مقتل 8 عراقيين في مواجهات بالنجف بين أنصار الصدر ومحتجين
قُتل 8 عراقيين وجُرح العشرات، ليل الأربعاء - الخميس 5 - 6 فبراير (شباط) الحالي، في مدينة النجف بجنوب العراق، بعد اجتياح أصحاب "القبعات الزرق"، أنصار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، مخيماً للمحتجين بحجة انتهاك مكانة المدينة.
تخبط وإرباك
وكان الوضع مربكاً بالنسبة لأنصار الصدر، إذ بعد الانسحاب ورفعهم الخيم. عادوا مجدداً إلى التظاهرات. ثم تغريدات من حساب غير موثوق. هذا التخبط أربك الوضع داخل ساحات الاعتصام، خصوصاً في بغداد. القصة بدأت في أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم عندما وجه مقتدى الصدر اتباعه لدعم موجة الاحتجاجات التي شهدها العراق والمطالبة بتغيير الطبقة السياسية، ولكن في 25 يناير (كانون الثاني) الفائت طلب الصدر من مناصريه رفع خيمهم من ساحة الاعتصام في مشهد أثار استغراب المحتجين، معاتباً في تغريدة له على منصة تويتر بعض متظاهري ساحة التحرير ممن شككوا به قائلا "إنني لأبدي أسفي وعتبي على من شكك بي من متظاهري ساحة التحرير وباقي المحافظات ممن كنت سنداً لهم بعد الله وكنت أظنهم سنداً لي وللعراق".
موقف الصدر تغيَّر بعد أسبوع من هذه التغريدة ليعود أيضا ويطالب أنصاره بالعودة الى ساحات الاعتصام موضحاً عبر تويتر سعيه الى أعادة السلمية للثورة "حسب توجيهات المرجعية ووفقا للقواعد السماوية والعقلية لا بد من إرجاع الثورة الى انضباطها وسلميتها". وفي التغريدة ذاتها دعا أتباعه من أصحاب "القبعات الزرقاء" الى التنسيق مع القوات الامنية من أجل اعادة الدوام الرسمي في المدارس، وفتح الطرق المغلقة داعياً القوات الامنية الى منع كل من يقطع الطرقات، ومطالباً وزارة التربية بمعاقبة كل من يعرقل الدوام من أساتذة وطلاب.
عودة أتباع الصدر خلَّفت وراءها تناقضات عدة، فبعد أن تقاسم أتباع التيار الصدري مع المحتجين منذ بدء مظاهرات أكتوبر تحديات الاعتقال والقتل على يد القوات الحكومية والميليشيات، أنقلب المشهد الآن ليتحول الى حالة عداء واتهامات ومواجهات بين أتباع التيار الصدري من جهة، والمحتجين في ساحات الاعتصام من جهة اخرى.
يرى المحتجون ان الصدر يسعى وعبر أصحاب "القبعات الزرقاء" الى تحجيم الأصوات الرافضة لتكليف محمد توفيق علاوي (وزير الاتصالات السابق) كرئيس للوزراء خلفاً لعادل عبد المهدي. رغم عدم الترحيب به من قبل ساحات المظاهرات والمطالبة برئيس حكومة غير حزبي ولم يشارك في العملية السياسية.
"القبعات الزرقاء"
عناصر من "القبعات الزرقاء" أوضحوا في حديث لـ"اندبندنت عربية" أن أصحاب التيار الصدري يسعون الى إعادة الوجه السلمي للمظاهرات، بعد أن طالها الكثير من التشويه والممارسات (اللاأخلاقية) بحسب آرائهم، إذ أشاروا الى جماعات وصفوها (بالمندسين) يعرقلون الوصول الى اي اتفاق حول الشخصيات المرشحة لرئاسة الوزراء، مشيرين ان الساحة تضم 336 خيمة، 285 منها اتفقت على ترشيح أربعة اسماء لرئاسة الوزراء، لكن هناك عناصر تصر على عرقلة الوصول لأي توافق حول الشخصية المرشحة، ويميلون الى التصعيد الترهيبي ما يؤدي الى إبقاء الأوضاع مضطربة.
