فعلت حكومة إقليم كردستان في أربيل، التي وظّفت حصتها من الميزانيات لبناء نهضة في هذا القطاع وسواه.
غلق الجسور... سياسة حكومية احترازية
في أثناء اندلاع التظاهرات في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، التي يكفلها الدستور سعى الشباب المحتج لإيصال أصواتهم إلى الرئاسات الثلاث بالمنطقة الخضراء في جانب الكرخ، حيث مقرات البرلمان والحكومة ورئاسة الوزراء.
منذ عام 2003 لم يشهد العراق بناء جسور جديدة (اندبندنت عربية)
وكان عليهم أن يعبروا ساحة التحرير في جانب الرصافة من خلال جسر الجمهورية، فأطلق القناصون ومكافحة الشغب النار عليهم، وقتلوهم فوق الجسر، ما جعلهم يلتفون على ثلاثة محاور عبر جسري السنك عند منطقة حافظ القاضي في شارع الرشيد، ومن جسر الأحرار، ومن ثمّ الشهداء ليجدوا أن السلطة جنّدت آلافاً من قواتها، وأصدرت أوامر قتل لكل من يسعى لعبور تلك الجسور، وأغلقتها بإحكام وبالمدرعات، وتسبب ذلك في قتل وجرح الآلاف من الشباب العراقي المُحتج الذي سقط فوق الجسور الموصلة بين رصافة بغداد وكرخها.
تاريخ عراقي جديد فوق الجسور
تاريخ عراقي جديد في مقاومة سلطة الميليشيات يعلنه الشعب العراقي المُحتج فوق الجسور، التي تحوّلت إلى هدف في أنظار وضمائر الشعب الذي يطالب بمحاكمتهم وإلغاء وجودهم من الحكم، وإسقاط حكومتهم التي تحمّل وزرها عهد عادل عبد المهدي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت الجسور معابر لآلاف الضحايا، رُسمت بدماء شباب العراق الذي ما زال يهتف فوق جسر الجمهورية المُغلق منذ أكثر من أربعة أشهر، وتزداد أعداد المتوثبين لعبوره، والحصيلة اضطرت السلطة إلى إعادة غلق الجسور الرئيسة حول المنطقة الخضراء، وأول ضحاياها جسرا المعلق والجمهورية، ليستمر مشهد كتابة التاريخ العراقي فوق جسوره، ولتضيع قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد، وتتوارى بعوازل المنع، التي كتبها فوق المعلق في أثناء افتتاحه بُعيد إعادته إلى الخدمة :(كلـنا نقـول: عـلى المعلـق نلـتقي قـَدَرٌ على أهلِ الـهـوى أن يلــتقوا ... وعـــلى رصـيفيـك الـلـذين تـشـبعا بالـــــذكرياتِ، عـــــهودُنا تتـوثــــــق).
هكذا قدر الشعب العراقي الذي رسم حكاية لا تنتهي في أثناء دوران دجلة وجسورها الـ13، في مشهد تراه مرصعاً باللون الأخضر، وأنت تحدّق من طائرة أو علو يحتشد المكان بذكريات لا تتوقف يجعل البغداديين يحنون إلى أيام هربت من بين أيديهم نتيجة الحروب والخسارات المتلاحقة، التي سجّلت جسور بغداد أهم صفحاتها.