سنجار "تحتضن" رفات أبنائها بعد تشييعهم في بغداد
"سنجار هي جنة الله على الأرض"، بهذه الكلمات التي تداولها أحد شيوخ المدنية، يُعرّف الأيزيديون عن مدينتهم، التي تأسست كقضاء تابع لمحافظة نينوى عام 1982.
واكتُشفت في المدينة مقابر جماعية تضم رفات عددٍ كبيرٍ من الأيزيديين الذين قُتلوا على يد "داعش". وبدأت السلطات بفتح هذه المقابر وإجراء فحوص الحمض النووي على المكتَشَفين في مارس (آذار) 2019، فيما أعلنت اللائحة الأولية لأسماء الضحايا في 28 فبراير (شباط) الماضي، على أن يُشيّعوا في بغداد يوم 12 مارس (آذار) الحالي، قبل عودتهم إلى سنجار يوم 14 من الشهر ذاته.
إرث تاريخي
تزخر سنجار بمواقع تاريخية عدّة تعود إلى العصور الحجرية القديمة وعصور أخرى أرّخت للمراحل التي عاشتها المدينة، فهناك التل الأثري المعروف بالتل الأسود الذي يعود إلى فجر السلالات أي 3000 سنة قبل الميلاد، وهناك السور الروماني الذي بناه الرومان بعد استحواذهم العسكري على المدنية الذي استمر نحو 170 عاماً.
غالبية أبناء المدينة هم من الديانة الأيزيدية، وهي من أقدم الديانات التوحيدية، وحافظ أبناء هذه الديانة على عاداتهم وتقالديهم على مرّ العصور.
تعرضت المدينة عبر التاريخ إلى 72 حملة إبادة جماعية، فقد انتهج النظام السابق سياسة التعريب والتهجير القسري كمحاولة منه لتغيير جغرافية المدينة وهويتها الدينية.
وبعد عام 2003، لم تسلم المدينة من الهجمات بالسيارات المفخخة. ففي 14 أغسطس (آب) 2007، تعرضت منطقتا تل عزيز وسيبا شيخدري، إلى سلسلة انفجارات انتحارية، إذ قاد ثلاثة انتحاريين شاحنات وقود وفجروا أنفسهم في مجمعات سكنية، ما أدى إلى تدمير معظم البيوت وأسفر عن وقوع أكثر من ألف شخص بين قتيل وجريح.
وبعد هذه الهجمات، أكمل تنظيم "داعش" وتحديداً عام 2014 سلسلة الإبادة الجماعية ضد الأيزيديين ليحوّل مدينة سنجار، إحدى أقدم المدن العريقة في التاريخ إلى مدينة مقابر جماعية، تضمّ رفات أبنائها ويمارس على مَن تبقّى منهم السبي والتعذيب.
مرشد المقابر
83 مقبرة جماعية والعشرات من المقابر الفردية هي حصيلة دخول "داعش" إلى مدينة سنجار، تعود جميعها إلى الأيزيديين الذين قتلهم التنظيم في أغسطس (آب) 2014.
في سياق متصل، يوضح مدير فرع سنجار في المنظمة الأيزيدية للتوثيق خيري علي إبراهيم لـ"اندبندنت عربية" أنه تم التعرف على رفات 62 شخصاً من بين 346 رفاتاً، انتُشلت من 17 مقبرة جماعية، 16 منها في قرية "كوجو" ومقبرة واحدة في قرية الصباحية.
ويشير إلى أنّ عدداً من الرفات التي تم التعرف إليها في قرية "كوجو"، تتراوح أعمار أصحابها بين 12 و86 سنة جميعهم من الرجال، وتحدّدت أسباب الوفاة بحسب المختصين وممَّن أشرفوا على فتح هذه المقابر، بتعرّض هؤلاء لطلقات نارية في جميع أنحاء الجسم، بخاصة الرأس والصدر.