"القبعات الزرقاء" أشاروا أنهم يشتركون مع المحتجين في التضحيات منذ بدأ حركة الاحتجاج، إذ قدموا بحسب تعبيرهم "300 شهيد من مدينة الصدر، و4 شهداء من "القبعات الزرقاء"، موضحين وقوفهم مع المتظاهرين وليس ضدهم، في اشارة الى الانتقادات التي طالتهم وأتهموا فيها بأثارة الرعب داخل الساحات وضربهم للمتظاهرين بالعصي. وعن الانتقادات التي وجهت إليهم، والمتعلقة بالهيمنة على أماكن اعتبرت رمزية عند للحراك الشعبي كالمطعم التركي أو ما يطلق عليه (جبل أحد)، وعدم السماح للآخرين بالتواجد فيها، يقول "القبعات الزرقاء" إن المطعم التركي سيعاد افتتاحه، وسيكون متاحاً لأي شخص بعد خضوعه للتفتيش وعدم حمله أي أداة جارحة.
بعض الأفراد الذين رفضوا الإفصاح عن أسمائهم يضيفون أن التركيز على المطالب التي خرجت من اجلها مدن العراق هو الاهم في الوقت الحرج الحالي، مؤكدين ضرورة عودة الحياة وعدم قطع الطرق مع استمرار زخم المظاهرات وأعطاء فرصة للحكومة للعمل ومراقبة عمل رئيس الوزراء المكلف وجديته في تحقيق الأهداف التي أعلنها.
إرهاب
رغم تأكيدات مقتدى الصدر برفضه الاعتداء على المتظاهرين وسعيه الى حماية الثورة وإبعاد القناصة والمندسين عنها، إلا ان كثراً شككوا بهذه التصريحات بعد اعتداء جماعته في بابل والنجف وبغداد على المتظاهرين، ووصل الأمر في بعض المحافظات الى استخدام الرصاص الحي. ففي توتير على وسم #ارهاب_القبعات_الزرقاء تنتشر فيديوهات لناشطين توثق حالات الاعتداء التي طالت المحتجين في ساحات الاعتصام، بل إن ساحات الاعتصام شهدت انتقادات علنية للصدر، وصلت الى حد الهتاف (شلع قلع والكالها وياهم) (أي معهم) في إشارة الى عبارة مقتدى الصدر التي أطلقها في مظاهرات 2016.
حماية الثوار
وكان الصدر قد أشار في تغريدة له أن واجب أفراد "لقبعات الزرقاء" تمكين القوات الأمنية من بسط الأمن وحماية الثوار، موضحا "ليس من واجبها الدفاع عني وقمع الأصوات التي تهتف ضدي". وفي هذا اعتراف ضمني بأن هذه العناصر مارست أعمالاً قمعية.
"المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب" أوضح لـ"اندبندنت عربية" أنه وثَّق حالات الاعتداءات التي مارسها أصحاب "القبعات الزرقاء" ضد المتظاهرين في بغداد والمحافظات، وتنوعت بين خطف واغتيال واعتقال تعسفي وترويع المدنيين ومصادرة هواتفهم وضرب بالسكاكين والهراوات. كما اختطف الناشط كرار عبد الحسين بعد تصويره مشاهد من محاولة اقتحام (جبل أحد) وتم تعذيبه وتكسير يديه ومصادرة هاتفه، قبل أن يتركوه في إحدى الساحات. المركز أوضح أيضاً بأن هناك معلومات من الناشطين في ساحة التحرير أن جماعة مقتدى الصدر اتخذت من "كراج" الأمانة القريب من ساحة التحرير، مقرا للاعتقال والتعذيب بحق الناشطين والمدنيين. كما تم توثيق حالة اعتداء على الإعلامية شهد خليل في ساحة التحرير صباح يوم الثلاثاء 4 فبراير (شباط) الحالي أثناء مشاركتها في التظاهرات الطلابية.
"المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب" كشف أيضاً أن تدخل مدير شرطة بابل أسهم في منع اتساع الانتهاكات بعد قتل متظاهر بالسكاكين وإصابة آخرين بجروح أخرى. مدير شرطة بابل وفي بيان له منع "القبعات الزرقاء" من الدخول الى ميدان التظاهرات، وتساءل عن الصفة القانونية والأمنية لكي توكل إليهم حماية الساحات، موضحاً ان القوات الحكومية حالياً ليس لها دور حقيقي في أمن الساحات، بل أن "القبعات الزرقاء" في الوقت الحالي هم من بيدهم قرار التفتيش، وغالبا ما يقومون بتوجيه الالفاظ النابية والخطف أو الضرب ب حسب رغبتهم. وهم يتواصلون مع أصحابهم داخل الساحة عن طريق الاجهزة اللاسلكية حيث يتواجدون أيضاً داخل الساحة ويقررون ضرب أو طرد من يريدون من المتظاهرين.
ساحة التحرير المخطوفة
يرى المتظاهر سلام الحسيني أن التيار الصدري كان جزءاً من "انتفاضة تشرين" بهوية وطنية نظيفة، بيد أن حالة الإنسحاب والرجوع لم تكن خالية من دوافع سياسية لها أسباب عقائدية مشتركة. "فمهما كان الصدر مختلفاً مع القوى الشيعية التي تسيطر على السلطة إلا أنه سيلتقي معهم عند الثوابت العقائدية وهذا كان طوق النجاة الذي رماه الصدر لهم ببسط سيطرته على الساحات وتكفل بالنيابة عن المتهم، أي الطرف الثالث حليف إيران، بأخذ دور المواجهة".
الحسيني أوضح أن "ساحة التحرير مختطفة تماماً من قبل أنصار الصدر وغدت بلون واحد بينما بدأت فعاليات التيار المدني بالإختفاء تدريجياً خوفاً ومنعاً لاحتمال الإحتكاك والصدام".
الحسيني يضيف وتعليقاً على رغبة أنصار الصدر بإخلاء الساحات من المندسين "كلمة المندس هي مفهوم ضبابي الى الآن، وهو شماعة لمن يريد تحقيق المكاسب السياسية لترسيخ وجوده في الساحات بعدما شكلت نقطة تحول كبرى في الوعي الشبابي الذي تأطر لتحطيم الرمزيات التقليدية وهي بحد ذاتها صدمة للقوى السياسية الشيعية فلم يكن هناك من نوافذ بعد فشل المحاولات التقليدية السابقة من قبيل ركوب موجات الإحتجاج إلا هذا المفهوم لتدجين الرأي العام وتأليبه ضد التظاهرات بدواع مختلفة أخذت تعمل على شيطنة الإنتفاضة منها الدين وهاجس إنهياره وأخرى الخوف وكابوس الفوضى والاقتتال الداخلي".
الدور الجديد
الصحفي والنشاط الحقوقي علي المكدام يقول " إن الصدر ومنذ انطلاق "انتفاضة تشرين" حاول اكثر من مرة ان يكون وسيطاً او ممثلاً او قائداً للاحتجاجات ولم يفلح كون الشباب وصلوا إلى مرحلة عالية من الوعي ورفضوا وجود قيادات او لجان تنسيقية وما شابه من أخطاء 2015. فتشكلت مجموعة "القبعات الزرقاء" وهي الفصيل المدني غير عسكري التابع لسرايا السلام"، المكدام أشار انه منذ شهر أو أكثر كان واجبهم هو حماية الاحتجاجات "ولم تكن اي مشاكل معهم وكان وجودهم مكملاً لدور القوات الأمنية وكان دورهم إيجابياً لكن تغيَّر دورهم مؤخراً وتحديداً مع توقيت تكليف رئيس الوزراء واقتحام المطعم التركي بالقوة والسيطرة على المنصة الرئيسة لإعلان البيانات، بعد رفض ساحة التحرير لعلاوي واي مرشح حزبي او مرشح مصالح وتوافق سياسي جدلي بعيد عن خطب المرجع الأعلى وصوت الشعب".