ويقول إبراهيم إن هذه المقابر اكتُشفت بطرق مختلفة منها المسح الميداني، أو عن طريق الناجين بأعجوبة، فيما دلّت على بعضها، ناجيات أيزيديات كنّ برفقة أهاليهن، عندما قتلهم تنظيم "داعش" جماعياً. كما تسهّل طبيعة المنطقة نوعاً ما العثور على أي مقابر جماعية أو ما يدّل على حدوث إبادة جماعية.
أركان جريمة الإبادة الجماعية
في هذا الإطار، يوضح مدير فرع سنجار في المنظمة الأيزيدية للتوثيق أنّ أبناء المجتمع الأيزيدي، متفقون على ضرورة التعامل مع هذه المقابر كونها ركن من أركان جريمة الإبادة الجماعية التي حصلت ضدّهم، حتى وصل الأمر إلى تطوّع أهالي المنطقة بالتعاون مع الجهات الحكومية لحماية هذه المقابر، كي لا يتم العبث فيها.
كنت أتشبث بالأمل لرؤية أهلي مجدداً
"اكتشاف مقبرة أهلي كان عن طريق راعي أغنام يتجول في تلك المنطقة"، بحسب سمير فارس الذي فقد والده وشقيقه.
ويضيف في حديث لـ"اندبندنت عربية"، "كان لدي أمل في رؤيتهما مرة ثانية وهما أحياء، لكن للأسف سأودعهما إلى مثواهما الأخير".
ينتظر فارس نتيجة تحليل الحمض النووي DNA في الطب العدلي للتأكد بشكل نهائي من وجود والده وشقيقه في المقبرة على الرغم من العثور على مقتنيات أخيه داخلها.
أما الناشط الأيزيدي عيسى سعدو، فما أن تكشف معه الغطاء عن بئر الذكريات التي يحملها، تظهر قصص نجاته بأعجوبة من "داعش" وذكريات الجبل الذي كان رحيماً معه وحماه هو وعائلته.
يقول سعدو إن "الدقائق القليلة هي التي أنقذتنا من داعش. كنتُ في السيارة، ووصلتُ إلى منطقة كابارا جنوب سنجار، دقائق ووصل عناصر التنظيم إلى المنطقة التي كنّا فيها. ترجّلنا من السيارة واستطعنا عبور التلال بين قرية كابارا وعمق الجبل. كل من لم يتمكن من العبور أُسِر وقُتِل مباشرة".
ويضيف أن هناك مقابر في مجمع كرزرك، جنوب مدينة سنجار ومقابر أخرى على الساتر العسكري، تضمّ رفات أربعة من أقاربه وهي مقابر لم يتم البحث عنها حتى الآن، كما توجد مقابر أخرى على الشارع العام بين ناحية القحطانية وسنجار، تضمّ رفات المدنيين الذي كانوا يفرّون من داعش ورُميوا بالأحاديات.
التعرف على هوية الضحايا يصطدم بعقبات
في المقابل، يوضح مدير عام دائرة الطب العدلي زيد علي عباس، في مؤتمر تابعته "اندبندنت عربية"، أن تحديد هوية الضحايا سبقته مراحل معقدة تضمنت حملات جمع عينات الدم، وإنشاء قاعدة بيانات خاصة بالمفقودين وذويهم، فضلاً عن الجولات التثقيفية والتوعوية واللقاءات الميدانية المتواصلة مع عوائل الضحايا بهدف تحديد هوية القتلى.
ويرى عباس أن هناك مشاكل واجهت الفريق الوطني المختص بالكشف عن هوية الضحايا، تتمثل بقلة المتبرعين من ذوي الضحايا لتحليل فحص الحمض النووي بسبب الإباده الشاملة التي اتّبعها تنظيم "داعش"، فعدد كبير من العوائل أُبيدت بالكامل، فضلاً عن هجرة معظم من بقي حيّاً، ما أعاق الجهود للتعرف على هوية كل الضحايا وإعلان أسمائهم.
ومع إعلان أسماء الضحايا الذي ضمّتهم المقابر الجماعية، تصحو داخل من تبقّى من ذويهم لوعة الذكريات ويسدلُ الستار عن أمل عاش في نفوسهم لإيجادهم أحياء.