وكانت ساحة التحرير قد اعلنت في بيان لها عن رفضها سلوك "القبعات الزرقاء" التي وصفوها بغير المنضبطة بعد الاعتداءات على الطلاب بالعصي والهراوات، البيان أشار أيضاً الى رفض المنتفضين جرهم للعنف والصدام مع أبناء الشعب الواحد، مؤكدين على استمرار سلمية المظاهرات، وفي الوقت ذاته طالبوا القوات الامنية بأخذ دورها ومسؤوليتها بحماية ساحة التحرير فلا يحق لأي طرف سياسي او فصيل مسلح فرض سطوته عليها.
مواقف الصدر وتناقضاتها
الدكتور عباس كاظم مدير برنامج العراق في المجلس الأطلسي قال لـ"اندبندنت عربية" إن المتظاهرين لا يوافقون مقتدى الصدر الذي يريد أن يعطي فرصة للحكومة الجديدة التي كُلّف محمد توفيق علاوي بتشكيلها، مع إبقاء التظاهر السلمي في مواقع محددة لا تعطل هذه المؤسسات.
كاظم يوضح أن مواقف الصدر لا يمكن وصفها بالمتناقضة، بل ربما كان الأصح اعتبار هذه المواقف "مختلفة مع اختلاف تطور الأحداث في الساحة العراقية"، معتبراً "أن المسألة ليست مشكلة ثوابت ومتغيرات، بل مسألة اجتهادات تتعلق بنظرة زعيم الحركة الصدرية إلى المتغيرات على الساحة العراقية واتخاذ ما يراه الأنسب في كل ظرف. وهو في ذلك له مؤيدوه ومخالفوه".
في حين يرى الكاتب والمحلل السياسي جاسم الشمري "أن مواقف الصدر ليست بالغريبة أذ عُرف عنه هذا التضارب في المواقف والجمع بين الشيء ونقيضه"، موضحا انه "لن يكسب هذه المرة نظراً الى وعي الشباب في هذه المرحلة" لكن في الوقت ذاته أبدى الشمري مخاوفه "في حالة عدم لجم "القبعات الزرقاء" من الممكن أن يؤدي الصدام معهم الى حرب أهلية، لاسيما في مدن الجنوب فنكون أمام حرب شيعية - شيعية تصل بالعراق الى نهاية مأسوية".
في حين أشار علي المكدام أن كل ما حدث في الأسبوع الماضي يشير الى تخبط واضح من رجل الدين والسياسي مقتدى الصدر، "فتارة يقول انه لن يتدخل في الاحتجاجات وتارة اخرى يعطي نصائح ويقول الثورة في انحراف، وطوراً يسحب جمهوره ويبارك لعلاوي ويقول انه مرشح الشعب رغم رفض الشعب له"، ويرى المكدام أن للصدر "أربع فئات من التابعين: الفئة الأولى من المخلصين له إخلاصاً كاملاً، والثانية من المستفيدين من اسمه ونفوذه، والثالثة من المعتقدين بوطنيته وشعاراته، والرابعة من المتعاطفين معه نظراً لبعض مواقفه الايجابية السابقة". يكمل المكدام أن الصدر خسر الفئتين الثالثة والرابعة والبعض من الأولى، "بدليل عندما استاء الصدر وأعلن عدم تدخله في المظاهرات كان يعتقد ان الثورة ستنتهي وينتهي كل شيء مع انسحابه، لكن المفاجأة كانت ازدياداً واضحاً في الخيم وتوافد جماهير هائلة الى الساحة بدلاً من التي انسحبت". وينهي المكدام بأن "هذا الموقف كان رد مؤلماً جداً للصدر ولربما شعر بالندم وبعدها بدأ بالتخبط السياسي الواضح في تغريداته".
يرتدي جنود الأمم المتحدة للسلام "القبعات الزرقاء" في البلدان التي تقع تحت وطأة الحروب بينما في العراق يبقى اللون الأزرق تعبيراً عن مشهد سياسي متناقض، فهو لون السلام ولكن يحمل في يده العصي والهروات ليكون وسيلة للقمع.